السبت 11 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

وانطفأ قمر ليالى الحلمية صلاح السعدنى.. السيرة أطول من العمر

لم يكن «صلاح السعدنى» مجرد فنان صاحب موهبة استثنائية لكنه كان بالأساس إنسانًا صاحب موقف، يمتلك فلسفة خاصة منحازة فى جوهرها إلى الوطن، بتاريخه العظيم، وبحكم النشأة والتكوين، كان لدى «صلاح السعدنى» قدر كبير من الثقافة التى مكنته من تشريح هموم الوطن بمشرط جراح عليم بمواطن العطب، والضعف، وقد انعكست تلك الفلسفة بطبيعة الحال على أعماله التى قدمها على مدار مشواره الذى بدأ أولى خطواته منذ الستينيات فكتب لها الخلود، لأنها استطاعت بسهولة أن تمس وجدان كل صاحب ضمير حى، وفطرة سليمة.



 

ومن لم يدرك قيمة «صلاح السعدنى» وحجم تأثيره على المصريين، سيصعب عليه استيعاب طوفان الحزن الجارف الذى اجتاح الجمهور بعد إعلان نبأ رحيله، على اعتبار أن الرجل كان غائبا بالفعل بعد أن قرر أن يطل على الحياة من بعيد، حيث امتنع عن الظهور لمدة تزيد على عشر سنوات منذ آخر مسلسل قدمه والذى يحمل عنوان (القاصرات) من إخراج «مجدى أبو عميرة» فيما عدا بعض الصور التى كان ينشرها له نجله «أحمد» على صفحته الشخصية، لكن تلك الصور- رغم ندرتها- كانت تبعث فى نفس محبيه قدرا من الراحة والرضا بأن جزءًا من ذكرياتهم وأحلامهم وأيامهم الحلوة لا يزال يحيا بينهم، وبرحيله عن دنيانا تحققت نبوءة الشاعر الراحل «سيد حجاب» التى كتبها فى تتر مسلسله الشهير (أرابيسك) حيث شعرنا جميعا بانفلات الزمن من بين أيدينا كأنه (سحبة قوس فى أوتار كمان). 

 مواقف مدفوعة الثمن

لا شك أن للكاتب الكبير «محمود السعدنى» تأثيرا كبيرا على شقيقه الأصغر «صلاح» بحكم القرب الشديد بينهما، والذى نتج عن تحمل (الولد الشقى) مسئولية أشقائه الأصغر بعد أن رحل عنهم والدهم مبكرا، فضلا عن كونه النموذج والقدوة، حيث تعرف «صلاح» من خلاله على رموز الوطن وأكابره، وخلال سنوات التكوين، نهم «صلاح السعدنى» من ذلك المنجم المتنقل، حيث الثقافة الموسوعية، والانشغال بهموم الوطن والاشتباك مع قضاياه، لكن تأثير الشقيق الأكبر إمام الساخرين «محمود السعدنى» على شقيقه «صلاح» امتد إلى ما هو أبعد من ذلك، ليساهم بشكل أو بآخر على مسيرته الفنية التى تعطلت فى البدايات مقارنة بأصدقائه «عادل إمام، وسعيد صالح» وفى كتابه (المضحكون) شرح «محمود السعدنى» أسباب ذلك بالتفصيل، حيث قال (صلاح لا بد أن يشق طريقه إلى القمة يوما ما رغم وقوفه الآن محلك سر فى سرداب الفن الطويل، ولعل وقوفه هذا مرجعه لعوامل صنعتها أنا بنفسى، وعوامل صنعها هو بنفسه، ولو استمرت العوامل التى خلقتها والعوامل التى خلقها فسوف تقضى عليه يوما ما، فقد ورث صلاح عداء كل السينمائيين بسببى وأسدلوا عليه ستار من الإهمال والنسيان انتقاما منى).

