الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

اللوبى اليهودى الليبرالى بأمريكا بدأ فى الانشقاق «جى ستريت» مجموعة ضغط يهودية تختلف مع «أيباك» بسبب غزة

بدأت الجالية اليهودية الليبرالية فى أمريكا فى الانهيار بسبب الإبادة الجماعية فى غزة، وبرزت بعض التحديات أمام هذه الجالية، بمختلف ألوان أطيافها، والخلافات الجديدة بينهم والتى أصبحت أكثر حدة بسبب الانتهاكات الإسرائيلية فى قطاع غزة. ذكر ذلك الكاتب ميتشل بليتنيك مدير المكتب الأمريكى لمنظمة بتسيلم لحقوق الإنسان فى إسرائيل فى مقال له بموقع موندويس التقدمى الأمريكى. وذكر الكاتب على سبيل المثال، أن مجموعة «جى ستريت» اليهودية الليبرالية والتى مقرها فى الولايات المتحدة وهدفها المعلن هو تعزيز القيادة الأمريكية لإنهاء الصراعات العربية الإسرائيلية والإسرائيلية الفلسطينية سلميا ودبلوماسيا، بدأت تفقد الموظفين والدعم من المانحين لأنها تعطى الأولوية للعسكرة الإسرائيلية على حقوق الفلسطينيين. وقال إن تكشُّف الإبادة الجماعية فى غزة تسبب فى التوتر بين الصهيونية والقيم اليهودية الليبرالية، وتوقع أن يستمر هذا الانقسام وينمو بشكل أكبر.



 

كما ذكر الكاتب أنه من الواضح أن يوم السابع من شهر أكتوبر كان بمثابة نقطة تحول فى المجتمع اليهودى الأمريكى. وأشار إلى أن العديد من الفنانين اليهود والشخصيات العامة يدلون بتصريحات غير مسبوقة، مثل المخرج السينمائى جوناثان جليزر، الذى أدان الاحتلال والعنف الإسرائيلى فى غزة أثناء قبوله جائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولى، ومع ذلك قال إن آخرين ذهبوا فى اتجاه مختلف. وأضاف أن كثيرا من الكتاب اليهود الليبراليين يشعرون بالضغط لأنهم لا يستطيعون غض الطرف عن جرائم الحرب التى ترتكبها إسرائيل. وضرب مثالا على ذلك بالكاتب الصحفى بيتر ماس، الذى ينشر فى صحيفة واشنطن بوست ولديه تاريخ طويل فى الكتابة عن الحرب، وقد نشر مؤخرا مقالا فى صحيفة واشنطن بوست تظهر الإبادة الجماعية فى غزة من وجهة نظره ككاتب يهودى شهد العديد من جرائم الحرب. وقال إن هذا برز منذ نوڤمبر الماضى، حيث كانت جرائم إسرائيل تظهر بحجمها الكبير ووضوحها الذى لا يمكن أن ينكره أحد.

وأوضح أن عددا من المجموعات الليبرالية اليهودية مثل «جى استريت» و«أمريكيون من أجل السلام الآن» والمنظمات المماثلة، التى تؤمن بالدبلوماسية وبعض التنازلات المحدودة للفلسطينيين، بدأت تنجرف تدريجيا بعيدا عن التقدمية. وأضاف أنه مع تحرك المنظمات اليهودية الأكبر حجما نحو اليمين، تتخذ الجماعات الليبرالية السابقة المؤيدة لإسرائيل موقف يمين الوسط. ويتميز هذا الموقف بإعطاء الأولوية للعرقية اليهودية فى إسرائيل وهيمنتها العسكرية، مع الإصرار أيضا على حل الدولتين سريع الزوال وغير القابل للحياة والحث على الدبلوماسية بدلا من العنف. وقال إن المهم أن نتذكر أن أيا من هذه المجموعات لا يدعم حق الفلسطينيين فى الدفاع عن أنفسهم حتى فى سيناريو الدولتين. وذكر الكاتب أن الحجج بين ما يمكن أن نسميه المعسكر اليمينى وعلى رأسه أيباك والمعسكر الليبرالى مثل مجموعة الصوت اليهودى من أجل السلام ستظل تدور حول ما إذا كانت إسرائيل دولة فصل عنصرى وهى كذلك، ومشروع استعمارى استيطانى وهى كذلك، وما إذا كانت قد ارتكبت إبادة جماعية وهى تقوم بذلك حتى الآن.

