السبت 18 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
منافسة على قلة الأدب

منافسة على قلة الأدب


فضائيات هذه الأيام لا تختلف كثيرا عن الإذاعات الخاصة ومحطات الراديو التى كانت سائدة فى مصر منذ ثمانين عاما وهو نفس عام مولد الإذاعة المصرية!
 
إذا كانت ستصدمك تفاهة وسخافة، بل الشتائم والسب والردح فى بعض برامجها، فقد كان ذلك يحدث على يد إذاعات زمان!
 
وإذا كانت بعض المحطات الفضائية قد تخصصت وبرعت فى الحوارات الهابطة والرخيصة، فهى امتداد لما كان يسمعه الناس فى مصر زمن الإذاعات الخاصة التى يمتلكها الأفراد!
 
لا تندهش وتتعجب وتولول وتبكى على «ضياع الزمن الجميل» بناسه وأفكاره، ففى كل زمان ومكان كانت هناك بقع سوداء قبيحة و«أبيحة» لم يكن المستمع أو المشاهد أو حتى القارئ يقبلها أو يستسيغها!
 
فإذا هبت الأقلام والأصوات تهاجم قلة الأدب والأسلوب القبيح والكلام «الأبيح» ثارت عليهم «النخبجية» - أمس واليوم وغدا - واتهمتهم بقلة الوعى والفهم وأنهم ضد الإبداع، بل والبتاع! بتاع الإذاعة أو بتاع الفضائيات.
 
أعود بكم 80 عاما إلى الوراء وتأملوا معى أسماء هذه المحطات الإذاعية: محطة فريد، راديو فاروق، راديو سابو، راديو وادى الملوك، راديو هليوبوليس، راديو مصر الملكية، راديو بورسعيد، راديو فوى، راديو أ. ب. ت، راديو صايغ، راديو الأميرة فوزية، راديو ماجازين إجبسيان، راديو مصر الحرة، راديو فيولا، راديو حبشى، راديو مصر الجديدة، راديو القاهرة، راديو فويس، راديو فؤاد، راديو أبوالهول، راديو ماجستيك، راديو رمسيس، راديو الأميرة فاطمة، راديو أمير الصعيد، راديو وهبى وراديو لويس وغيرها!
تركزت أغلب هذه المحطات الأهلية فى مدينتى القاهرة والإسكندرية وأغلبها تذيع باللغة العربية، وحسبما جاء فى كتاب د. عاطف عدلى العبد «الإذاعة والتليفزيون فى مصر»، فقد كان معظم أصحاب تلك المحطات من التجار الذين أقاموا المحطات الإذاعية للترويج لتجارتهم، ولتحقيق الربح المادى عن طريق الإعلانات التجارية، فمثلا «راديو فؤاد» الذى أنشأه «عزيز بولس» تاجر البيانو والراديوهات وأدوات الكهرباء، وراديو فاروق الذى أنشأه تاجر أجهزة الراديو «إلياس شقال».
 
والطريف أن معظم هذه المحطات مقامة فى غرفة أو شقة فى عمارة على الأكثر، كما كان إرسال معظمها ضعيفا ولا تغطى أكثر من الحى الذى تذيع فيه.
 
كانت إذاعة الإعلانات هى المصدر الأول لدخل هذه المحطات، وكانت هذه الإعلانات تذاع على الهواء مباشرة، ومن عينتها مثلا هذا الإعلان:
 
- سيداتى سادتى، وأنتم قد عرفتم أنه لولا الراعى ما انتكست الرعية، اقصدوا محلات الراعى بالغورية، محلات الراعى أسست منذ أكثر من ثلاثين سنة خدمت فيها المنسوجات المصرية التى أخرجتها الأيدى المصرية!
 
بل وصل الأمر بإحدى هذه المحطات إلى أنها كانت تذيع إعلانات عن افتتاح خمارة الخواجة بنايوتى خصوصا الطافية التى تباع بأسعار زهيدة!
 
