أسرار «المتحف الكبير»!
عرفتْ مصرُ المتاحف منذ فترة مبكرة من تاريخها الحديث، فالمتحف المصرى أنشئ فى بداية الأمر فى حديقة الأزبكية عام 1835م، وتم نقله إلى قلعة صلاح الدين الأيوبى، ومنها إلى منطقة بولاق فى عهد الخديو إسماعيل، ثم إلى قصر الخديو إسماعيل بالجيزة، إلى أن استقر فى مكانه الحالى فى ميدان التحرير عام 1902م فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى.
يضم المتحف عددًا كبيرًا من كنوز مصر القديمة تقارب 200 ألف قطعة أثرية، ويُعتبر مبنى المتحف فى ميدان التحرير أثرًا فى حد ذاته؛ لأنه جاوز 100 عام، ويجرى الآن إعادة عرض الآثار بمتحف التحرير وفق سيناريو عرض جديد بعد الانتهاء من نقل آثار المومياوات المَلكية منه إلى المتحف القومى للحضارة بالفسطاط، ونقل آثار الفرعون الذهبى الملك توت عنخ آمون إلى بيته الجديد، «المتحف المصرى الكبير» الذى يُعد نسخة القرن الحالى من «المتحف المصرى».
ما قصة المتحف المصرى الكبير؟
أكبر متحف فى العالم
المتحف المصرى الكبير أعظم مشروع ثقافى وأثرى وفنى ومتحفى فى العالم أجمع، فالمتحف الكبير يُعد مشروع مصر القومى فى القرن الحادى والعشرين، كما كان هرم الملك خوفو فى مصر الفرعونية، وقناة السويس فى عهد الخديو إسماعيل، والسد العالى فى عهد الزعيم جمال عبدالناصر، كما أنه هدية مصر للعالم فى القرن الحادى والعشرين، فالمتحف الكبير ليس مشروعًا مصريّا فحسب، بل مشروع عالمى؛ يتطلع الجميع إلى يوم افتتاحه.
يضم المتحف كنوزًا فنية فريدة ورائعة للآثار المصرية القديمة منذ عصور ما قبل التاريخ إلى العصرين اليونانى والرومانى، ويصل عدد القطع الأثرية به لنحو 100 ألف قطعة أثرية، خمسون ألف قطعة للعرض، وخمسون ألف قطعة للدراسة، من خلال عرض متحفى مبهر على أحدث التقنيات العالمية فى مجال إقامة المتاحف والعرض المتحفى على مستوى العالم ليكون متحفًا بالمفهوم الحديث للمتاحف.
تبلغ مساحة مشروع المتحف 117 فدانًا، وقاربت تكلفته على المليار دولار أمريكى، وتم البدء فى المرحلة الأخيرة من المشروع التى تتضمن بناء مبنى المتحف الرئيس وملحقاته، وسوف يتم ربط معامل ومخازن مركز الترميم بالمبنى الرئيس عبر ثلاثة أنفاق تحت الأرض. يحتوى المتحف على عدد من المتاحف النوعية، منها متحف للأطفال وذوى الاحتياجات الخاصة لتربية النشء على حُب الآثار والحفاظ على كنوز مصر والعالم أجمع، ويضم منطقة ترفيهية على مساحة كبيرة تشمل حدائق ومطاعم وخدمات وأماكن ترفيه ومرافق عامة.
يجرى العمل على ربط المتحف الكبير بمنطقة الأهرامات عبر الممشَى الأسطورى الكبير بطول 2.5 كيلو متر، ومن المخطط أن يفتح المتحف أبوابه للعالم فى الربع الأخير من العام الجارى 2020م، ومن المتوقع أن يصل زوار المتحف إلى نحو 8 ملايين سائح سنويّا.
رؤية العرض بالمتحف
تقوم فكرة العرض داخل المتحف على عدة محاور متنوعة لإظهار مجموعة الآثار التى ستُعرض عند الافتتاح، فى تتابع زمنى يشمل العرض التاريخى أهم الآثار المصرية القديمة منذ عصور ما قبل التاريخ إلى العصرين اليونانى والرومانى، فضلًا عن موضوعات متنوعة من مصر القديمة لعدد من القطع الأثرية التى تُظهر أبرز مظاهر وسمات الحضارة المصرية القديمة فى وحدات وموضوعات متخصصة تزيد عُمق الرؤية والاندماج لدى زائر المتحف المصرى الكبير.
