
عبد الرحمن رشاد
أم كلثوم غنت لشعراء الخليج بأمر من عبدالناصر
كان اللسان العربى الناهض هو الأقوى والأعلى.. وكان الغناء عربيا: فصوت أم كلثوم يشدو من المحيط للخليج بكلمات الشعراء العرب تاريخا وجغرافيا - فمن (أراك عصى الدمع) لأبى فراس الحمدانى فى العصر العباسى الثانى إلى ( ثورة الشك ) لعبدالله الفيصل وشعراء من سوريا والعراق والسودان ولبنان. الغناء عربى يصدح بقوة المعنى وبروح الثورة.. وبقيم الكرامة والوحدة والاعتداد بقيم العروبة.
فى سهرة جمعتنا على ضفاف الخليج العربى بالدوحة وكنا فى مجلس رجل عربى يحمل الجنسية القطرية ويتمسك بقناعاته القومية ويقدر ويثمن دور مصر العربى ويؤكد على دورها الوحدوى والتنموى فى أمتها العربية التفت الرجل إلى قائلا : لم تكن هناك حكومة تشكل فى أية دولة عربية إلا وأخذ حاكم هذه الدولة برأى القاهرة فيها، وفى وزارئها فردا فردا وكان يفضل لحمل الحقائب الوزارية من تلقى تعليمه بالقاهرة.
وأضاف الرجل: دون اعتبار لشبهة التدخل أو الوصاية وإنما المشورة والقيادة والصواب.علقت قائلا: التأثير والدور وقتها كان قويا نعم كان قويا اقتصاديا وسياسيا، إقليميا ودوليا.. رد الرجل: القاهرة كانت عاصمة القرار العربى..القاهرة كانت قبلة القادة والثوار والأحرار ألم يكن صوت العرب هو صوت الثوار والأحرار ألم يقل حسنى الحديدى مع بدء البث: أمجاد يا عرب أمجاد.. ودعوته لعودة الكرامة فى الوطن وخارج الوطن؟ سأحكى لك :
عندما طلب المواطن العربى فى المغرب من الرئيس جمال عبدالناصر أن يبلغ سلامه لإسماعيل يس لم ينس الرئيس عبدالناصر هذا الطلب وترجم التحية عندما عاد للقاهرة مفعما بحب هؤلاء المواطنين العرب الذين أحبوه وأحبهم وعرف قيمهم، قيم المواطن العربى الحر المستقل وأمر رجاله بإنتاج سلسلة أفلام تحمل اسم إسماعيل يس ( فى البحرية، فى الطيران، فى البوليس).. وهكذا.كان ناصر يعرف قيمة وأثر الفن والعلم فى تشكيل وجدان الشعوب، ويعرف قيمة الفن فى الترابط والتماسك الوجدانى بين شعوب الأمة العربية وقيادتها فى السير نحو الوحدة.هذه القيم الناعمة الثقافية والفنية بشكلها السينمائى أو الإذاعى، السينمائى والمسرحى والقصصى وبمضمونها التحررى والعدالة والوحدة.
بها وجد المواطن العربى ذاته وما يبحث عنه، بهذه القيمة ينفض عن كاهله غبار التخلف وتقوده إلى الحداثة والكرامة والاستقلال فآمن بها المواطن العربى ونهل من معينها المصرى أدبا وتعليما وفناء وغناء.كانت الثورة المصرية تضع فى يد كل واحد من أبنائها ملفا.. والنموذج فى صوت العرب التى قام أبناؤها بالدور المؤثر فى الدعوة للثورة والنضال والوحدة بأشكال برامجية وغنائية جاذبة لكل الموهوبين العرب فى الأدب والمسرح والغناء حتى المذيعين العرب شاركوا فى صوت العرب من سوريا والكويت والسودان.