ولجأت بعض المحطات لزيادة مواردها المادية إلى اشتراك المستمعين لديها بدفع عشرة قروش شهريا، تذيع المحطة خلاله ما يطلبه من أغنيات أو حتى بيانات ونداءات يطلبها، وكان من المعتاد أن يفاجأ المستمع بالإذاعة تقطع برامجها لتعلن بيانا ترجو فيه السيد فلان الفلانى أن يتوجه إلى بيته لأمر مهم، فقد حضر إلى بيته ضيوف أعزاء!
 
بل وصل الأمر بإحدى عصابات المخدرات إلى أن اشتركت فى محطة راديو مصر الملكية لصاحبها «فريد الرفاعى» وكان مديرا للمطبوعات بخمسين قرشا كل شهر مقابل إذاعة أغنيتين فى أى وقت وهما «الجواريق» لمحمد عبدالوهاب، و«فى الجو غيم» لصالح عبدالحى، وكان أفراد العصابة يتصرفون فى بيع المخدرات على ضوء الأغنية المذاعة، حتى وصل أمر هذه العصابة إلى الشرطة، وألقت القبض على المسئولين عن المحطة، ولم يفرج عنهم إلا بعد أن تأكدت الشرطة المصرية أنهم كانوا من ضحايا هذه العصابة!
 
إن أغلب الدراسات والمؤلفات التى كتبها أصحابها عن «الإذاعات الأهلية» قبل نشأة الإذاعة المصرية الحكومية عام 1934 تؤكد أن معظم المواد الكلامية التى كانت تذيعها هذه المحطات لا تخرج عن مهاترات وأغان مبتذلة، مما دفع جمهور المستمعين إلى الشكوى منها، فقد شكا رب عائلة من إقدام بعض هذه المحطات على إذاعة أقوال من شأنها أن تفسد أخلاق العائلات!
 
كما تلقت إدارة الأمن العام شكاوى من الجمهور بشأن الخطة التى تجرى عليها بعض محطات الإذاعة من التعرض للآداب العامة!
 
كما تبارى أصحاب المقاهى فى رفع صوت أجهزة الراديو جلبا للزبائن، الأمر الذى جعل الجمهور يجأر بالشكوى على صفحات الصحف!
 
ونشرت صحيفة الأهرام تصريحا لوزير المواصلات «توفيق دوس باشا» بأنه سيقوم من جانبه باتخاذ اللازم لمنع الشكاوى وعدم استخدام هذه الآلة على وجه يضايق الجمهور ويؤدى إلى إقلاق الراحة!
 
واجتمع وكيل الوزارة بأصحاب المحطات وقد حدد لهم مواقيت لا يتجاوزونها، ونشرت الأهرام شكوى لأصحاب المقاهى فى الأحياء الوطنية يتظلمون من قصر الوقت بالليل وأنهم لا يستطيعون سداد أقساط الراديو إذا لم تمد مدة السهرة لأن الزبائن ينصرفون إلى منازلهم!
 
ولم يلتزم أصحاب المحطات الأهلية، بل زادت تجاوزات بعضها، بل وصل الأمر إلى أن هذه المحطات كانت تتبادل الشتائم بعضها مع بعض بأقذع الألفاظ!
 
بل وصل الأمر إلى أن المحبين - كما يقول الكاتب الكبير الراحل «محمد زكى عبدالقادر - كانوا يتخذون من موجات الأثير وسيلة لبث غرامهم وتحديد المواعيد!
 