مسلة رمسيس
تُعتبر المسلة المُعَلقة من أبرز القطع الأثرية المميزة فى المتحف الكبير؛ إذ يوجد موقعها فى البهو الخارجى للمتحف الذى تبلغ مساحته 28 ألف متر مربع، لتكون فى استقبال زوار المتحف، وتخص المسلة الملك رمسيس الثانى، ومن خلال تصميم المسلة، يمكن للزوار رؤية خرطوش الملك رمسيس الثانى الموجودة أسفل قاعدة جسم المسلة.
تمثال الملك رمسيس الثانى سيكون فى استقبال زوار المتحف من المصريين والعرب والأجانب، بالمدخل الرئيسى الذى تبلغ مساحته 7 آلاف متر، وإلى جواره خمس قطع أثرية ضخمة، وتم نقل تمثال الملك رمسيس الثانى من ميدان رمسيس بوسط القاهرة إلى أرض مشروع المتحف فى 2006م ويزن التمثال نحو 83 طنّا ليكون واحدًا من أضخم التماثيل فى العالم، وتم نقله إلى مدخل المتحف يوم 25 يناير 2018م.
روائع المتحف
من أهم الآثار التى ستُعرض بالمتحف كنوز وآثار الفرعون الذهبى الملك توت عنخ آمون، التى تُقَدر بأكثر من 5 آلاف قطعة التى تم اكتشافها أول مرّة فى وادى الملوك بالبر الغربى لمدينة الأقصر، والموجود أغلبها بالمتحف المصرى بميدان التحرير حاليًا.
كشفت مقبرة الفرعون الذهبى الملك توت عنخ آمون كيف كانت الثروة وكيف كان الجَمال متجسدًا فى آثار مصر الفرعونية، وهى آثار ملك لم يحكم طويلًا ومات صغيرًا فى أوائل القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وهو لايزال بعد فى الثامنة عشرة من عمره، فما بالنا بآثار ملوك عظماء أمثال: تحتمس الثالث وأمنحتب الثالث وأخناتون ورمسيس الثانى العظيم، وساهم الاكتشاف فى تزايد حمى «الإيجيبتومانيا» (الولع أو الهوس بمصر) فى جميع أنحاء العالم؛ خصوصًا فرنسا.
فى الرابع من نوفمبر 1922م، كان الإنجليزى هوارد كارتر على موعد مع الرمال المصرية لتمّن عليه وتكشف له عن واحد من أهم أسرارها الدفينة ليحقق حلم حياته بعد طول عناء وتعب بالكشف عن مقبرة الفرعون الذهبى الملك توت عنخ آمون؛ ذلك الأثر الفريد من نوعه الذى أذهل العالم، وأصبح أهم اكتشاف أثرى فى القرن العشرين.
انطلقت أسطورة الملك الشاب تغزو أرجاء العالم كله، وأصبح الفرعون الشاب الذى لم يجلس على العرش أكثر من تسع سنوات، بين عشية وضحاها، أشهَر ملك فى تاريخ الإنسانية، وثبت من دراسة مقتنيات مقبرة الملك توت أنها لم تكن تخصُّه وحده، بل كان أغلبها مقتنيات سَلفَيْه المَلكين: والده أخناتون والملك سمنخ كارع، وتم تجميعها على عَجَل لإتمام مراسم دفن الملك الشاب الذى مات نتيجة تأثره بعدوَى، وألهبت المقتنيات والطريقة التى اكتشفت بها خيال الباحثين والمُولعين بالآثار وأساطيرها، فنسجوا العديد من القصص والحكايات حول حياة الملك ووفاته، ومن هنا نشأت أسطورة الملك توت.
