الحياة على طريقة هدى شعراوى

محمد حمدي أبو السعود
احتفلت ناشطات العمل النسوى بعيد ميلاد هدى شعراوي، رائدة تحرير المرأة، التى امتد عملها إلى فرنسا وإيطاليا وتركيا، وقابلت مؤسس الفاشية موسوليني، وزعيم العلمانية فى الشرق الأوسط أتاتورك، وحولت اسمها إلى تميمة لكل أنثى تضع قدميها على طريق العمل خارج المنزل، فضلا عن كونها أول من ناضل من أجل تحقيق الحد الأدنى من الحقوق الآدمية، التى تتمتع بها النساء فى مصر الآن، ولا سيما داخل منظومة الزواج، بتقييد صلاحية الطلاق التى يمتلكها الرجل عادة، كما أن واقعة خلع البرقع على أعتاب ميدان الإسماعيلية «التحرير حاليا»، أصبحت ذكرى تخلدها.
نور الهدى محمد سلطان، الشهيرة بـ«هدى شعراوي» ولدت فى مدينة المنيا فى صعيد مصر فى 23 يونيو 1879، كانت من أبرز الناشطات المصريات فى النشاط النسوى فى نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. تلقت التعليم فى منزل أهلها، حفظت القرآن الكريم فى سن التاسعة، وتعلمت الفرنسية والتركية، وكانت تهوى القراءة، وتزوجت فى سن الثالثة عشرة بابن عمتها «على الشعراوي» الذى يكبرها بنحو 40 عاما، وغيرت لقبها بعد الزواج من هدى سلطان إلى هدى «شعراوي» تقليدا للغرب، وكان أحد شروط عقد زواجها أن يطلق زوجها زوجته الأولي، وفى السنوات اللاحقة أنجبت هدى بنتا أسمتها بثينة وابنا أسمته محمد.
فى 12 ديسمبر 1947، توفيت بالسكتة القلبية وهى جالسة تكتب بياناً فى فراش مرضها، تطالب فيه الدول العربية بأن تقف صفاً واحداً فى قضية فلسطين.
حازت فى حياتها عدة أوسمة ونياشين من الدولة فى العهد الملكى وأطلق اسمها على عديد من المؤسسات والمدارس والشوارع فى مختلف مدن مصر فى حينها.
وكأغلب النساء اللاتى تبنين تحرير المرأة، كنَّ فى الواقع شخصيات مأزومة، عاشت ظروفا اجتماعية قاسية، فمن خلال مذكراتها تسرد هدى شعراوى المتغيرات والمواقف، أو بالأحرى الصدمات، التى كانت بمثابة نقاط تحول فى شخصيتها وتفكيرها وحياتها. ومنها تفضيل أخيها الصغير «خطاب» عليها فى المعاملة، على الرغم من أنها تكبره بعشرة أعوام،.
ويعد مرضها بالحمي، من أبرز المواقف التى أثرت فيها بشكل سلبي، خاصة أن الاهتمام بأخيها من جانب والدتها، التى كانت لا تغادر الفراش، أول الصدمات التى جعلت هدى تكره أنوثتها.
إذ تقول إن الزواج حرمها من ممارسة هواياتها المحببة كعزف البيانو وزرع الأشجار، وقيد حريتها بشكل غير مبرر، ما أصابها بالاكتئاب لفترة استدعت فيها سفرها إلى أوروبا للاستشفاء، وهناك تعرفت على قيادات فرنسية نسوية لتحرير المرأة، فتشجعت على أن تحذو حذوهن.
وعن أزمات زواجها كتبت فى مذكراتها: «لا أستطيع تدخين سيجارة لتهدئة أعصابى حتى لا يتسلل دخانها إلى حيث يجلس الرجال، فيعرفوا أنه دخان سيجارة السيدة حرمه.. إلى هذا الحد كانت التقاليد تحكم بالسجن على المرأة، وكنت لا أحتمل هذا العذاب ولا أطيقه».
وتتوقف شعراوى فى المذكرات عند حدث تاريخى فى حياة مصر هو تأسيس الجامعة المصرية فى عام 1908، الحدث الذى شكل بداية نهضة علمية وأدبية وثقافية عامة، أسهمت فى تحويل مصر إلى مركز متقدم فى العالم العربى فى هذه الميادين جميعها، إذ سافرت هدى شعراوي، فى العام الذى تلا تأسيس الجامعة، مع عائلتها إلى أوروبا، حيث ساحت فى بلدان القارة وتعرفت إلى معالمها، وإلى حضاراتها وثقافاتها.
