من اليابان إلى الصومال.. هل من مزيد؟ الحرب الأمريكية تاريخ لا ينتهى

تريد أن تتخيل شكلاً آخر من أشكال الشرطة؟ إذن تخيل التاريخ دون حقبة استعمارية. من هذا المنطلق، يحلل أستاذ علم الاجتماع بجامعة شيكاغو، جوليان جو، فى مقالته المكتوبة لمجلة «فورين أفيرز» الأمريكية، رحلة تاريخية شائقة بالحضور الاستعمارى لأمريكا فى آسيا وأمريكا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية.. فالدولة التى يطلق عليها «شرطى العالم» أقدمت على مدار تاريخها (249 عامًا) على عدد لا بأس به من الحروب والغزوات للدفاع عن حقوق وحريات الشعوب (وفق منطقها) ومنذ إعلان استقلالها فى الرابع من شهر يوليو 1776.
خاضت الولايات المتحدة الأمريكية العديد من الحروب فى مختلف دول العالم، هذه الحروب أفقدت الولايات المتحدة آلاف البشر ومليارات الدولارات، وعلى الرغم من تصريحات وزير الدفاع الأمريكى لويد أوستن عام 2021 أن «الحروب التقليدية استنزفت أمريكا وقد ولى عهدها». فإن الأمر يختلف عندما نتحدث عن إسرائيل، أو عدو أمريكا اللدود روسيا.. لكن الأمر اختلف هذه المرة بعد مرور نحو القرنين فبدلًا من التدخل الأمريكى مباشرة أصبحت يد السلاح هى الأقرب والأقوى.. وكذلك يد «الفيتو» الذى يوقف أن قرار دولى حتى ولو كان رمزيًا فقط.. يد أمريكا مازالت ملوثة بدماء الملايين والبقية تأتى.
الفلبين.. مليون شهيد
ارتكبت القوات المسلحة الأمريكية جرائم حرب فى أوقات متعددة ومحددة فى تاريخها. غالبية هذه الجرائم -وليس كلها- تندرج تحت قوانين المحكمة الجنائية الدولية واتفاقيات جنيف وقوانين الحرب الموجودة فى القانون الدولى. يمكن ملاحقة جرائم الحرب من خلال قانون جرائم الحرب لعام 1996 فى الولايات المتحدة، ولكن حكومة الولايات المتحدة لا تقبل بسلطة المحكمة الجنائية الدولية على قواتها العسكرية.
ومنذ 1899 بدأت الولايات المتحدة حربها فى الشرق الآسيوى وبدأتها مع قوات الجمهورية الفلبينية، فيما تعرف باسم معركة مانيلا، حيث أعلنت جمهورية الفلبين الأولى الحرب رسميًا ضد الولايات المتحدة. انتهت الحرب رسميًا فى 2 يوليو 1902 بانتصار الولايات المتحدة ومقتل ما يقرب من مليون و500 ألف مدنى.
اليابان.. الإبادة بتجارب النووى
وفى أعقاب الحرب العالمية الأولى، تبنت اليابان مبدأ لا يستبعد دخول بحريتها فى حرب ضد الولايات المتحدة، ولذلك درس العسكريون اليابانيون بدقة العدو المحتمل، بالمقابل كانت الولايات المتحدة منزعجة تماما من سعى الامبراطورية اليابانية إلى توسيع نفوذها فى جنوب شرق آسيا.
العلاقات بين واشنطن وطوكيو توترت فى ذلك الوقت، وجمدت إدارة فرانكلين روزفلت فى يوليو عام 1941 الأصول المالية اليابانية على أراضيها وتوقفت عن بيعها النفط، وذلك بعد أن احتلت القوات اليابانية ما كان يعرف بمنطقة «الهند الصينية الفرنسية»، كما انضمت بريطانيا وهولندا إلى ذلك الحظر.
ذلك الحظر النفطى كان بالنسبة لليابان الفقيرة بموارد الطاقة والمواد الخام، بمثابة ضربة خطيرة، ووقف بيع النفط أيضًا يعد النقطة الأكثر ضعفًا بالنسبة للبحرية اليابانية التى كانت تبلغ احتياطاتها من زيت الوقود 6 ملايين ونصف طن، وكانت فى تناقص فى كل يوم، وكانت تغطى الاحتياجات بحد أقصى لا يتجاوز الأربع سنوات.
