الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
الانتصار للفقراء.. أمن قومى

الانتصار للفقراء.. أمن قومى


فى الذكر الحكيم: «وما تلك بيمينك يا موسى  قال هى عصاى أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي» (طه 17 : 18).. كان يرعى النبى «موسي»، إذًا، الغنم.. رجل يأيتيه «وحى السماء»، ويأكل من كد يده.
فى المسيحية - أيضًا - اتخذت مهنة الرعى (رغم تواضعها، مقارنةً بالمهن الأخري) بُعدًا رمزيًا.. قال السيد المسيح: «أنا هو الراعى الصالح.. والراعى الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يو 10 : 11).. الرعي، هنا، يُمثل «الطريق»، التى اختارها «يسوع» للإرشاد الروحى..
وكانت تلك الطريق، هى «الخلاص» للطبقات الأكثر كدحًا.
وفى الإسلام.. لطالما بقيت «مهنة الرعي»، التى احترفها النبى «محمد» (ص)، فى بداية حياته، مصدرًا للزهو والافتخار عند جموع المسلمين.. إذ اختارت «السماء» للأميين نبياً منهم.. وفى الإسلام، أيضًا؛ ترعرعت «الدعوة» على أيدى «المستضعفين»، والمُهمشين داخل المجتمع القبلى.
كان من يُعانون «القهر المجتمعي»، هم بطانة «الدعوة الجديدة».. كانوا قوة الدفع «الرئيسية»، التى أفرزت واحدة من أكبر «ثورات التصحيح المجتمعي» فى التاريخ.. فعندما يأتى «التغيير المجتمعي» من أسفل، أو بدعم من الطبقات الشعبية (الأوسع انتشارًا)؛ يُصبح حينها التغيير أكثر رسوخًا.. وثباتًا.

واقعيًا.. لم تكن مهنة «رعى الغنم» التى احترفها عددٌ ممن يأتيهم وحى السماء، هى المهنة «الأعلي» داخل مجتمعاتهم.. إذ كانت - وقتذاك - مهنة «أقل شأناً» من وجهة نظر أصحاب التجارة، وأرباب الحرف، والقراء.
يصنع - إذًا - أصحاب المهن «البسيطة» الفارق، داخل المجتمعات الساعية نحو الرقى، أو تلك «الأكثر رقيًّا» بالفعل.. يؤسسون عبر اجتهاداتهم «الذاتية»، والسلوكية لنماذج واضحة من «العدل الاجتماعي».
ففى سياق «فلسفة الأديان»؛ يُعتبر «العدل الاجتماعي»، هو حجر الزاوية فى البناء المجتمعى.. يضع حدًّا فاصلاً بين (التطرف المُجتمعي) الذى ينظر لأصحاب المهن «البسيطة» من أعلى، وبين حق أصحاب هذه المهن فى الاجتهاد، والتطور، والارتقاء بأنفسهم وذويهم (ومجتمعاتهم، أيضًا).
فى المجتمعات الحديثة (الأكثر رقيًّا)، لا يُمكننا أن نجد عبارات من نوعية: «غير لائق اجتماعيًا» عند التحدث عن شغل الوظائف العامة، أو تلك التى توصف بأنها «مواقع حساسة».. إذ لا تُعتبر «المهن البسيطة» سُبة فى الجبين، أو عائقًا أمام ذويها، وأبنائهم فى الارتقاء الوظيفى.. فالوضع المعكوس، هنا، بمثابة «ردة حضارية» واضحة.

فى المجتمعات الأقل رقيًّا فقط؛ يُمكننا أن نجد أثرًا بارزًا لهذا «التطرف المُجتمعي».. يُمكننا أن نتحسس بوضوح جروحًا غائرة من «الفوقية»، والاحتكارية الطبقية لـ«مهن» بعينها (!).. الأمر هنا جلل (!)
فيقينًا.. يعمل هذا «التطرف المُجتمعي» ضد حركة التاريخ.. يرجع إلى الخلف قرونًا.. ففى المجتمعات «الشرق أوسطية»، التى شهدت غرس ثورات «العدالة المجتمعية»، وصدرتها للعالم أجمع؛ يُعد من «المضحكات المبكيات» أن نجد أثرًا من تلك «الطبقية»، التى قامت عليها ثورات الماضى، بين ربوع المنطقة ذاتها (!)
فعليًا.. يُعانى أغلب بلدان «الشرق الأوسط» ويلات التطرف الدينى.. أجهدت تنظيمات «الإسلام السياسي» المنطقة بأثرها.. ومن ثمَّ.. دخل عديدٌ من بلدانها فى تحالفات  لمواجهة الإرهاب.
للمواجهة - هنا- بُعدٌ مهم.. بُعدٌ يتعلق بمواجهة «التطرف المُجتمعي» أولاً، فى سياق الحرب (الشاملة) على الإرهاب.. فمواجهة التطرف، تقضى - فى المقابل - تجفيف «الروافد المُغذية» لهذا التيار (من الناحية البشرية).
.. فبحسب آليات عمل تيار «الإسلام السياسي»، وتيارات «العنف المسلحة»؛ فإن استهداف أفراد الطبقات الأكثر شعورًا بـ«القهر المجتمعي»، هو الوقود (البشري) الذى تتغذى عليه تلك التيارات، من حيث الأصل.

