مياه النيل ابتعلت 25 ضحية معظمهم أطفال قطار مبارك وتلاميذ مرسي ومركب الوراق المصري رخيص

هدي منصور و رحمة سامي
لم يعد لدى من رجاء سوى أن أوارى جثمانى فلذتى كبدى الثرى، فى لحظة بائسة، فقدت أربعة أبناء، فى ريعان الشباب، ابتلعتهم الأمواج، ونجح رجال الضفادع البشرية فى استخراج جثمان اثنين منهم، ومازلت أنتظر استخراج شقيقيهما.
منذ يومين لم أبرح مكانى، أمام المرسى النهرى فى الوراق، فقدت الأمل فى أن يكون أى منهم على قيد الحياة، أريد فقط أن أدفنهما.
هكذا تحدثت «أم محمد» المرأة الخمسينية التى فقدت أبناءها الأربعة فى كارثة غرق مركب نهرى إثر اصطدامه بصندل نقل بضائع يقول الأهالى إنه تابع لشركة حكومية، وكان يبحر فى النيل فى الثامنة مساء، وقت الكارثة، علمًا بأن آخر موعد لإبحار صنادل البضائع هو الخامسة عصرًا.
«أم محمد» التى يختلط كلامها بالصراخ حينًا، والتى لا تستطيع إكمال عبارة، من دون أن تلطم خديها، وترسل طوال الوقت نظرات استجداء إلى مياه النهر، وكأنها تريد أن تستنطقها عما صار إليه مصير أربعة شباب من «الغلابة» الذين خرجوا ليتنزهوا فلم يعد أى منهم تقول أيضًا: «الفقراء فى هذا الوطن بلا ثمن، يموتون مجانًا، فجهود الإنقاذ تقتصر على قاربين، والإعلام ليس معنيًا بالأمر، ولو كان من بين الضحايا ابن مسئول مهم، لما كان الوضع كما هو عليه الآن».
ولا يتوقف دعاء «أم محمد» إلى الله أن يرحمها: «يا رب عايزة أدفن ولادى، لك ما أعطيت ولك ما أخذت، مش عايزة النيل يبلعهم ويتحولوا إلى طعام للأسماك، وحسبى الله ونعم الوكيل فى كل مسئول فى هذا البلد لا يأبه لدموع أم شاءت الأقدار أن تكتوى بنار فقد فلذات الأكباد».
ورغم انتشال 25 جثمانًا حتى مثول المجلة للطبع، معظمهم من الأطفال دون الخامسة عشرة، إلا أن الأمر الصادم والفاجع لا يقتصر على الأرقام المجردة.. فأمام معهد ناصر حيث كانت تنقل عربات الإسعاف الجثامين، شق الصمت الكثيف صرخة «أم عبدالرحمن» لدى رؤية جثمان ابنها ذى الثلاثة عشرة عامًا، والذى لم تتعرف عليه سوى من لون قميصه، بعد أن انتفخ وجهه بفعل الإصابة باسفكسيا الغرق.
حالة الأم الانفعالية التى لم تتوقف عن الولولة والصراخ، لم تجعل سؤالها ممكنًا، لكن المؤكد أن الكلمات لا يمكن أن تحتوى المشهد الأليم.
أما الحاج «سعيد صابر» فمأساته أشد وطأة، فقد ابتلع الموج من ذويه تسع ضحايا ما بين أبناء وأحفاد وزوجة، ولم تتمكن جهود الإنقاذ من انتشال سوى اثنين من أحفاده.
الرجل الستينى لم يكن قادرًا على أن ينبس ببنت شفه، عيناه حمراوان، ونظراته زائغة، ليجسد مظهره الكلى صورة لضعف الإنسان أمام قسوة تقلبات الدنيا ومشيئة الأيام.
ويروى «محمود محمد» الذى يعمل بأحد المقاهى السياحية فى الوراق مأساة أسرته قائلا: «فقدنا فى الكارثة سبعة من أبناء عمى، أمهم لا تبرح موضعها أمام النهر، وأبوهم المريض تكاد تبيض عيناه من فرط البكاء».
ويقول: «إن المراكب النيلية تمثل فسحة الغلبان من أهالى المنطقة، فالتذكرة بقيمة خمسة جنيهات، الأمر الذى يدفع الكثيرين إلى الترويح على أنفسهم بين الحين والآخر لاستقلالها واستنشاق نسيم النيل، وهذه هى المرة الأولى التى تقع فيها مثل هذه الكارثة الأليمة».