فى تلك الآونة أجرت الولايات المتحدة واليابان بين شهرى أبريل ونوفمبر عام 1941 مفاوضات لحل الإشكالات بينهما إلا أنهما فشلتا فى ذلك، فكانت الكلمة كما هى العادة فى مثل هذه الحالات لـ«العسكريين أصحاب الأحذية الثقيلة».
الأدميرال ياماموتو القائد العام للأسطول الحربى اليابانى وضع خطة جريئة لمهاجمة قاعدة بيرل هاربور، القاعدة الرئيسة لأسطول المحيط الهادئ الأمريكى.. كان الأدميرال اليابانى الشهير يأمل فى أن يتم تدمير حاملات الطائرات الأمريكية التابعة لأسطول الحيط الهادئ إضافة إلى البوارج الكبيرة ما من شأنه أن يضع المبادرة الاستراتيجية فى يد اليابان، ويمنع الأمريكيين أيضا من التصدى للهجوم اليابانى فى جنوب المحيط الهادئ بهدف السيطرة على المناطق الغنية بالنفط.
أخذ الأمريكيون فى بيرل هاربور على حين غرة، وألقيت فى موجات متتالية من الغارات الجوية القنابل والطوربيدات على السفن الحربية الأمريكية الراسية فى الميناء، وتم تدمير البارجة أريزونا والبارجة أوكلاهوما وتم تعطيل قسم من أسطول المحيط الهادئ الأمريكى ما يعد فشلا للخطة التى كان يراد بها تحييد كامل الأسطول الأمريكى فى المنطقة، وتعطيل ميناء بيرل هاربور لأطول فترة، وقتل فى الغارات اليابانية على بيرل هاربور حوالى 2500 عسكرى أمريكى، فيما خسر اليابانيون 64 عسكريًا و29 طائرة فقط.
فى 8 ديسمبر 1941، خاطب الرئيس الأمريكى روزفلت الكونجرس قائلاً: إن الولايات المتحدة «تعرضت لهجوم جبان وغير مبرر من قبل القوات البحرية والجوية لإمبراطورية اليابان...أطلب من الكونجرس إعلان حالة الحرب».
روزفلت افتتح حرب الانتقام من اليابانيين، وأكمل هارى ترومان الذى خلفه فى منصب الرئاسة فى عام 1945، المهمة بإجبار اليابان على الاستسلام بعد هزيمتها وخسارتها معظم قواتها البحرية والجوية. استعمال ترومان السلاح النووى لأول مرة فى التاريخ ضد مدينتين هيروشيما ونجازاكى فيما يشبه ضمنيا تنفيذ حكم إعدام نووى.
وأسقطت الولايات المتحدة القنبلة الأولى - التى سميت بـ«الولد الصغير» - على هيروشيما، ويعتقد أن ما لا يقل عن 70 ألف شخص لقوا مصرعهم على الفور، فى الانفجار الضخم الذى دمر المدينة، كما توفى عشرات الآلاف جراء الإصابات الناجمة عن التسمم الإشعاعى، فى الأيام والأسابيع والأشهر التالية.
وعندما لم يأت استسلام فورى من اليابانيين، تم إسقاط قنبلة أخرى، أطلق عليها اسم «Fat Man» أو «الرجل البدين»، بعد ثلاثة أيام على بعد نحو 420 كيلومترا إلى الجنوب فوق مدينة ناجازاكى.
وتعتبر أعداد القتلى المسجلة هى مجرد تقديرات، لكن يعتقد أن نحو 140 ألفًا من سكان هيروشيما، البالغ عددهم 350 ألفًا قد قتلوا، وأن نحو 74 ألفا آخرين على الأقل لقوا حتفهم فى ناجازاكى.
مليون أمريكى لهزيمة كوريا
بدأ التاريخ العسكرى للولايات المتحدة خلال الحرب الكورية فى سياق هزيمة اليابان على يد قوات الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية والتى بشرت بنهاية 35 عامًا من الاحتلال اليابانى لشبه الجزيرة الكورية وأدت إلى تقسيم شبه الجزيرة إلى منطقتين؛ منطقة شمالية يحتلها الاتحاد السوفيتى ومنطقة جنوبية تحتلها الولايات المتحدة. بعد أن فشلت المفاوضات بالتوحيد، أصبحت الأخيرة جمهورية كوريا أو كوريا الجنوبية فى أغسطس 1948 بينما أصبحت الأولى جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية أو كوريا الشمالية فى سبتمبر 1948.
