الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
غرور الوعى المنقوص فى «اضحك لما تموت»

غرور الوعى المنقوص فى «اضحك لما تموت»


اضحك حتى الموت، هى تلك السخرية السوداء للكاتب المسرحى لينين الرملى فى أحدث مسرحياته «اضحك لما تموت»، التى يقدمها المسرح القومى الآن من إخراج عصام السيد، فى رؤية درامية قاسية لجيله من المثقفين وفى نوع من الكوميديا الخشنة الموجعة، وهى تدور عن أستاذ جامعى محطم لم يعد يذهب للجامعة، هو فى وحدته القاسية وأمراض الشيخوخة يمارس انتحارًا بطيئًا، بالامتناع عن تناول الأدوية والإقامة على تعاطى الكحول، يكاد ينقسم إلى نصفين، شخص حى ونصفه الآخر جثة فى ثلاجة المنزل، تظهر وتختفى وتتحرك وكأنها تعبير عنه وعن جيله الذى يراه لينين الرملى وكأنه الميت الحى.

الشخصية مركبة ومبتكرة من عمق حياة مثقفى الهامش فى مصر وهى تعبر عن أزمة المثقف بين أحلامه وأفكاره وقدرته على تجسيدها على أرض الواقع، إنها تلك المسافة التاريخية بين الأفكار والأفعال.
وقد منحها نبيل الحلفاوى خصوصية تأتى من حساسيته العميقة التى تلامس بعضًا من كيانه الإنسانى كفنان مصرى يمارس التفكير، إنه المثقف المهزوم الذى حرق كتبه التى ألفها على مدار عمره ثم كانت المفاجأة حين ردد عليه شاب جاء لمنزله بالمصادفة، بعضًا من أفكاره التى كونت وعى وعقل أجيال من بعده.
أما صديقه الثرى نسبيًا العائد من الخليج بعد رحلة عمل طويلة استغرقت عمره المهنى الناضج كله، والتى منحها محمود الجندى حضورًا ساخرًا وطاقة باقية من مرح قديم، لقد قرر أن ينتحر وبحث عن صديقه القديم الحلفاوى حتى يمارس فعل الانتحار فى منزله، وهو يود أن ينتحر لأنه يشعر بضياع عمره سعيًا وراء ثروة أنفق معظمها على تعليم ابنته تعليمًا أجنبيًا فاخرًا فكان أن هجرته وهجرت الوطن سعيًا للزواج والعمل فى بلاد بعيدة، ويبدو من حوارها معه عبر الهاتف أنها منفصلة تمامًا عن مصريتها ومجتمعها، إنها ابنة تعليمها الأجنبى، ولذلك هاجرت إلى هناك.
وهو يود أن ينتحر حزنًا على جحود الابنة والأيام والأصدقاء، ويعانى ألمًا دائمًا مصدره الشعور بالخذلان وأن أيامه الخوالى هباء بلا معنى.
أما الصورة الذهنية للجيل الجديد فى عالم المسرحية فهى صورة ساخرة تراه متحركًا بلا وعى،  الفتاة التى تعيش معه فى المنزل يصورها عبر الاختيار الفنى من بين جيلها كفتاة ضائعة نصف عاهرة ونصف متشردة وتعانى من اضطراب عصابى،  الصديق المعتزم الانتحار يرى صديقه المهزوم مجنونًا ويدفع لهما مبلغًا من المال كى ترحل بعيدًا عن بيت الشيخوخة والكتب المحترقة.
وعندما تخرج للشارع تجد نفسها فى الميدان القريب من بيت اليأس والانتحار الذى يقطنه ذلك المثقف العجوز، فتسير فى مظاهرة لشباب 25 يناير التى تظل حاضرة فى خلفية المشهد المسرحى الرئيسى الذى صممه محمود غريب، وفى المظاهرة تردد عيش حرية كرامة إنسانية، وفيها تلتقى شابًا جميل الطلعة تحبه وتأخذه لمنزل العجوز كى تداويه من جرح تعرض له أثناء اشتباك فى الميدان، العجوزان يريان فيه حلاً لمشكلتها ويدفعان لتعليمها وإنقاذها من الضياع والزواج منها، هو متردد رغم تعاطفه معها، المسرحية تنتهى بهذا الزواج المحتمل بين التشرد والوعى المنقوص لهذا الشاب الذى يردد أفكار الرجل الذى حرق كتبه، لا ضحك إذن، إنها صورة درامية شديدة القسوة يستخدم فيها المؤلف والمخرج يأسًا فاضحًا لصورة هى فى إعلان المسرحية لرجل يدخن النرجيلة والآخر بيده زجاجة كحول، والأرض من حولهما صحراء جرداء، المنظر المسرحى لبيت متوسط منظم لا يناسب كل هذه الفوضى،  وتقنية السينما التى تتحدث فيها شخصيات عبر الهاتف تبدو ثقيلة ومعطلة لحركة الحدث الخشن المؤلم، أما أحداث ميدان التحرير فهى صورة ثابتة وتأتى كخلفية لا تتحرك، بينما يتحرك هؤلاء جنونًا وبؤسًا إنسانيًا فى بيت المثقف المعتزل الحياة وصديقه الذى يتأهب للانتحار لكن الضوء والأمل يبقى فى هروب الفتاة للشارع بصحبة الشاب الحالم المتحمس حماسًا حقيقيًا مصدره مثالية وحيوية وأفكار ورثها عن جيل يصف نفسه بالعجز والجنون، إنها مسرحية صادمة مدهشة ومأساة حقيقية كئيبة الطابع وسرد لهزائم جيل سبعينى يتابع التحول الثورى والتغيير الكبير العبقرى فى مصر من شرفة منزل اليأس والعجز والكحول الذى يقف خلفه فى الحقيقة أنانية مفرطة وعزلة موحشة لهذا النوع من المثقفين عن الجمهور العام بل وبتعالى وغرور المعرفة الصماء يسخر منتحرًا من جيل استطاع الحركة وإن لم يحصد المجد كاملاً. 