الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الرواية التى جسدت «اغتراب» شعب فى وطنه.. «مريد البرغوثى» «ولدت هناك.. ولدت هنا».. قصة عذاب شعب

«المعبر يعطل أبوة الآباء وأمومة الأمهات وصداقة الأصدقاء وعشق العشاق. هنا تصعب ممارسة الحنان. هنا تنتفى فرصة التضامن والنجدة. هنا لا أستطيع مساعدة ابنى أو حمايته كأب.



الآن وأنا أعيد فلسطين لتميم، وأعيد تميم لفلسطين، أشعر أنى أسلمه للسجان.

يقترب دور تميم فى الطابور خطورة. أراقبه من بعيد، أنا الآن خائف مطمئن مضطرب راضٍ ساخط فرح حزين عاجز قادر متوجس ضجر متفائل متشائم هادئ مرتبك تختلط فى خيالى الأفكار وتتداخل».

 

هكذا وصف مريد البرغوثى مشاعره وجسدها فى الجزء الثانى من روايته «رأيت رام الله» وهى  «ولدت هناك.. ولدت هنا» والذى يتحدث فيها عن دخوله فلسطين مع ابنه تميم لأول مرة، حيث يستبدل كلامه وحكاياته لابنه عن وطنه المسلوب من جملة «ولدت هناك» إلى «ولدت هنا» لأول مرة فى حياته.

ويقول البرغوثى فى روايته: «سنروى الرواية كما يجب أن تُروى. سنروى تاريخنا الشخصى فردًا فردًا. سنحكى حكاياتنا الصغيرة كما عشناها وكما تتذكرها أرواحنا وأعيننا وخيالاتنا. لن نترك التاريخ تاريخًا للأحداث الكبرى وللملوك والضباط وكتب الرفوف ذات الغبار. سنقص وقائعنا الفردية وسيرة أجسادنا وحواسنا التى تبدو للغشيم سيرًا تافهة ومفككة وبلا معنى. المعنى مرسوم فينا فردًا فردًا. نساء ورجالاً وأطفالاً وشجرًا وبيوتًا وشبابيك ومقابر لا يعزف أمامها السلام الوطنى. ولا يتذكرها مؤرخ قلمه أعمى».

حيث يقول لابنه ويؤكد أنه سيكتب تاريخ بلده وحكايتها لتصبح محفورة بوجعها وآلامها فى قلوب الجميع ليدركوا معاناتنا التى لا تنتهى واغترابنا الذى أصبح جزءًا من كياننا فرض علينا فرض ولم نستطع التخلص منه حتى الآن.

فى روايته «ولدت هناك .. ولدت هنا» استخدم البرغوثى الكثير  من التشبيهات  التى تنقل القارئ إلى قلب فلسطين فيشعر أنه جزء من الرواية فينعصر قلبه ألمًا لما يكابده هذا الشعب من عذاب حينما يشعر بأنه غريب فى بلده دخوله وخروجه منه ليس بيده.

فيقول البرغوثى: «وراء كل شجرة زيتون تقتلعها الجرافات الإسرائيلية ثمة شجرة أنساب لفلاحين فلسطينيين تسقط عن الحائط. الزيتون فى فلسطين ليس مجرد ملكية زراعية. إنه كرامة الناس. نشرة أخبارهم الشفهية.

حديث مضافاتهم فى ليالى السمر. بنكهم المركزى ساعة حساب الربح والخسارة. نجم موائدهم. ورفيق لقمتهم. هو بطاقة الهوية التى لا تحتاج إلى أختام ولا صور ولا تنتهى صلاحيتها بموت صاحبها. تظل تدل عليه. تحفظ اسمه وتباركه مع كل حفيد جديد وكل موسم جديد».

«كيف أدير بالى على حالى يا أمى؟

إذا أراد شرطى ركل خاصرتى وكبدى بقدميه فهو بلا شك سيركلنى.