تُعتبر مقبرة الملك توت عنخ آمون المقبرة المَلكية الوحيدة التى وصلت إلى أيدينا كاملة؛ فبَعد وفاة الملك توت بـ200 عام، قام عمال بناء مقبرة الملك رمسيس السادس، من ملوك الأسرة العشرين، دون قصد، برَمْى الأحجار والرمال المستخرَجة من حفر مقبرته فوق مدخل مقبرة توت عنخ آمون، وشيّدوا أكواخ عملهم فوق الرديم، ولولا المصادفة العجيبة لما نجت مقبرة الفرعون الشاب من أيدى لصوص المقابر، ولمّا وجدها «كارتر» فى صبيحة الرابع من نوفمبر عام 1922م بعد بحث دام خمس سنوات طوال.
فى عام 1917م، حصل اللورد هربرت إيرل كارنافون الخامس (1866 - 1923م) على موافقة مصلحة الآثار المصرية بالتنقيب فى وادى الملوك، وكان حلم هوارد كارتر (1873 - 1939م) العثور على مقبرة الفرعون الصغير توت عنخ آمون بين مقابر وادى الملوك؛ فطلب اللورد «كارنافون» من كارتر أن يُجرى الحفائر لحسابه فى وادى الملوك، وكان كارتر يتمتع بسمعة أثرية طيبة؛ فقد سبق له اكتشاف مقبرة الملك تحتمس الرابع عام 1903م بمساعدة الأمريكى تيودور ديفيز.
وبدأت الحفائر فى العام نفسه، ومضى دون أى نتائج مشجعة، وتذكّر كارتر كل ما قاله أسلافه علماء الآثار السابقون أمثال: جان- فرانسوا شامبليون وجاستون ماسبيرو وجيوفانيبلزونى من أن الوادى قد لفظ كل ما بداخله من آثار، ولم ييأس كارتر وواصل العمل بجدّيّة وصبر.
كانت ثقة كارنافون تدفعه وحبه وصبره يشدان من أزره، واستمر الحفر خمس سنوات أخرى دون نتائج مرجوة، ومرّ صيف عام 1922م، كان كارتر يؤمن أنه سوف يعثر على مقبرة ذات يوم، إلا أن اللورد كارنافون بدأ يهمل الأمر كليةً ويدعه جانبًا؛ فطلب كارتر منحه فرصة أخيرة، واستمر الحفر فى مساحة صغيرة مثلثة الشكل أمام مقبرة الملك رمسيس السادس، لم يسبق الحفر فيها، وكان كارتر فى مأزق حقيقى إنْ لم يعثر على مقبرة، فسوف يرحل اللورد إلى إنجلترا ويفقد التمويل المادى وتذهب جهوده المضنية لسنوات طوال وأحلامه أدراج الرياح.
لم يكن يعلم كارتر أن صباح الرابع من نوفمبر هو يوم مَجده، يقول كارتر فى كتابه عن مقبرة الملك توت عنخ آمون: «هذا هو بالتقريب الموسم الأخير لنا فى الوادى بعد تنقيب دام ستة مواسم كاملة، وقف الحفارون فى الموسم الماضى عند الركن الشمالى الشرقى من مقبرة الملك رمسيس السادس، وبدأت هذا الموسم بالحفر فى هذا الجزء متجهًا نحو الجنوب، وكان فى هذه المساحة عدد من الأكواخ البسيطة التى استعملها كمساكن للعمال الذين كانوا يعملون فى مقبرة الملك رمسيس السادس».
ويضيف: «استمر الحفر حتى اكتشف أحد العمال درجة منقورة فى الصخر تحت أحد الأكواخ، وبعد فترة بسيطة من العمل، وصلنا إلى مدخل منحوت فى الصخر بعد 13 قدمًا أسفل مهبط المقبرة، وكانت الشكوك وراءنا بالمرصاد من كثرة المحاولات الفاشلة، فربما كانت مقبرة لم تتم بعد، أو أنها لم تُستخدَم، وإن اُستخدمت فربما نُهبت فى الأزمان الغابرة، أو يُحتمل أنها مقبرة لم تُمَس أو تُنهَب بعد. كان ذلك فى يوم 4نوفمبر 1922م».
