الخميس 27 يونيو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

موسكو من ثقب إبرة

موسكو من ثقب إبرة
موسكو من ثقب إبرة


جودت هوشيار*


عاش الكاتب المصرى صنع الله إبراهيم بضع سنوات فى موسكو فى مطلع عقد السبعينيات طالبا فى معهد سينمائى بمنحة سوفيتية لأحد الأحزاب العربية اليسارية. وقد أصدر فى عام 2012 أى بعد حوالى أربعين عامًا من إقامته فى موسكو، وأكثر من عشرين عامًا على تفكك الاتحاد السوفيتى (رواية) بعنوان (الجليد)، وهى على شكل يوميات موزعة على 126 مقطعا، بعضها أقل من نصف صفحة، وبعضها الآخر صفحة واحدة أو أكثر قليلا. بطل الرواية شكرى طالب دكتوراه مصرى فى معهد (التأريخ المعاصر) ويقيم فى المنزل الطلابى (الأبشجيتى)، ولا يحسن من اللغة الروسية سوى بعض الكلمات والعبارات الدارجة. ويعيش فى دائرة مغلقة ضيقة هى غرف المنزل الطلابى،  ومرافقه الخدميّة، أو الشوارع القريبة من المنزل. يومياته متماثلة، فهو يفعل اليوم ما فعله بالأمس من دون أى تغيير يُذكر.