فى 1950، بدأ غزو كورى شمالى الحرب الكورية، والتى شهدت تدخلًا واسعًا من الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة لدعم الجنوب، بينما حصل الشمال على الدعم من الصين والاتحاد السوفيتى.
دخل نحو مليون و780 ألف جندى أمريكى فى الحرب الكورية، وقُتل منهم 36,574 وجُرح 103,284 وأُسر 4,714.
كان هارى إس ترومان رئيس الولايات المتحدة فى بداية الحرب بينما قاد دوايت أيزنهاور البلاد فى نهاية الحرب، والذى تولى منصبه خلفًا لترومان فى يناير 1953.
زعمت الصين وكوريا الشمالية أن قوات الأمم المتحدة شاركت فى حرب بيولوجية وهو ما شكل نقطة جدلية أخرى. وأصبحت الحرب فى النهاية قضية رئيسية فى الانتخابات الرئاسية فى نوفمبر 1952 ساهمت بفوز أيزنهاور.
فيتنام.. الألم المبرح
عام 1961، اتخذت الإدارة الجديدة للرئيس جون كينيدى نهجًا جديدًا لمساعدة القوات المناهضة للشيوعية فى فيتنام والتى تختلف عن إدارات الرئيسين ترومان وأيزنهاور، اللتين شعرت أن الدولة المجاورة لاوس كانت عقبة أمام محاربة تهديد الشيوعية فى جنوب شرق آسيا.
خلال عام 1961، أول عام له فى المنصب، خصص كينيدى 28.4 مليون دولار لتوسيع الجيش الفيتنامى الجنوبى و12.7 مليون دولار لتعزيز الحرس المدنى. ووجد نفسه فى مواجهة أزمة من ثلاثة أجزاء: فشل غزو خليج الخنازير فى كوبا. بناء السوفييت جدار برلين وتسوية تفاوضية بين حكومة لاوس الموالية للغرب وحركة باثيت لاو الشيوعية.
الخوف من أن يؤدى فشل آخر من جانب الولايات المتحدة فى وقف التوسع الشيوعى إلى إلحاق ضرر قاتل بمصداقية الولايات المتحدة مع حلفائها، مما دعا كينيدى لتأكيد التزامه الدفاع عن جنوب فيتنام فى 11 مايو فى مذكرة الأمن القومى رقم 52، التى أصبحت تُعرف باسم «البرنامج الرئاسى لفيتنام».
وكان كينيدى مفتونًا بفكرة استخدام القوات الخاصة للجيش الأمريكى فى صراعات مكافحة التمرد فى دول العالم الثالث المهددة بـ«حروب التحرير الوطنية» الجديدة. بوصفها كانت مخصصة فى الأصل للاستخدام خلف الخطوط الأمامية بعد الغزو التقليدى لأوروبا، اعتقد كينيدى أن تكتيكات حرب العصابات التى تستخدمها القوات الخاصة ستكون فعالة فى حرب «الفرشاة» فى جنوب فيتنام. وهكذا، فى مايو 1961، أرسل كينيدى 500 مستشار عسكرى من «القبعات الخضراء» إلى جنوب فيتنام، ليصل عدد القوات الأمريكية هناك إلى 1400. مع زيادة الميزانية ومع وجود التمهيد الأمريكى على الأرض فى فيتنام بحلول عام 1961 على الأقل، أصبحت هذه الإجراءات موضع تساؤل من قبل قطاعات أخرى من الحكومة الأمريكية وبين شعب الولايات المتحدة. فى النهاية، تتراوح تقديرات عدد الجنود والمدنيين الفيتناميين الذين قتلوا من 966000 إلى 3812000. كما تشير سجلات عام 2017 الأمريكية إلى أن الصراع أدى إلى مقتل 58318 أمريكيًا.. وقد بلغت أعداد جرائم الحرب الموثقة لدى البنتاجون 360 حادثة. ليس من ضمنها مجزرة ماي-لاى، والتى راح ضحيتها 347-504 مدنى فى فيتنام الجنوبية، أغلبهم نساء وأطفال فى 16 مارس 1968.