من أهم ما كان يحصل فى تلك الحقبة من تاريخ مصر، هو تعاظم النضال من أجل الاستقلال، هذا النضال الذى سرعان ما تحول إلى ثورة فى عام 1919، كان يقودها سعد زغلول، ففى 16 مارس سنة 1919 بدأ كفاح هدى شعراوى السياسى عندما خرجت على رأس مظاهرة نسائية من 300 سيدة مصرية للمناداة بالإفراج عن سعد زغلول ورفاقه، وخرجت لتواجه فوهة بندقية جندى بريطاني، وشهد هذا اليوم التاريخى استشهاد أول شهيدة للحركة النسائية، والتى أشعلت حماس نساء الطبقات الراقية اللائى خرجن فى مسيرة ضخمة رافعات شعار الهلال والصليب دليلاً على الوحدة الوطنية، وينددن بالاحتلال وتوجهت هذه المسيرة إلى بيت الأمة، ومنذ ذلك التاريخ والمرأة المصرية تحتفل بالسادس عشر من مارس، بعد اختياره ليكون يوماً للمرأة المصرية، وعلى صعيد العالم الاجتماعى ساهمت السيدة هدى شعراوى ضمن ما ساهمت فى إنشاء مبرة محمد على لمساعدة أطفال المرضى سنة 1909، ولم تكن قد تجاوزت الثلاثين، كانت من أولى المساهمات فى تشكيل اتحاد المرأة المصرية المتعلمة عام 1914، كما أسست لجنة تحت اسم جمعية الرقى الأدبى للسيدات فى أبريل سنة 1914.
وكان هذا النضال يترافق مع بروز نهضة أدبية كانت تشارك فيها شخصيات نسائية مرموقة، فى مقدمتهن «باحثة البادية» ملك حفنى ناصف، وقد شجعتها تلك الحركة الأدبية على التفكير بتأسيس ناد أدبى للسيدات يجتمعن فيه للبحث فى الشئون الأدبية والاجتماعية.
ولما لقيت فكرتها الترحيب دعت إلى تأسيس ذلك النادي، واستعانت فى تأسيسه بالكاتبة الفرنسية مارجريت كليمان، فجاءت إلى مصر تلبية لدعوة من شعراوي، وعقدت فى منزلها بحضور عدد من الأميرات أول اجتماع تأسيسى لذلك النادي، الذى تشكل تحت اسم «جمعية الترقى الأدبى للسيدات».
وتتحدث هدى شعراوى فى مذكراتها باعتزاز عن دورها ودور المرأة المصرية فى ثورة 1919، التى أعقبت نفى سعد زغلول ثم بعد عودته من المنفي، وتذكر، على وجه الخصوص، كيف أنها فازت بأكثرية الأصوات فى انتخاب «اللجنة المركزية للسيدات» التى شكلت بمساعدة اللجنة المركزية للوفد المصرى فى النضال من أجل الاستقلال، ثم انتخبت رئيسة لتلك اللجنة.
ومن أوائل ما قامت به تلك اللجنة، التى تحولت فيما بعد إلى «الاتحاد النسائى المصري»، إصدار بيان يحدد بوضوح مطالب المرأة المصرية، وهذه المطالب هى كما جاءت فى البيان:
1 ـ مساواة الجنسين فى التعليم وفتح أبواب التعليم العالى وامتحاناته لمن يهمها ذلك.
2 ـ تعديل قانون الانتخاب باشتراك النساء مع الرجال فى حق الانتخاب ولو بقيود فى الدور القادم، كاشتراط التعليم أو دفعها نصابًا معينًا.
3 ـ إصلاح قوانين الزواج: بسن قانون يمنع تعدد الزوجات إلا لضرورة كأن تكون الزوجة عقيمًا أو مريضة.
وفى عام 1923 لبت الدعوة لحضور مؤتمر الاتحاد النسائى العالمى الذى عقد فى روما، لكن شعراوى لم تشأ أن تكون هى من تمثل وحدها نساء مصر فى ذلك المؤتمر، إذ كانت تريد أن يكون التمثيل باسم نساء مصر وبمشاركة شخصيات نسائية أخري، لذلك وجهت رسالة إلى عدد من الشخصيات النسائية دعتهن فيها إلى اجتماع لتأسيس الاتحاد النسائى المصري، وعقد الاجتماع وانتخب وفد نسائى مصرى بقيادتها إلى ذلك المؤتمر، وصار الاتحاد المصرى عضوًا فى الاتحاد العالمى. وكان ذلك حدثًا مهمًا فى تاريخ الحركة النسائية المصرية.