إذا أرادت دولة عربية محترمة ذات سيادة أن تمارس سيادتها ضد جسمى النحيل أو ضد كلماتى العادية لتطردنى بحذائها المستورد فإنها ستطردنى».

ويلخص البرغوثى المأساة الحقيقية فى قضية وطنه قائلاً: «منذ ضياع فلسطين لم تعد لدينا حديقة للورد الخالص. إنها الغصة فى كل بهجة والأفعى فى كل الشقوق.

لا أبكى على أى ماضٍ. لا أبكى على هذا الحاضر. لا أبكى على المستقبل. أنا أعيش بالحواس الخمس. أحاول أن أفهم قصتنا. أحاول أن أرى. أحاول أن أسمع أصوات العمر. أحاول أحيانًا أن أروى. ولا أدرى لماذا. ربما لأن كتب التاريخ لن تكتب ما أكتبه».

«فى المستقبل ستصبح للفلسطينيين ذاكرة جماعية دقيقة دقة الذاكرة الفردية. كأن ما مس أحدهم مس الجميع».

لقد استطاع البرغوثى أن يجسد ألم «انتزاع الروح» الذى نجح الاحتلال أن يجعله هو سمة حياة كل فلسطينى حتى الآن وهو ألم لا يضاهيه أى ألم آخر.. إن الرواية هى تجسيد لمعاناة الفلسطينيين الذين أرادوا العودة إلى وطنهم فعادوا كغرباء وليس كأصحاب أرض فقلت فرحتهم وتحولت إلى غصة فى حلقها حينما وطأت أقدامهم أرض وطنهم الغالى.

 يجسد البرغوثى معاناته قائلاً: «من أقسى جرائم الاحتلال تشويه المسافة فى حياة الفرد. نعم الاحتلال يغير المسافات. يخربها. يخل بها. يعبث بها على هواه. كلما قتل الجنود إنسانًا اختلت المسافة المعهودة بين لحظة الميلاد ولحظة الموت. يغلق الاحتلال الطريق بين مدينتين. فيجعل المسافة بينهما أضعاف ما تقوله خرائط الجغرافيا. يطارد الاحتلال رجلاً واحدًا فى الجبال فيجعل المسافة بين نعاسه ومخدته تقاس بعواء الذئاب وعتمة الكهوف. جندى الحاجز يصادر أوراقى لأنى لم أعجبه لأمر ما فتصبح المسافة بينى وبين هويتى هى المسافة بين غضبه ورضاه. يقف جندى الاحتلال على بقعة يصادرها من الأرض ويسميها «هنا». فلا يبقى لى أنا صاحبها المنفى فى البلاد البعيدة إلا أن أسميها هناك».

لقد نجح البرغوثى من خلال العودة إلى بلدته بعد طول غياب فى نقل نبض الحياة الفلسطينية اليومية وعذاب الناس الذى صار الآن يعتبر طريقة حياة الحصار.. حواجز التفتيش وتوقيف الناس واستجوابهم و«الاختراع والإبداع» فى التفلت من العوائق لجعل الحياة تستمر.

فيقول: «أخرج من الطابور. أمسك بيد تميم. ندخل معًا قاعة الحقائب بفرح. نخرج إلى الشارع. أضمه ويضمنى فى عناق جديد على أرض يراها لأول مرة منذ أن ولدته رضوى قبل واحد وعشرين عامًا. تميم فى فلسطين».

رواية «ولدت هناك.. ولدت هنا» هى رواية العذاب والاغتراب الإجبارى الذى فرض على شعب بأكمله وقد نُشرت عام 2009. تُعد الرواية الجزء الثانى من رواية «رأيت رام الله». يصف بها مريد البرغوثى رحلته مع ولده تميم فى أول زيارة له لوطنه الأم، تُرجمت الرواية إلى الإنجليزية عن دار نشر «بلومز برى» فى لندن عام 2012.

وهى من أعظم الكتب الإنسانية التى نشرت حتى الآن عن المأساة الفلسطينية التى لم تنته بعد.