ويستمر بليتنيك قائلا إن الأمر سيتمحور حول ما إذا كان الفلسطينيون سيحصلون على حقوق متساوية فى كل شىء، بما فى ذلك حق العودة والحق فى ضمان أمنهم، تماما مثل الإسرائيليين. وهذا يعنى كما يقول الكاتب، أن السؤال بالنسبة لليهود الليبراليين الأمريكيين سوف يتلخص فى نهاية المطاف فيما إذا كانوا يريدون الاستمرار فى الإصرار على صيغة الحكم العرقى إثنوكراسى الذى يتضمن دولة يهودية، أو ما إذا كانوا سيساعدون إسرائيل على التخلى عن الوهم القائل بأنها يمكن أن تكون دولة عرقية وديمقراطية فى نفس الوقت. ولفت الكاتب إلى أن طريق الحكم العرقى هو طريق استمرار العنف، واستمرار الفصل العنصرى، وانتشار الاستعمار، والمزيد من حالات الإبادة الجماعية أو محاولات الإبادة الجماعية، وقد أثبتت 76 عاما من وجود إسرائيل وطرد الفلسطينيين ذلك بشكل قاطع.

ويبرز تباين فى خطاب مجموعات الضغط الموالية لإسرائيل فى الولايات المتحدة بخصوص العدوان على غزة، وبالتحديد بين منظمة «جى ستريت»، ولجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية المعروفة اختصارا باسم أيباك. ورغم إتفاق المجموعتين على إدانة هجوم طوفان الأقصى، وضرورة استمرار المساعدات العسكرية الأمريكية لتل أبيب، فإن جى ستريت تفردت بمطالب من أجل حث إدارة الرئيس جو بايدن على إلزام إسرائيل بالقانون الدولى للحرب، وإنهاء الحصار الشامل المفروض على غزة. وهى مطالب تضاف إلى دعمها سابقا للاتفاق النووى مع إيران عام 2015، وتنديدها بالانسحاب منه فى عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو الموقف الذى جعل السفير الأمريكى السابق لدى إسرائيل ديڤيد فريدمان يصف جى ستريت بأنها حركة تجمع مجموعة من المتعجرفين الداعين لتدمير إسرائيل، حسب زعمه. وقد استضافت جى ستريت وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن فى الرابع من ديسمبر 2022 فى لقاء بفندق أومنى شورهام فى واشنطن للحديث عن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية.

وحينها، قال بلينكن إن المشاركة الدائمة لجى ستريت بالإضافة إلى المجموعات الأخرى التى نتشاور معها بانتظام، تسهم فى تشكيل تفكيرنا. فمتى ولماذا تأسست جى ستريت، وما أوجه الاختلاف بينها وبين أيباك، وما موقفها من القضية الفلسطينية، وما حجم تأثيرها فى الولايات المتحدة؟ وتمثل الجالية اليهودية نحو 2.5 % فقط من سكان الولايات المتحدة، إذ يبلغ  تعدداها 6 ملايين من بين 332 مليون نسمة هم مجموع الشعب الأمريكى إلا أنها تتمتع بانتشار واسع فى النخب السياسية والاقتصادية والثقافية. ورغم الاعتراف الأمريكى فى عهد الرئيس هارى ترومان بإسرائيل بعد دقائق من الإعلان عن تأسيسها فى عام 1948 على أرض عربية مغتصبة، فإن علاقات واشنطن وتل أبيب ظلت تتقلب نحو 30 سنة منذ حقبة ترومان حتى عهد ليندون جونسون.