بين أدبيات تنظيمات الإسلام السياسي؛ هناك ما يُسمى بـ«المنهج الحركي».. يعتمد المنهج (من حيث التراتبية) على مراحل محددة لنشر فكر التطرف، بدءًا من «سرية الدعوة وسرية التنظيم»، ومرورًا بـ«جهرية الدعوة وسرية التنظيم».. وانتهاءً بمرحلة التمكين وإقامة الدولة.
فى مراحل «سرية التنظيم» المختلفة؛ يُصبح التسلل للفرد المستهدف بالتجنيد، أيسر وأسهل إذا كان ممن يشعرون بـ«القهر المجتمعي»؛ لأسباب: (اجتماعية/ اقتصادية/ سياسية... إلى آخره).. ومن ثمَّ.. فإن تقليل حجم الوقود (البشري) لتنظيمات العنف، يقتضى (فى أحد جوانبه) تقليل مساحة هذا الشعور، عبر تحقيق العدالة الاجتماعية، وترسيخ مبدأ «تكافؤ الفرص» بين الجميع، من دون تمييز طبقى.. أو «توريث عائلي» فى مهن بعينها.
هنا.. يُصبح الاحتكام لعامل «الكفاءة» وحده، هو المعيار السليم، فى ضبط إيقاع المجتمع (داخليًا).. ومن دون غضاضة.

على مدار «عشرات السنوات» الماضية؛ عانت «مصر» من تراكمات جمة من هذا النوع.. تراجع عديدٌ من «أهل الكفاءة»، والموهبة (مجتمعيًا)، فى مقابل فقدان أماكن محجوزة سلفًا لأصحابها، في: (الجامعات، والنيابات، والسلك الدبلوماسى، والصحافة، والإعلام، والفن... إلى آخره).
الموقف خطير بالفعل، ويحتاج إلى مواجهة حقيقية.. وأولى خطوات المواجهة، هى المصارحة والمكاشفة.. المكاشفة، هنا، وما يتبعها من مواجهة «لاحقة»، واجب قومى على كل من يمتلك «ضميرًا وطنيًا» يقظًا.
وأعتقد (جازمًا) أنّ من بين الرسائل (الأولي) التى حملها مؤتمر الشباب بالإسكندرية كانت تدور فى هذا السياق.. فعندما جلس إلى جوار الرئيس الشاب الرائع «صانع البهجة» الذى قهر إعاقته (ياسين الزغبي)، وابنة كل بيت مصرى (مريم فتح الباب)، التى تحدت ظروفها وتفوقت تفوقًا باهرًا.. كانت الرسالة الرئيسية، هى أنّ «الكفاءة» -وحدها- هى المعيار خلال المرحلة التالية.
هذا الأمر فى حد ذاته.. يحملنا إلى رسالة «أخري» نبه إليها الرئيس خلال المؤتمر نفسه.. رسالة تتطلب وعيًا من نوع خاص.. رسالة خاصة بمواجهة مخططات «إفشال الدولة».. فعندما تتحقق العدالة الاجتماعية داخليًا، وتصبح «الكفاءة» هى الحكم (من دون استثناءات، أو وساطات)، وتتحقق عناصر الاستقرار الداخلى، والإداري؛ فإنّ هذا الأمر يُسهم - إلى أبعد مدى - فى تثبيت أركان الدولة (داخليًا، وفى مواجهة أية مخططات خارجية أخري).
قطعًا.. انتظرنا تلك الرسائل (وتنفيذها) كثيرًا.. رسائل تُمثل حلاً حقيقيًا لأزمات المجتمع الداخلية، فى توقيتها، ومضمونها (مجتمعيًّا، وسياسيًا، وتعليميًّا).. فالعدلُ - يقينًا- أساس المُلك.