شارع الضحايا
ويعتبر شارع أحمد عرابى بالوراق شارع الضحايا رقم واحد، فمعظم الذين ابتلعتهم المياه من سكانه، الأمر الذى دفع عددًا كبيرًا من سكانه الشباب إلى الاحتشاد بأعداد كبيرة لمتابعة جهود الإنقاذ، وهم فى غاية الغضب مما وصفوه بعدم الاهتمام رسميًا بهم.
أحد هؤلاء الشباب لوّح بقبضته غاضبًا، وهدد بأن يهاجم الشباب قسم شرطة الوراق قائلا: «لم نعد نريد سوى جثامين الضحايا، فبعد أن فقدنا الأمل فى استخراج أحياء، وبعد أن رأينا ما رأيناه من إهمال الدولة فى مهمة انتشال الضحايا، لن نسكت على هذا الظلم، إن الصيادين هم الذين بادروا بأنفسهم وأبحروا بقواربهم لإنقاذ الضحايا، ومعظم الجثامين التى انتشلت كانت بواسطة الصيادين، وليس بواسطة الغواصين التابعين للدولة».
ومضى يقول: «والله سنحرق القسم، وسنقطع الطريق، ولن نخشى من الرصاص، فلتكن مذبحة، إننا موتى على قيد الحياة، إن الموج ابتلع شبابنا وأطفالنا، والدولة لم تحرك ساكنًا، كأننا محض حشرات».
شاب آخر طلب عدم ذكر اسمه قال: «الصحفيون لا يعنيهم أمر الفقراء، هم مهتمون بياسمين النرش ومن على شاكلتها، أما نحن فنموت من دون أن يخرج مسئول من مسئولى الدولة حتى ليقدم لنا واجب العزاء».
وردًا على سؤال حول التعويضات التى أقرتها الدولة بواقع20 ألفًا للقتيل وخمسة آلاف للمصاب، قال: «هل هذه قيمة الإنسان المصرى؟.. بعض الأسر غرق كل أفرادها إلى درجة أنه لم يتبق من أفرادها من يتسلم قيمة التعويضات، هذا إهمال قبيح، كيف يبحر صندل حكومى بالمخالفة للقانون بعد المواعيد المسموح له فيها بالعمل؟.. لن نرضى بأقل من فتح تحقيق لمعرفة من المسئول عن إبحار الصندل، وكذلك التحقيق فى ملابسات تأخر جهود الإنقاذ.. بأقل من ذلك لن نرضى».
وانتقد الأهالى عدم وجود عدد كاف من عربات الإسعاف، الأمر الذى نفاه «أحمد محمد» وهو سائق إحدي سيارتي إسعاف كانتا مصطفتين أمام المرسى حيث قال: «بالأمس كان عدد السيارات ثمانية، لكن مع ذوبان الأمل فى انتشال أحياء تقرر الاكتفاء باثنتين، وهناك أربعة مراكب تبحر طوال الوقت فوق المسطح المائى، بالإضافة إلى الغطاسين».
وأضاف أن الجهود تتركز الآن على انتشال الجثامين قبل أن تصبح طعامًا للأسماك، صحيح أن المأساة شديدة الوطأة على الجميع، ونحن نتفهم حجم حزن الأهالى، لكن «ما باليد حيلة، وربنا يصبرهم على مصابهم».
الهروب الكبير
وبعد الحادث سارع أصحاب المراكب إلى الهروب جماعيًا من منطقة الوراق خوفًا من بطش الأهالى الغاضبين بهم، خاصة أن أبناء المنطقة حملوهم المسئولية المباشرة للكارثة، نظرًا لأنهم لا يهتمون بصيانة المراكب، ويتجاوزون فى الحمولة طمعًا فى المكسب من دون حساب المخاطر.
ويقول محمود محمد، وهو من شباب المنطقة إن أصحاب المراكب لا يفعلون شيئًا لصيانتها سوى طلائها من وقت لآخر بحيث تبدو أمام الناس جديدة، لكنها فى واقع الأمر متهالكة وغير صالحة للاستخدام.
ويضيف أن المركب الغارق ويسمى «البرنس» كان يقل نحو 60 راكبًا معظمهم من الأطفال، علما بأن حمولته لا يجب أن تزيد علي 30 راكبًا، ويحصل صاحب المركب على خمسة جنيهات من الراكب نظير رحلة تستمر ساعة، فى الأعياد، بينما تبلغ الأجرة جنيهين فقط فى الأيام العادية.