فى روما التقت هدى شعراوى بالزعيم الفاشى بينيتو موسوليني، مطالبةً إياه بحقوق المرأة الإيطالية السياسية، وكتبت تقول: «كان من بين ما حققه مؤتمر روما الدولى أننا التقينا بالسيناتور موسولينى 3 مرات، وقد استقبلنا وصافح أعضاء المؤتمر واحدة واحدة، وعندما جاء دورى وقدمت إليه كرئيسة وفد مصر، عبر عن جميل عواطفه ومشاعره نحو مصر، وقال إنه يراقب باهتمام حركات التحرير فى مصر».
بعد هذا المؤتمر عاد الوفد النسائى المصرى إلى الإسكندرية فى قطار من الإسكندرية إلى القاهرة رفعت هدى شعراوى النقاب عن وجهها، وقد كان ذلك بهدف إتاحة الفرصة للمرأة المصرية للانخراط بالحياة الاجتماعية السياسية، وثار كثيرون ولكن كفاح هدى شعراوى الجاد جعل الآباء يقتنعون تدريجياً برفع الحجاب عن وجه المرأة المصرية.
وقبل هذه الواقعة، كثيراً ما كانت هدى شعراوى تتحدث عن البحث عن الطريقة العملية المجدية، للوصول إلى تحسين حال المرأة المصرية والترفيه عنها، بتوجيه المرأة إلى ممارسة الرياضة البدنية أولاً، قبل تنبيهها إلى خوض الحياة الاجتماعية وترغيبها فى دراسة الفنون والآداب، وعقد اجتماعات تجمع بين الرياضة الفكرية والرياضة البدنية، وكذا إعداد ملعب لرياضة التنس، فى حديقة مصطفى رياض باشا.
وتقول وداد السكاكيني، فى «ترجمة هدى شعراوي»: «وقد توقد فيها الذكاء والإباء، فتأبت على هذه التقاليد التى كانت تضطر نظائرها من بنات الصعيد إلى التزام الحجاب، والبعد عن السياسة ولو كانت تدار من بيوتهن... لما عادت هدى شعراوى للمرة الأولى من الغرب، كانت تفكر فى هذه التقاليد الموروثة، التى لا تسمح لها بالظهور سافرة فى بلادها، فثارت عليها، وما كادت تطل على الإسكندرية، حتى ألقت الحجاب جانباً ودخلت مصر مع صديقتها سيزا نبراوى من دون نقاب، فلقيتا من جراء هذا السبق بالسفور لغطاً وتعنتاً من المتزمتين، ولم يكن هذا الأمر من رائدة النهضة النسوية بدعاً أو خروجاً على الحشمة والوقار، بل كان سلوكاً مثالياً فى السفور السليم، واستنكاراً للانحراف والتبرج اللذين ظهرت فيهما بعض السافرات المتطرفات».
وتقول درية شفيق: «وقد شجعت هدى عدداً من الفتيات على السفر إلى أوربا، كى تعود الطالبات حاملات إلى الوطن عناصر الثقافة الغربية ومثلها العليا فى الحياة الاجتماعية.. كانت هدى لا تزال تفكر فى النظرة التى تقابل بها المصرية كلما سافرت إلى أوربا، إن القوم هناك يسخرون من ذلك الحجاب الذى يغطى وجوه المصريات، حتى إنهم كانوا إذ يرون هدى شعراوى وزميلاتها بلا يشامك ولا براقع، يشككون فى مصريتهن، وفى ذلك المؤتمر الأخير بالذات، كانت مندوبات الدول المختلفة ينكرن على هدى مصريتها، ولا يكدن يعترفن إلا بمصرية واحدة كانت تصر على حضور تلك المؤتمرات محجبة لا تكشف شيئاً من وجهها، وهى السيدة نبوية موسي.
أما هدى شعراوى نفسها فتقول فى حديث لها عن واقعة خلع البرقع: «رفعنا النقاب أنا وسكرتيرتى سيزا نبراوي، وقرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتى الوجه، وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذى يبدو سافراً لأول مرة بين الجموع، فلم نجد له تأثيراً، لأن كل الناس كانوا متوجهين نحو سعد متشوقين إلى طلعته»، وقد دفعت بعد ذلك مباشرة ثمن جرأتها، ورأت تأثير الوجه السافر، حينما واجهتها هى وزميلاتها كثير من التعليقات الساخرة، كلما سرن فى الطريق، وعرضن أنفسهن حتى للعبارات النابية والصفات المؤذية.