الراوى رجل فى الثالثة والخمسين مصاب بالتهاب البروستاتا، ولكن هذا لا يمنعه من إقامة علاقات حميمة عابرة مع عدد كبير من الطالبات من المنزل الطلابى الذى كان يسكن فيه، وأحياناً حتى مع نساء أخريات تعرّف عليهن فى المقاهى والمطاعم.
الرواية مكتوبة بضمير المتكلم (أنا). والراوى فى الرواية الحديثة هو فى العادة غير المؤلف، ولكن شاكر يشير فى إحدى يومياته إلى أنه صاحب رواية «أمريكانلى» وهذه إحدى روايات صنع الله نفسه. ونفهم من ذلك أن «الجليد» هى يوميات المؤلف/الراوى صنع الله. الراوى لا يهتم إلا بالجنس، ولا نرى فى يومياته أى تجليات للروح والعاطفة والشعور، وكل شىء يجرى على نحو آلى،  ليس ثمة لهفة لقاء أو خفقان قلب. العلاقة التى تبدأ فى كل مرة بالتعارف، ثم شرب الفودكا أو الكونياك، تنتهى غالبا  فى الفراش. يوميات لا يتغيّر فيها شىء سوى اسم الطريدة (مادلين، زويا، إميليا الإيطالية، فاليا، تاليا، فيرا اليهودية، أولجا، ناتاشا، لامارا، ليديا،إيزادورا، لاريسا، هيلين اليونانية، سفتلانا التشيكية، أنار الكازاخية، دينا الأوزبيكية التى يسميها دينكا، تمارا، لينا، يوديت المجرية وغيرهن).
«الجليد» رواية إيروسية، ولغتها بورنوغرافية خادشة للحياء.
تزييف واقع الحياة فى المنازل الطلابية وفى موسكو عموماً، على هذا النحو، يذكّرنى بما كتبه ليف تولستوى فى مقدمته الرائعة لأعمال موباسان الروائية والقصصية: «إن الكاتب الذى يصف الشعب على النحو الذى فعل موباسان، والذى لا يصف بتعاطف إلا «الأفخاذ والنهود» والخادمات البريتونيات فقط، يقع فى خطأ فنى كبير، لأنه يصف الموضوع من جانب واحد فحسب، هو الجانب المملّ، الجانب الحسّى،  ويهمل تماماً الجانب الأكثر أهمية – الجانب الروحى الذى يشكّل جوهر الموضوع.».
ويقول أيضاً: «إن الشعب الفرنسى لا يمكن أن يكون على هذه الصورة التى يصفونها. وإذا كانت ثمة فرنسا التى نعرفها بأبنائها العباقرة الحقيقيين، وبتلك الإنجازات التى حققها هؤلاء العظماء فى العلم والفن والحضارة والتكامل الأخلاقى للإنسانية، فإن الشعب العامل – الذى حمل ولا يزال يحمل على أكتافه فرنسا التى نعرفها بأُناسها العظماء – يتألف ليس من البهائم بل من أناس يتحلّون بصفات روحية عظيمة.».
لم يكن الواقع الروسى على النحو الذى يصفه صنع الله بنظرته الشرقية الذكورية.
لقد أتيح لى أن أعيش لسنوات عديدة فى المنزل الطلابى التابع للجامعة التى كنت طالباً فيها، ولفترات أطول من إقامة صنع الله فى أحد المنازل المماثلة العائدة للمعهد الذى كان يدرس فيه.
كل المنازل الطلابية كانت تخضع لضوابط صارمة: الطالبات فى الطوابق العليا والطلاب فى الطوابق السفلى. وكان يُمنع على الطلاب المبيت فى الطوابق العليا، ولا يُسمح لأحد بدخول المنزل، إلا بعد التحقق من شخصيته، وترك هويّته أو جواز سفره لدى المناوبة أو كما يسميها الراوى (صنع الله) حارسة الباب. وكان باب المنزل يُغلق فى الساعة الحادية عشرة مساءً. وإذا تأخّر أى زائر أو زائرة عن موعد الإغلاق تأتى المناوبة وتطلب خروجه أو خروجها من الدار على الفور.
رُبّ قائل، أن الواقع شىء والرواية شىء آخر، وهذا صحيح. ولكن الرواية الفنية الحقيقية تتّسم دائما بالصدق الفنى،  وتبدو منطقية ومقنعة. وثمة خطر جسيم يلازم نسج ما يناقض الواقع، فقد لا يصدقك الناس.
يوميات شكرى تسجيل مباشر لأحداث وأفعال يومية عادية لمراهق خمسينى من دون أى محاولة لتحويلها إلى عمل فنى،  فلا حبكة ولا نمو فى شخصية البطل، أو فى الشخصيات الثانوية، ولا سبر لأعماق عوالمها الداخلية وعواطفها وهمومها، ولا أفكار جديرة بالتأمّل.
كتب صنع الله عن موضوع لا يعرفه، وحاول إيهامنا أنه اطلع على الأدب الروسى،  ولكن كل ما عرفه الراوى عن الأدب الروسى كان عن طريق أصدقائه وصديقاته دون أن يكون قد قرأ شيئا من هذا الأدب باللغة الروسية، لأنه ببساطة لا يعرف هذه اللغة بما يكفى لقراءة وفهم الأعمال الأدبية. ومعظم المعلومات التى يوردها خاطئة وسنكتفى بمثالين فقط.
 يقول الراوى: «فتحنا زجاجات الشمبانيا والفودكا وتبادلنا الأنخاب. عرضت علينا (إيرما) ألبوم صورها وديوان شعر إسحق بابل الذى تعرّض للتعذيب فى لوبيانكا، مبنى المخابرات السوفيتية سنة 1939».
ولكن إسحق بابل لم يكن شاعراً قط، ولم يُنشر له سواء خلال حياته أو بعد إعدامه أى ديوان شعر، ولا حتى قصيدة واحدة، بل كان كاتباً قصصياً شهيراً.
ويقول الراوى: «فلاديمير فيسوتسكى، وهو نجم سينما شاب وممثل مسرحى حقق شعبية واسعة بين الشباب. قالت زويا إن بعض أغانيه تتناول موضوع معسكرات العمل فى سيبيريا، حيث قضى بعض الوقت قبل عام 1955».
 فيسوتسكى المولود عام 1938 لم يعتقل، ولم يقض فى أى معسكر للعمل ولو يوما واحدا، خلال حياته، وقبل عام 1955 كان صبيا لا علاقة له بالسياسة.
عاش الراوى فى موسكو فى وقت كانت فيه موجة الشعر الروسى الجديد طاغية على الحياة الثقافية السوفيتية، والجيل الجديد المتطلّع إلى التغيير والتجديد يقرأ بنهم لروّاد هذه الموجة (يفغينى يفتوشينكو، أندريه فوزنيسينسكى،  بيلا أحمدولينا وغيرهم). ولم يكن يمرّ أسبوع دون أن يلتقى شاعر أو كاتب ذائع الشهرة بالجمهور الظامىء إلى الكلمة الحرّة الجديدة. ومن عاش فى موسكو فى عقد السبعينيات، ولو لعدة أشهر، يعرف أنها كانت فى هذه الفترة زاخرة بالأنشطة الثقافية، حيث تُقدَّم على مسارحها الفنية الراقية عروض مسرحية رفيعة المستوى، وتُقام على قاعات الفنون التشكيلية فيها، معارض لرواد الاتجاهات الفنية ولفنانين شباب تجريبيين، كما أن موسكو غنية بمعالمها الحضارية ورموزها الثقافية. لا أثر لكل هذا فى يوميات طالب دكتوراه فى التأريخ.
لم يكن فى موسكو فى الحقبة السوفيتية ثمة ما يسمى بحياة الليل، فقد كانت كل المطاعم والمقاهى والبارات تطفىء أنوارها وتغلق أبوابها فى الحادية عشرة مساءً. وقد زار الكاتب والناقد الراحل د. لويس عوض روسيا فى عام 1971 أى فى السنة ذاتها التى التحق فيها الراوى بمعهد التأريخ فى موسكو. يقول عوض فى كتابه (رحلة الشرق والغرب): «أربعة عشر يوما قضيتها فى روسيا بين موسكو ولينينغراد وبعض الريف. لم أر فيها متعطلا أو شحاذا أو رجلا أو امرأة فى أسمال أو بغيّا تنساب بين مصابيح الشوارع. ولا شك أن هناك نماذج من هؤلاء  وأولئك، ولكنها نادرة لا تراها إلا العين المترصدة، ولم أر مخمورا رغم شهرة الروس فى قريعة الفودكا».
بالطبع كان هناك جنس فى روسيا كأى بلد آخر فى العالم. ولكن الغالب على العلاقات العاطفية بين الجنسين كان الحب الحقيقى المتبادل. كان النظام السوفيتى متزمتاً جداً، لا مشاهد قبلات فى الأفلام أو فى العروض المسرحية، ولا أى وصف صريح للعلاقات الحميمة بين الجنسين فى الروايات. وكان ثمة حذر من الأجانب زرعه النظام فى النفوس. ولم يكن من السهل أن يقيم الطالب الأجنبى علاقة حميمة مع طالبة سوفيتية رزينة، إلا بعد لقاءات عديدة حيث يتعرّف كل منهما على الآخر جيدا، وتنشأ بينهما علاقة حب.
* كاتب ومترجم عراقى