وإذا كان السعدنى الكبير يقصد بالعوامل التى صنعها بنفسه، مواقفه السياسية، وقلمه اللاذع الذى أثار البعض ضده، وأورث شقيقه عداء كل السينمائيين، فدفعهم إلى الانتقام من «صلاح» نكاية فى «محمود» كما ذكر الأخير فى كتابه، فما صنعه «صلاح» بنفسه ينم أيضا عن موقف وطنى واضح وجرىء ساهم فى عرقلة مشواره إلى النجومية، فقد كان الفنان «صلاح السعدنى» ومعه الفنانة «محسنة توفيق» هما الفنانان الوحيدان اللذان تصديا للتوقيع على بيان المثقفين المطالب بإنهاء حالة اللا سلم واللا حرب التى تلت نكسة 1967، والذى شمل كبار المثقفين آنذاك على رأسهم «توفيق الحكيم، ونجيب محفوظ» وغيرهم، وقد كان لهذا الموقف أبلغ الأثر على مسيرته الفنية، حيث تم وقفه عن العمل فى المسرح، وخسر مقابل ذلك مرتبه الذى كان يتقاضاه شهريا بشكل ثابت (22 جنيهًا) والأهم أنه منع بقرار غير رسمى من المشاركة فى أى فيلم أو مسلسل تليفزيونى أو إذاعى، ولم ينقذه فى تلك الفترة سوى الوظيفة الإدارية التى عرضها عليه المنتج «سمير خفاجة» كمدير لفرقة الفنانين المتحدين.

مواقف «صلاح السعدنى» الوطنية لم تقتصر على فترة الشباب المعروفة بالثورة والاندفاع، لكنها لازمته طيلة حياته، ومن يبحث عن أرشيفه من المقالات الصحفية يكتشف قدرة هذا الرجل المتميزة على التحليل والنقد، والاشتباك مع قضايا المجتمع، بشكل لا يخلو من السخرية، ومن يشاهد حلقات برنامجه الوحيد (الليلة يا عمدة) الذى عرض على قناة (مودرن) فى عام 2011 ولم يستمر طويلا، سيفاجأ بقدر كبير من الحكمة والبصيرة اللتين هما جوهر الشخصية المصرية قبل أن تضيع ملامحها بفعل عوامل عديدة.

 رحلة البحث عن الهوية

وجد السعدنى ضالته فى الدراما التليفزيونية، واختار من خلالها الانشغال بتقديم القضايا التى تاهت فى المشهد الدرامى وعلى رأسها قضية الهوية المصرية، واشترك فى ذلك مع صديقه وتوأمه الدرامى الكاتب الكبير «أسامة أنور عكاشة» حيث حققا سويا ثنائية استثنائية، وحمل كلاهما ذات الهم، وقد تجلى ذلك من خلال تقديمه لشخصية العمدة «سليمان غانم» فى مسلسل (ليالى الحلمية) الذى هو درة تاج أعمال «عكاشة» بوصفه ملحمة تاريخية وثقت أزمنة متعاقبة فى عمر هذا الوطن، وفى مسلسل (أرابيسك) استطاع «حسن النعمانى» أو «حسن أبو كيفه» كما كان يطلق عليه ضمن أحداث المسلسل أن يدق ناقوس الخطر، بضرورة التمسك بالأصالة والتاريخ الذى يسعى البعض لتزييفه أو سرقته، تماما كما سرق الكرسى الخشبى الذى صنعه الجد النعمانى الكبير، وكان لزاما على الحفيد استعادته، لكن اقتصار مشوار الراحل فى الدراما فى أعماله مع «أسامة أنور عكاشة» به كثير من الظلم لمسيرة طويلة بدأت من الستينيات حيث شارك فى واحد من أقدم وأشهر الأعمال التى بدأت بها الدراما فى التليفزيون وهو مسلسل (الساقية) المأخوذ عن رواية «عبدالمنعم الصاوى» وقدم «صلاح السعدنى» دور شخص أخرس يدعى «أبوالمكارم» ثم قدمه المخرج «محمد فاضل» فى 3 مسلسلات هى: (الضياع، والقاهرة والناس، وعادات وتقاليد) وعندما قدم دور «ممدوح» فى مسلسل (لا تطفئ الشمس) عن رواية الكاتب الكبير «إحسان عبدالقدوس» وهو المسلسل الذى سبق الفيلم، انهالت الرسائل على جريدة الأخبار تطالب بتغيير النهاية، واستمر النجاح فى السبعينيات والثمانينيات فى العديد من الأدوار مثل (أبنائى الأعزاء شكرا) مع «عبدالمنعم مدبولى» ومسلسل (أديب) عن قصة الأديب الكبير «طه حسين» والتى كتبها للتليفزيون المؤلف الكبير «محمد جلال عبدالقوى» وقد لعب «صلاح السعدنى» فى هذا المسلسل دور الشيخ «محمد النجار» الصديق الوفى، والناصح الأمين لـ «إبراهيم عبدالله» الذى لعب دوره باقتدار الفنان الراحل «نور الشريف» وبمناسبة «محمد جلال عبدالقوى» ففى تاريخ الفنان الراحل «صلاح السعدنى» فيلم تليفزيونى كتبه «محمد جلال عبدالقوى» بعنوان (العودة والعصفور) هو من أنضج الأعمال التى تحدثت عن غزو العراق والكويت، وتأثيره على المصريين العاملين فى الكويت، حيث تضيع الأحلام مع سنوات العمر، ويعود الزوجان خاليا الوفاض يقفا على شفا الطلاق، لكن الحب يجمعهما مرة أخرى.