وبتفصيل أكبر وأكثر تشويقا يروى الأستاذ «حافظ محمود» قصة هذه الإذاعة التى أنشأها صاحبها لبث غرامه واسمه «رنى» كان شابا يونانيا وسيما يدرس فى كلية الآداب وكان زميلا لحافظ محمود، وقد أحب هذا الشاب بنت الجيران وكانت إيطالية اسمها «ريتا» وتقدم لخطبتها وطالت فترة الخطوبة ويقول «حافظ محمود»:
 
كان «رنى» مولعا بفنون اللاسلكى إلى جانب دراسته الأدبية، وفجأة فكر فى أن ينشئ محطة إذاعة فى بيته الذى كان يقع على ناصيتى شارعى ثروت وشامبليون - أى شارع معروف - وكان كل همه أن يذيع من إذاعته اسطوانات أغانى الحب الإيطالية التى يعرف أن حبيبته تحبها، كما كان يعرف أن فى بيتها جهازا للاستقبال جاءت به من روما قبل أن تظهر أجهزة الإرسال والاستقبال فى مصر، وسمى محطته وهى أولى محطات الإذاعة الأهلية فى مصر «راديو مجازين إجيبسيان» وهو نفس اسم المجلة التى كانت تخرجها السيدة «سيزا نبراوى» لحساب الاتحاد النسائى لعلمه بأن فتاته كانت من المولعات بهذه المجلة!
 
لكن ذلك لم يعجب «ريتا» وقالت لخطيبها: إنك تعتمد فى إظهار شعورك نحوى على الاسطوانات أليس عندك أنت كلام تقوله لى عن طريق إذاعتك؟!
 
ويضيف «حافظ محمود»: ارتبك «رنى» ثم هداه تفكيره إلى أن يتفق معى على أن ألقى أمام مذياعه سلسلة أحاديث أسبوعية عن الحب ألقيها بالعربية، ويتولى هو ترجمتها إلى الإيطالية والفرنسية اللتين كان يجيدهما.
 
ثم يروى حافظ محمود هذه القصة بين الشيخ «صبح» و«روزاليوسف» فيقول:
 
«كان فى مقدمة المطربين الذين اعتمدت عليهم محطات الإذاعة الأهلية المرحوم الشيخ «محمود صبح» وكان شابا جبار الصوت، جبار العضلات، وكان يمارس المصارعة وحمل الأثقال، وسباق الدراجات وهو ضرير، وقد جعلته هذه المؤهلات هدفا للنقاد بين مادح وغير مادح، وكان فى مقدمة غير مادحيه ناقد مجلة «روزاليوسف» الذى اشتد نقده للشيخ صبح إلى درجة النصح له بأن يكتفى بحمل الأثقال دون الإثقال على السامعين بموسيقاه التى كانت تتميز بقليل من الصخب والعنف اللذين يتفقان مع قوة صوته!
 
وغضب الشيخ «صبح» من هذا النقد واعتبره هجوما لا يرد عليه إلا بالهجوم، وكان هجومه طريفا جدا، لقد ذهب إلى محطة الإذاعة الأهلية التى كانت متخصصة فى إذاعة أغانيه وموسيقاه، وجلس أمام المذياع ممسكا بالعود موقعا عليه ألحانه، وكلما فرغ من مقطع قال بأعلى صوته: سامعة يا ست روزا ولا فيش كده أبدا!
 
وبعد مطلع آخر يقول: اللحن ده يطلع من إيدك يا ست روزا؟!
 
وبعد مقطع ثالث يقول: يا وليه! افهمى دانا الشيخ «صبح»!
 
كان موقف الشيخ «صبح» يدعو للتفكه، لكن هذا التفكه قد نبه القائمين على محطات الإذاعة الأهلية إلى طرافة المساجلات عن طريق المذياع، وكان من أطرف هذه المساجلات أن محطتين قد اتفقتا على تنظيم مناظرة عن دور المرأة فى المجتمع بحيث يبدأ الحديث فى محطة، ويأتى الرد فى أعقابه مباشرة من محطة أخرى، ثم يكرر هذا السجال الذى اشتركت فيه مع بعض الشباب والأدباء والأديبات فكنا نتكلم فى محطة إذاعة، ثم نجلس نستمع الرد من المحطة المقابلة، ثم نقف أمام المذياع لنعلق على رد الآخرين، وهكذا من أول الليل إلى منتصفه!»
ويبدو أن الحنين إلى الماضى يشمل كل شىء من الأدب إلى «قلة الأدب»!