
محمد جمال الدين
مقترح تخطاه الزمن
أعلم كما يعلم غيرى أن هناك الكثير من رجال السياسة والفكر والإعلام والاجتماع، وكل من يجتهد فى مجاله يقومون بين الوقت والآخر بطرح مقترحات أو أفكار بهدف الوصول إلى الصورة المثلى لمجتمعنا المصرى (طبقا لوجهة نظرهم بالطبع)، البعض من هذه الأطروحات قد ينجح، وبعضها الآخر يجانبه الصواب لعدة أسباب، قد يكون من ضمنها عدم ملاءمة هذا المقترح للوقت الذى طرح فيه، أو نتيجة لمخالفته لدستور البلاد وقوانينها، لكنهم فى النهاية يكفيهم شرف الاجتهاد والمحاولة لخدمة الوطن.
السطور السابقة سببها المقترح الذى يطالب فيه الدكتور أسامة الغزالى حرب، بإعادة إحياء الألقاب المدنية فى مصر، وعلى رأسها لقب «الباشا»، لكن بصيغة جديدة تتماشى مع متغيرات الواقع الاقتصادى والاجتماعى. جاء هذا الطرح فى مقال له، اقترح فيه منح ألقاب تشريفية مقابل مساهمات مالية كبيرة يقدمها الأثرياء لصالح الدولة. حيث يرى أن قرار إلغاء الألقاب منذ أكثر من 70 عامًا حرم المجتمع من وسيلة فعالة لتكريم الشخصيات العامة ذات الإنجازات الرفيعة فى مجالات الثقافة والصناعة والزراعة، مستشهدًا بالنموذج البريطانى، حيث لا تزال الألقاب مثل «سير» و«فارس» تُمنح تقديرًا لشخصيات بارزة، مثل الجراح المصرى العالمى الدكتور مجدى يعقوب، الذى حصل على لقب «سير» من الملكة إليزابيث الثانية عام 1991. ثم عاد واقترح فى نفس المقال عودة منظمة لهذه الألقاب، من خلال إنشاء هيئة متخصصة تتولى الترشيحات وفق معايير صارمة، ثم تُعرض على البرلمان للموافقة. وأشار إلى أن هذه المبادرة يمكن أن تسهم فى تحفيز أصحاب الثروات الكبيرة على المساهمة فى الحياة العامة والتنمية.. وضرب مثالًا بقائمة رمزية لأسماء يراها مؤهلة للحصول على هذه الألقاب فى حال اعتماد النظام، مثل: نجيب باشا ساويرس، وطلعت باشا مصطفى، ومحمد باشا أبو العينين، ومنير فخرى باشا عبدالنور، وناصف باشا ساويرس، وغيرهم من رجال الأعمال المعروفين، وأوضح الغزالى أن الهدف من الاقتراح ليس فرض ضرائب، بل إيجاد آلية تشجيعية تمنح الأثرياء شعورًا بالتقدير والمكانة الاجتماعية الرفيعة، من خلال ألقاب رمزية ذات طابع تاريخى وثقافى عريق، مؤكدا فى ذات الوقت أن منح لقب «الباشا» لا يعنى العودة إلى النظام الطبقى أو الأرستقراطى، بل يُعد بمثابة «وسام شرف» أو «درجة تكريمية» تمنح مقابل مساهمة حقيقية فى دعم الاقتصاد الوطنى.
وما كاد الرجل ينشر اقتراحه حتى انهالت عليه سهام الهجوم اللا أخلاقى والتجريح فى شخصه لمجرد صاحب هذا طرحه الذى يطالب فيه بعودة الألقاب الملغاة وفى مقدمتها لقب (باشا)،هجوم أثبت بالدليل القاطع أننا افتقدنا لغة الحوار والنقاش العقلانى، ولم يعد بيننا من يتقبل اختلاف وجهات النظر، بالمناسبة أنا لا أدافع عن الدكتور أسامة الغزالى ولا أتبنى وجهة نظره، ولكن كان من الأجدى أن يناقش ما طرحه بموضوعية ويفند ما ذكره بهدوء بدلا من الصوت العالى والاتهامات والتجريح التى لم يكن لها أدنى دخل بما ذكره.
ورغم احترامى لجهد وشخص الغزالى فإننى أرى أن دعوته قد تجاوزها الزمن وتفتقد للمنطق، خاصة وأن البلاد تمر بأزمات كبيرة وتواجه تحديات خارجية وإقليمية، تحتاج لأفكار وخطط غير تقليدية لمواجهتها، وليس اقتراحات بالعودة لطقوس وتقاليد عصور قديمة، بخلاف أن دعوته تتعارض أصلا مع نص المادة 26 من الدستور التى حظرت بشكل كامل إنشاء الرتب المدنية، حتى لا يترسخ فى مجتمعنا طبقية مقيتة سبق وأن وضعت ثورة 23 يوليو حدا نهائيا لها، معتمدة فى ذلك على نظام سياسى يعتمد على المساواة بين جموع الشعب المصرى، لذلك تعد دعوته تراجعًا عن مبادئ العدالة الاجتماعية التى أرستها ثورة يوليو، ويكفينا ما نحن فيه حاليا من ألقاب تخلع على كل من هب ودب، دون أن يدرس أو يتعلم أو حتى يقرأ (مع احترامى الواجب لهؤلاء ومهنهم).
ثم نأتى للأمثلة التى ذكرها الغزالى فى مقاله، وهم بالطبع من كبار أغنياء مصر الذين شملهم اقتراحه فقط، (دون غيرهم من كبار علماء مصر فى مجالات أخرى بعيدة جل البعد عن المال)،هؤلاء يادكتور لم يطلبوا لقبًا أو غيره، ويقدمون ما يمليه عليه واجبهم وضميرهم وفق إمكانياتهم وقدراتهم، دون ضغط أو إملاءات من أحد، وأعتقد أن مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية تقوم بدورها على الوجه الأكمل لخدمة مصر والمصريين فى مجالات عديدة، وكذلك مؤسسة أبو العينين، ومجموعة طلعت مصطفى، هؤلاء يقدمون الخير والعناية دون أن ينالوا شرف الباشوية التى تريد خلعها عليهم.
وأخيرا نأتى للقبى سير وفارس التى تمنح فى بريطانيًا، فهى بالمناسبة تمنح لتقدير علمى كما حدث مع الدكتور مجدى يعقوب أو فى مجال التمثيل لورنس أوليفييه، ونالها أيضا رجل الأعمال المصرى محمد منصور فى مجال الخدمات الخيرية والتنمية الاجتماعية، وفى مجال كرة القدم حصل عليها ألف رمزى وأليكس فيرجسون وبوبى تشارلتون وكينى دالجليش، وفى عالم الغناء المغنى إلتون جون وغيرهم كثر، هؤلاء لم يطلبوا الحصول على ألقاب ولكن القوانين هناك تمنح ملكة أو ملك بريطانيا ذلك، هذا الحق غير متوفر أو متاح عندنا طبقا لدستور بلدنا، الذى تحاول الخروج عنه، حتى ولو كان مقصدك وغايتك نبيلة.