أرسل كارتر برقية سريعة إلى اللورد كارنافون يقول فيها: «أخيرًا، اكتشاف هائل فى الوادى، مقبرة كاملة بأختامها، كل شىء مغلق لحين وصولك. تهانينا».. وهكذا سقطت مزاعم علماء الآثار أمثال: شامبليون وماسبيرو وبلزونى ممن عملوا فى وادى الملوك وزعموا أنه لم يعد هناك شىء فى باطنه.
وتوالت بعد ذلك مراحل الكشف الأخرى إلى أن تم نقل محتويات المقبرة إلى المتحف المصرى فى القاهرة لتظل شاهدة على حضارة لم ولن تندثر أبدًا، وتعتبر المجموعة من أعظم آثار العالم قديمه وحديثه وآثار مصر الفرعونية، وسوف تُخصص قاعات بالمتحف لعرض آثار الفرعون الذهبى منذ الميلاد إلى الممات، بطريقة جديدة وفى مساحة تبلغ نحو 7 أضعاف المساحة الحالية المعروضة بها فى المتحف المصرى بميدان التحرير؛ حيث سيتم عرض آثار الفرعون الذهبى مجتمعة لأول مرّة.
الدرج العظيم
من المقرر أن يعرض على الدرج العظيم بالمتحف المصرى الكبير عدد كبير من أهم وأروع الأعمال الفنية التى جاءت من مصر القديمة، وتُمثل أشهَر الملوك والمَلكات والنبلاء والنبيلات فى مصر القديمة ورجال البلاط ورجال العسكرية المصرية العريقة.
تبلغ مساحة الدرج العظيم ستة آلاف متر مربع بارتفاع نحو ستة أدوار وعدد القطع المعروضة عليه نحو 87 قطعة أثرية ضخمة رائعة، وسيعطى السلم فكرة سريعة ومهمة وخاطفة للزائر عن أعظم الشخصيات المصرية القديمة وروائع الفن المصرى القديم من مختلف المواد والأوضاع والوسائط الفنية المختلفة عبر العصور التاريخية المصرية القديمة.
مراكب خوفو
من المقرر عرض مركبَىّ الملك خوفو، بعد الانتهاء من ترميم مركب خوفو الثانى ونقل المركب الأول، فى متحف مستقل فى أرض المتحف المصرى الكبير خلف مبنى المتحف الرئيس، وتم نقل أغلب أخشاب المركب الثانى، بعد ترميم الأخشاب بواسطة بعثة «مصرية- يابانية»، إلى المتحف المصرى الكبير.
وتقع الحفرة الموجود بها أخشاب ومكونات المركب جنوب هرم الملك خوفو بهضبة أهرام الجيزة، مغطاة بعدد من الكتل الحجرية، وكانت تحوى الحفرة الأخشاب التى يتكون منها المَركب، ويُطلق على المركب خطأً «مركب الشمس»؛ حيث تعددت الآراء حول وظيفة وتسمية المَركب فى مصر القديمة، فالبعض رأى أنه مركب جنائزى، والبعض الآخر ظن أنه مركب شمسى.
كانت حفر المراكب حول الأهرام من بين أهم عناصر المجموعة الهرمية فى الدولة القديمة، وتتضمن الحفر مراكب جنائزية استخدمت لنقل جثمان الملك إلى الأماكن المقدسة لإله الموتى أوزير ثم نقله إلى الجبانة، وكانت تتضمن أنواعًا من مراكب الشمس التى يمكن للمَلك أن يستخدمها فى زيارته لإله الشمس، أو تتضمن بعض المراكب كان يستخدمها المَلك لمرافقة إله الشمس فى رحلاته النهارية والليلية.
سيدة العالم
المتحف المصرى الكبير سيُعبر عن مفهوم الخلود فى مصر القديمة؛ ذلك المفهوم الذى قامت عليه حضارة مصر القديمة، وسيُكتب للمتحف الخلود، على وجه الزمن مثل الحضارة المصرية القديمة ورسالتها الخالدة، القائمة على حُب العِلم والإيمان والعمل والإبداع والتسامح والعدالة والتوازن الكونى والأخلاق.