واعتمدت تل أبيب خلال تلك الفترة على الدعم العسكرى من فرنسا، والدعم السياسى من بريطانيا، والدعم المالى من ألمانيا. وخلال حقبة خمسينيات وستينيات القرن الـ20، تصاعدت حركة الحقوق المدنية فى الولايات المتحدة، والتى طالبت بحقوق المواطنين السود، كما برزت الحركة المناهضة لحرب ڤيتنام، وهو ما تلاقى مع انتصار إسرائيل فى حرب عام 1967 ليدفع اليهود الأمريكيين للبحث عن أداء دور سياسى مؤسسى يدعم إسرائيل، ويستفيد من تمركزهم فى المراكز السكانية الكبرى، ومن إرتفاع نسب التصويت بينهم فى الإنتخابات بجميع أنواعها: رئاسية ونيابية ومحلية، ومثلت تلك الحالة دفعة قوية لتنامى نشاط أيباك التى تأسست رسميا فى عام 1954. ورأت أيباك أن الرؤساء الأمريكيين يأتون ويذهبون، ويشغلون مناصبهم لفترة لا تتجاوز 8 سنوات فى أحسن تقدير، بينما أعضاء الكونجرس يظلون عادة فى مناصبهم لمدة 20 عاما، وبالتالى فإن كسبهم لجانب إسرائيل من شأنه الحفاظ على نواة صلبة من الداعمين الذين يمكن الاعتماد عليهم بغض النظر عن الظروف السياسية المتغيرة. وفى ظل سهولة تواصل الناخبين بشكل دائم مع ممثليهم فى الكونجرس أو مجلس النواب لجأت أيباك إلى تنظيم زيارات واتصالات لأعضائها مع النواب بشأن القضايا التى تؤثر على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، ورتبت لهم ولعائلاتهم وموظفيهم زيارات دورية لإسرائيل.

كما نظمت حملات جمع أموال لصالح الحملات الانتخابية للمرشحين المؤيدين لإسرائيل، فى حين دعمت المنافسين للنواب المناهضين لإسرائيل، وعلت أسهمها مع نجاحها فى إسقاط بول فيندلى النائب الجمهورى عن ولاية إلينوى فى عام 1982 بعد أن وصفته بأنه رجل ياسر عرفات فى الكونجرس، ثم إسقاط السيناتور الجمهورى تشاك بيرسى رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ المقرب من الدول العربية، فى إنتخابات عام 1984. وبذلك أصبح الاقتراب من أيباك والحفاظ على علاقة جيدة معها مطمحا لأغلب النواب الأمريكيين. ورسمت أيباك موقفها على الدعم المطلق لإسرائيل بناء على فلسفة ترى أن حكومة إسرائيل وحدها هى التى تستطيع تحديد مصالحها وسياساتها، وأنه ليس لليهود الأمريكيين الحق فى أن يقولوا لحكومة إسرائيل ما يجب لها أو لا يجب لها أن تفعله، فهم لا يعيشون فى إسرائيل ولا يصوتون بها ولا يخدمون فى جيشها. وأجمعت على أن واشنطن يجب لها أن تتلقى رسالة واحدة من اليهود الأمريكيين فيما يخص إسرائيل، وفى حال وجود اختلاف فى الرأى فيجب إيصال الملاحظات إلى الحكومة الإسرائيلية سرا بعيدا عن الإعلام. ولتعزيز نفوذها عملت أيباك على تقوية علاقاتها مع المجتمع الإنجيلى المسيحى الداعم لإسرائيل وفق معتقداته الدينية، مما كفل لها جمهورا داعما يضم عشرات الملايين.

ولم يعجب نهج أيباك العديد من اليهود الأمريكيين اليساريين الذين ازداد إحباطهم مع انهيار عملية السلام بعد الانتفاضة الثانية، والانسحاب الأحادى من غزة عام 2005، ثم اندلاع حرب لبنان عام 2006، وصعود أسهم اليمين الإسرائيلى مجددا بقيادة بنيامين نتنياهو. أسس هؤلاء المحبطون فى عام 2008 « جى ستريت بحجة أنه توجد حاجة إلى صوت جديد للمجتمع اليهودى الأمريكى، ووعدت المجموعة بأنها ستلعب دور البيت السياسى للأمريكيين المؤيدين لإسرائيل والداعمين للسلام.  وشددت على أن من حق اليهود الأمريكيين التحدث علنا عندما تضر سياسات أو تصرفات الحكومة الإسرائيلية بالمصالح طويلة المدى للولايات المتحدة وإسرائيل. وقد شرح رئيس جى ستريت جيرمى بن عامى دوافع تأسيس المجموعة فى كتاب أصدره عام 2011 بعنوان صوت جديد لإسرائيل: الكفاح من أجل بقاء الأمة اليهودية. قوبل تأسيس جى ستريت بحملة شعواء من أيباك التى رأت فيه تمزيقا لوحدة الصوت اليهودى الأمريكى، وركزت الإنتقادات على دور الملياردير جورج سوروس فى تمويل جى ستريت بمبلغ 750 ألف دولار خلال السنوات الثلاث الأولى من عملها. كما أصدر أنصار أيباك تقارير دورية عن أنشطة جى ستريت التى تستضيف فيها شخصيات عربية مثل معن عريقات رئيس وفد منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن قبل إغلاق مكتبها، وعضو الكنيست أيمن عودة رئيس القائمة العربية المشتركة فى الكنيست الإسرائيلى، فضلا عن رصد مواقفها التى تخالف فيها الحكومة الإسرائيلية، وذلك للتنديد بها والتشكيك فى صهيونيتها.