وتضيف: «وبينما كنت أتأهب لمغادرة منزلى فى ذلك اليوم للاشتراك فى المظاهرة، بادرنى زوجى بالسؤال: إلى أين تذهبين والرصاص يدوى ويتساقط فى أنحاء المدينة؟
فأجبت: للقيام بالمظاهرة التى قررتها اللجنة!
فأراد أن يمنعنى فقلت له: هل الوطنية مقصورة عليكم معشر الرجال فقط وليس للنساء نصيب فيها؟
فأجابني: هل يرضيك إذا تحرش بكن الإنجليز أن يفزع بعض النساء ويولولن يا أمي… يا لهوتي!
فقلت له إن النساء لسن أقل منكم شجاعة ولا غيرة قومية أيها الرجال، وتركته وانصرفت لألحق بالسيدات اللاتى كن فى انتظاري».
ورغم ثبوت الواقعة، فإن هناك من يؤكد أن مسألة السفور وقتها لم تتعد كشف الوجه بنزع النقاب، مع الالتزام بـ«الحجاب الشرعي» الذى يغطى الشعر، وانتشر هذا التأويل على نطاق واسع.
فى 18 إبريل 1935 عقد المؤتمر النسائى الدولى الثانى عشر فى إسطنبول، وتكون من هدى شعراوى رئيسة وعضوية اثنتى عشر سيدة - وقد انتخب المؤتمر هدى نائبة لرئيسة الاتحاد النسائى الدولى وكانت تعتبر أتاتورك قدوة لها وأفعاله مثلا أعلي، فكتبت تقول فى مذكراتها: «وبعد انتهاء مؤتمر إسطنبول وصلتنا دعوة لحضور الاحتفال الذى أقامه مصطفى كمال أتاتورك محرر تركيا الحديثة.. وفى الصالون المجاور لمكتبه وقفت المندوبات المدعوات على شكل نصف دائرة وبعد لحظات قليلة فتح الباب ودخل أتاتورك تحيطه هالة من الجلال والعظمة وسادنا شعور بالهيبة والإجلال، وعندما جاء دورى تحدثت إليه مباشرة من غير ترجمان وكان المنظر فريداً أن تقف سيدة شرقية مسلمة وكيلة عن الهيئة النسائية الدولية وتلقى كلمة باللغة التركية تعبر فيها عن إعجاب وشكر سيدات مصر بحركة التحرير فى تركيا، وقلت: إذا كان الأتراك قد اعتبروك عن جدارة أباهم وأسموك أتاتورك فأنا أقول إن هذا لا يكفى بل أنت بالنسبة لنا «أتاشرق»، فتأثر كثيراً بهذا الكلام الذى تفردت به ولم يصدر معناه عن أى رئيسة وفد وشكرنى كثيراً فى تأثر بالغ ثم رجوته فى إهدائنا صورة لفخامته لنشرها فى مجلة الإجيبسيان».
وفى سياق مغاير تماما لما طالبت به شعراوى من تحرير المرأة، تقف قصة رفضها لزواج ابنها بامرأة تعمل مطربة، كشاهد على تناقضها مع ما تنادى به، وتقول القصة التى أورد تفاصيلها الكاتب المعروف مصطفى أمين فى كتابه «مسائل شخصية» إن هدى شعراوى أقامت حفلا كبيرا فى «سرايتها» بعد اختلافها مع سعد زغلول وقتذاك، وفى الحفل شاهد محمد شعراوى ابن هدى شعراوى المطربة فاطمة سرى التى أحيت الحفل، فأعجب بها ووقع حبها فى قلبه، فراح يلاحقها من حفل إلى حفل، ومن مكان إلى مكان، حتى تزوجها أخيرا.
ولما علمت هدى شعراوى بزواج ابنها الوحيد من المطربة، ثارت ثورة عارمة واتهمت ابنها بأنه يحاول قتلها بهذا الزواج، وحاولت الضغط على المطربة بما لها من نفوذ وعلاقات واسعة وبالتهديد بتلفيق ملف سرى فى شرطة الآداب يتهمها بالدعارة لكن المطربة تحدتهم وقالت أنها ستطلق بنفسها الرصاص على أى وزير داخلية يقوم بهذا التزوير.