ومن ضمن جرائم الحرب الأمريكية فى فيتنام استخدام الرش الكيماوى لتدمير وحرق وإتلاف البشر والحقول والقرى، مثل الرش البرتقالى والأزرق والأخضر، وكانت عملية رانش-هاند والتى وقعت سنة 1962 واستمر تأثيرها حتى 1971 خير مثال على ذلك.. وأقرت فيتنام عام 1995 أن عدد القتلى فى الحرب يتراوح بين 4 و5 ملايين شخص، منهم مدنيون عُزّل. فى حين كان وزير الدفاع حينما ماكنامارا قال فى لقاء متلفز لاحقا أن عدد القتلى 3 ملايين 400 ألف.
نهاية الجيش الأمريكى فى الصومال
منذ العام 1992 تدخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر أو غير مباشر بالصومال، لكنها واجهت انكسارات أكثر من الانتصارات.
وفى ديسمبر 1992 أطلقت الولايات المتحدة عملية أطلقت عليها «إعادة الأمل»، قالت إن الغرض منها مساعدة ضحايا المجاعة وإعادة السلام فى الصومال الممزق بسبب معارك أمراء الحرب فيه، غير أنها اضطرت للانسحاب من هناك بعد مقاومة الصوماليين لها بعنف.
وقادت واشنطن قوة دولية ضمت 38 ألف جندى بينهم 28 ألف أمريكى فى إطار اهتمام متزايد بمنطقة القرن الأفريقى عقب حرب الخليج الثانية عام 1991، كما كانت إدارة الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون تسعى لإثبات قدرة القوات الأمريكية على تنفيذ مهام إنسانية.
فى مايو 1993 تولت الأمم المتحدة قيادة عملية حفظ السلام فى إطار مهمة أطلق عليها «عملية الأمم المتحدة فى الصومال» (UNOSOM. وكانت المهمة تهدف إلى تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين الفصائل الصومالية وتوفير الأمن فى الموانئ والمطارات والطرق الرئيسة لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية.
إلى جانب الجنود الأمريكيين شاركت قوات دولية أخرى غير أن العملية الدولية كسابقتها الأمريكية منيت بفشل ذريع وقتل 151 جنديًا أمميًا.
وقتل نحو 30 جنديًا من الجيش الأمريكى فى معارك مع قوات الجنرال محمد فرح عيديد الذى نفذ العديد من الهجمات فى جنوب مقديشو، أما أكثر الأيام دموية للقوات الأمريكية فى الصومال فكان الثالث من أكتوبر فى العام نفسه حيث أسقطت مروحيتان أمريكيتان وانتهت بمقتل 18 جنديا سحلت جثث بعضهم فى شوارع مقديشو.
وكانت الصدمة التى سببها هذا المشهد للأمريكيين السبب الرئيس فى إعلان بيل كلينتون سحب قواته وغادر آخر جندى أمريكى الصومال فى نهاية مارس 1994. واختارت واشنطن على مدى عقد من الزمان أن تنأى بنفسها عن الصومال.
قذائف «الملاك الرحيم»
فى عام 1999 اتسمت الحملة الجوية التى نفذها الناتو ضد يوغسلافيا بين 24 مارس إلى 10 يونيو، بعنف مفرط، واستخدمت فيها الولايات المتحدة قذائف مشعة وقنابل عنقودية وأسمتها «الملاك الرحيم».
جاء التدخل الأجنبى للقوى الغربية تتويجا لحرب كوسوفو التى اندلعت فى فبراير 1998 على خلفية انتفاضة للانفصاليين الألبان فى كوسوفو.
وقصفت الولايات المتحدة فى تلك الحملة التى نفذتها قوات جوية تابعة لحلف شمال الأطلسى من دون تفويض من الأمم المتحدة، المنشآت العسكرية والمدنية على حد سواء، ودمرت عن قصد قطاعات من اقتصاد الخصم، وتم إسقاط أكثر من 21 ألف طن من المتفجرات من قبل قوات حلف الناتو، بما فى ذلك أنواع من الذخيرة ذات الشوائب المشعة، وخاصة اليورانيوم المنضب «يو - 238».
وفيما لم يتم تحديد عدد العسكريين والمدنيين الذين قتلوا خلال تلك العملية بدقة، إلا أن تقديرات السلطات الصربية، أشارت إلى مقتل حوالى 2500 شخص خلال القصف، من بينهم 89 طفلاً، علاوة على إصابة 12500 شخص.