وعن مبادئ ورؤية جى ستريت، فإن أول مبدأ معلن فى دليل تعريفى أصدرته فى عام 2021، هو الالتزام بدعم شعب ودولة إسرائيل. لكنها ترى أن حل الدولتين ضرورى لبقاء إسرائيل وطنا قوميا وديموقراطيا لليهود، وأن إنهاء الصراع الإسرائيلى الفلسطينى يصب فى مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة والفلسطينيين والمنطقة ككل، حسب تعبيرها. ولهذا الإعتبار، فإنها تدعم الحلول الدبلوماسية كما تشترط إعتراف حركة حماس بإسرائيل وإتفاقيات أوسلو، والتخلى عن المقاومة. ضمن تلك الرؤية، تؤيد جى ستريت المساعدات الأمنية الأمريكية لإسرائيل، لكنها تدعو إلى تقييدها بضمان عدم استخدامها فى ضم الضفة الغربية أو توسيع المستوطنات أو هدم منازل الفلسطينيين. وتؤكد أن من حق فلسطين الانضمام إلى المؤسسات والمنظمات الدولية كدولة عضو، وتجادل بأن من حق جميع اللاجئين الفلسطينيين العيش فى دولة فلسطين، وتقديم تعويضات مالية لمن يختارون العيش خارجها.

وعن مجالات عمل جى ستريت وتأثيرها،  فإنها تتشكل من 3 مكونات: الأول يشمل لجنة عمل سياسى تجمع الأموال من الأعضاء لممارسة الضغط السياسى والثانى هو صندوق للتعليم يعمل فى مجال التعليم وتنظيم الأنشطة فى الجامعات والمعابد اليهودية فى الولايات المتحدة وكذلك فى إسرائيل، والثالث، مؤسسة تعمل كذراع إدارى للجنة العمل السياسى. وتركز جى ستريت على حشد الدعم للسياسات والمواقف المؤيدة لإسرائيل وللسلام، بما فى ذلك جمع التبرعات لدعم المرشحين للانتخابات الرئاسية ومجلس النواب والكونجرس ممن يتقاطعون مع أجندتها. كما تعقد ندوات عامة وورش عمل، وتنشر تحليلات سياسية فضلا عن تقرير إخبارى يومى حول الموضوعات المتعلقة بالصراع الإسرائيلى الفلسطينى، وذلك لتثقيف المسؤولين المنتخبين وصانعى السياسات والمناصرين بموقفها من تلك القضايا.

وقد جاء فى دراسة نشرها المعهد الفرنسى للعلاقات الدولية إيڤرى فى عام 2012 أن جى ستريت لن تتمكن من التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه إسرائيل، ولن تتحول إلى رقم داخل المجتمع اليهودى الأمريكى فى ظل قوة ورسوخ أيباك. لكن بمرور الوقت نجحت جى ستريت فى أن تصبح ثقلا موازنا لأيباك، فجمعت ضمن أنشطتها أكثر من 200 ألف يهودى أمريكى، وقدمت دعما ماليا لنحو 163 مرشحا فى إنتخابات التجديد النصفى بمجلس النواب، وأصبحت محطة لكبار المسؤولين الأمريكيين مثل وزير الخارجية بلينكن. إن جى ستريت وأيباك تلتقيان فى دعمهما لإسرائيل وأمنها، لكنهما تختلفان فى الوسائل التى تقود إلى تحقيق ذلك، فإحداهما تعكس نهج الصقور الذى يتبنى الدعم المطلق، والأخرى تعكس وجه الحمائم الذى يحبذ القوى الناعمة على الأدوات الخشنة.