 أحلام لم تكتمل

لا يعنى تفوق شهرة مسلسل (ليالى الحلمية) ومن بعده (أرابيسك) أن الراحل لم يقدم أعمالا متميزة بعد ذلك لم تنل حظها الذى تستحقه من التقدير، منها مسلسل (حلم الجنوبى) الذى قدمه مع الكاتب الراحل محمد صفاء عامر، ولعب من خلاله شخصية مدرس التاريخ الذى ينشغل باكتشاف أثرى لمكان مقبرة الإسكندر الأكبر ويدخل فى صراع مع تاجر الآثار «عمران الجارحى» الذى لعب شخصيته الراحل «حسن حسنى» ذلك الصراع الدائر منذ سنوات وعبر حقب زمنية مختلفة بين أهل الجنوب الذين يقدرون قيمة كل ما هو قادم من صناعة التاريخ لأنهم بالأساس بناة الحضارة التى ما زال العالم يحتفى بها، وبين هؤلاء الذين ينهبون الآثار والتاريخ مقابل حفنة من الأموال، أما شخصية عالم الذرة «عزيز» الذى يدفع ثمن حياته فداءً للوطن بعد قتله من جهات أجنبية للاستيلاء على أبحاث فى مجال الذرة، والتى قدمها من خلال مسلسل (الأصدقاء) من تأليف «كرم النجار» هى واحدة من الشخصيات المهمة، حيث أبرز من خلالها ما يتعرض له العلماء المصريون من حروب واغتيالات، وإذا كان الحديث عن علامات «صلاح السعدنى» فى الدراما يطول لأهميته وثرائه، فإن الحديث عن مشروعاته الدرامية التى حلم بتحقيقها ولم يستطع لا يقل أهمية، ومنها على سبيل المثال مسلسل سيرة ذاتية عن الزعيم «مصطفى النحاس» لما له من دور مهم فى فترة تاريخية حرجة من عمر الوطن، بالإضافة إلى فيلمه عن الزعيم الراحل «أنور السادات» والذى كتبه له السيناريست «أيمن سلامة» وكان من المفترض أن يخرجه المخرج «هانى لاشين» لكن العراقيل وضعت أمام المشروعين، ليذهبا فى مهب الريح، وتبقى السيرة العطرة للفنان والإنسان والمثقف الموسوعى «صلاح السعدنى» لأن (السيرة أطول من العمر).