ولم تكتف صوت العرب بالدور الاتصالى التقليدى، بل كانت بتوجيهات مباشرة من الرئيس عبدالناصر همزة وصل مع ثوار المغرب العربى، ويشهد بذلك الضابط فتحى الديب والكاتب الصحفى محمود السعدنى والرائد الإذاعى أحمد سعيد، والمشاهد لفيلم جميلة بوحريد للموهوب العبقرى الراحل يوسف شاهين يستمع لصوت أحمد سعيد من صوت العرب يخاطب ثوار الجزائر فى ميادين القتال وكأنه يوجه لهم شفرات القتال ضد المحتل، وكان الظهور الغنائى الأكبر للفنانة وردة فى القاهرة عندما دعيت للغناء فى القاهرة وكان أواخر الخمسينيات تغنى فى دمشق إبان الوحدة المصرية السورية وعندما حضرت وردة للقاهرة ذهبت إلى بيت عبدالحميد الحديدى الرائد الإذاعى والمسئول عن البرامج العربية فى الإذاعة المصرية وغنت كلمات صالح جودت أحد مؤسسى صوت العرب ومن ألحان السنباطى وشاركت فى «وطنى حبيبى الوطن الأكبر»، ألحان محمد عبدالوهاب وصدحت بألحان بليغ حمدى.. ألم أقل إن القيمة الجيدة والرائدة تجذب وتنتشر، بل تصنع نجومها.
وتساءل الرجل: ألا تعلم أن الشيخ عبدالباسط عبدالصمد كان أول قارئ يتلو فى الكعبة المشرفة، وهو نفسه الذى حمل أبناء نيجيريا المسلمون سيارته فى مطار لاجوس عندما ذهب لإحياء ليالى رمضان بها فى بداية الستينيات!!رغم أن دعوة المفكر العربى والجغرافى العبقرى د. جمال حمدان بالاهتمام السكانى بشواطئ الخليج العربى لم تجد اهتماما وصدى سياسيا مناسباً، حيث كان جمال حمدان يرى أن مستقبل هذه المنطقة العربية مبشر بثرواتها الواعدة، ولكن مع ندرة سكانها ووقوعها على الشاطئ الغربى للخليج.. لم يحدث هذا الاهتمام إلا مع الطفرة البترولية التى بدأت بعد حرب أكتوبر 1973 صحيح أن البعثات التعليمية المصرية وجدت بفعل ثورة يوليو فى البحرين والكويت وقطر منذ الخمسينيات، إلا أن الهجرة لم تتكثف إلا مع النمو الاقتصادى والعمرانى الهائل، وصاحب ذلك وجود أسيوى للعمالة الهندية والباكستانية مزاحم للوجود العربى.
كان ملف الخليج العربى فى صوت العرب موكولا للإذاعى سعد غزال، وكان غزال يتمتع بشعبية واسعة فى الخليج العربى لدرجة أنه عندما حضر الشيخ زايد من أبوظبى بعد خلافه مع الشيخ شخبوط سألوه: إلى أين تذهب، فقال: إلى سعد غزال وكان يملك منزلا فى المنيرة بالقاهرة، ودارت الأيام وصار الشيخ زايد رئيسا لدولة الإمارات العربية، فلم يجد أفضل من سعد غزال ليؤسس البنية الإعلامية للإمارات، وصار غزال رمزا إعلاميا فى دولة الإمارات يدرب أبناء الإمارات وينشر الثقافة العربية بوعى وقدرة أبناء صوت العرب وكان معه هناك فؤاد فهمى وعبدالوهاب قناية وصلاح عويس وأحمد حمزة والعديد من أبناء صوت العرب، ولقد أنتج فى دولة الإمارات العربية العديد من المسلسلات الدرامية المصرية التى كانت تحقق شعبية هائلة بين مشاهدى قنوات التليفزيون فى الخليج، ومن أشهرها ثلاثية نجيب محفوظ بطولة محمود مرسى وهند رستم وصلاح السعدنى وكمال أبورية.
توازى انتشار قيم الفن الرفيع مع قيم النضال الثورى، هذا التوازى لم يرق للقوى التى تعمل دائما للسيطرة على هذه المنطقة شديدة الثراء والأهمية اقتصاديا واستراتيجيا، كما لم يرق لجيوش الظلام والتخلف، فكان لابد من إجهاض هذه القيم.. القيم الناعمة التى تغذى الوجدان والعقل أولا.. فماذا فعلت؟! هذا حديث آخر.