ويوضح أن المركب غرق فور اصطدامه بالصندل لأنه كان متهالكا ولم تستغرق عملية الغرق سوى خمس دقائق حسب شهادات الناجين من الكارثة، مشيرًا إلى أن الحكومة تعاملت مع الكارثة بتراخ، ووصلت أول سيارة إسعاف إلى موقع الحادث بعد أكثر من نصف الساعة من الإبلاغ عنه.
من جهته يقول «رجب حماد» وهو يعمل على أحد المراكب إن الرحلات النهرية تمثل وسيلة رخيصة للترويح عن الفقراء، فإذا أراد شاب أن يقيم حفل زفاف مثلًا، فبوسعه استئجار مركب بقيمة 180 جنيهًا للساعة، وحمولة المركب تصل إلى 60 شخصًا.
ويضيف أن الأسعار تختلف باختلاف الزبون، فالراكب الخليجى يؤجر المركب أحيانًا بقيمة ألفى جنيه فى الساعة، وهو الزبون المفضل بالنسبة لنا، مشيرًا فى رده حول سؤال بشأن دور الدولة فى الرقابة، إلى أن كل المراكب مرخصة، والملاحين عليها لديهم رخص قيادة، وهناك قوانين تنظم العملية، منها ضرورة عدم تشغيل موسيقى، لكن هذا الأمر لا يلتزم به أحد، فالناس تأتى إلى هنا من أجل الترويح والسعادة.
وحول إجراءات السلامة على المراكب يقول «أشرف عبدالسلام» الذى يعمل على أحد المراكب: «إن أصحاب المراكب يحرصون على وجود عوامات، ويحرصون على تركيب أبواق تنبيه عالية الصوت، ويركبون أنظمة إضاءة عالية بحيث تكون واضحة فى الإبحار الليلى لكنه يتابع: «بالطبع ليس كل أصحاب المراكب ملتزمون، وهو الأمر الذى يؤدى إلى تعرضهم إلى ملاحقة الشرطة النهرية».
معهد ناصر
حالة من البكاء انتابت الجميع أمام معهد ناصر، شملت حتى رجال الأمن، لدى وصول جثمانين لأم وهى تضم رضيعها إلى صدرها، ما يكشف عن أن عاطفة الأمومة دفعتها إلى التمسك بفلذة كبدها حتى رمقهما الأخير.
المشهد الدرامى الذى أسال الدموع من عيون الجميع، لم يكن ممكنًا تصويره، ولم يكن ممكنًا التعامل معه إلا بالحوقلة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فى مدخل المعهد يجلس على الأرض نحو ثلاثين مفجوعًا ممن ينتظرون جثامين ذويهم، هذا يبكى وذاك يقرأ آيات من الذكر الحكيم، وتلك تربت على كتف هذه، ويبقى الحزن العارم هو البطل الأول والأخير.
وأمام غرفة لتغسيل الموتى تسمى بـ«الغسالة» تقف نحو خمسين امرأة ممن انتشل رجال الإنقاذ جثامين ذويهن، وهن يبكين فى «أوركسترا جماعى».. أوركسترا الفاجعة التى أدمت القلوب وتركت فى النفوس ندوبًا لا يمكن أن تندمل.
ويقول «محمد عبدالله» وهو رجل أمن من العاملين بالمعهد: إن الكارثة فوق الكلمات، نحن نستقبل جثة كل نحو ساعتين، بعد الحادثة بساعات كانت وتيرة استخراج الجثامين أسرع، لكن يبدو أن التيارات النيلية جرفت ما تبقى من الجثث إلى أماكن بعيدة إلى درجة أن رجال الإنقاذ استخرجوا جثمانًا من مياه منطقة القناطر، رغم أنه غرق فى الوراق، وهو الأمر الذى يصعب من جهود انتشال الجثامين.
ويضيف رجال الأمن يؤدون أدوارًا ليست مطلوبة منهم، فهم يحصلون من ذوى الضحايا على مواصفاتهم، ومن ثم فى حال استخراج جثة يهرعون إلى الاتصال بهم على الفور، وفى الحقيقة إن ما نراه يمثل ضغطًا كبيرًا على أعصابنا، فالكارثة أكبر من أن تعبر عنها الكلمات، وهناك حالات انهيار وبكاء جماعى نتعامل معها، وهناك أمهات سقطن مغشيًا عليهن ما إن أبصرن جثامين أبنائهن، وهناك حالات ترفض التصديق.. الأمر صعب، والناس فى ذهول، والمأساة الحقيقية أن أرواح المصريين لاتزال رخيصة، فالموت يحيق بهم فى قطار متهالك، أو على طريق سريع، وإذا لجأوا إلى الترويح عن أنفسهم والهرب من مشكلاتهم برحلة نيلية فإنما هو الغرق.∎