
عاطف بشاى
القبح الذى صار جمالا!
هل هناك (فن أخلاقى).. وفن (غير أخلاقى)؟!.. أو فن (طيب).. وفن (شرير)؟!.. أو فن (مؤمن) وفن (كافر).. أو بمعنى محدد هل الفن والأخلاق ثنائيتان متلازمتان أم متنافرتان لا يمتزجان شأنهما شأن الزيت والماء لا يذوب أحدهما فى الآخر؟!..
لا بد وأن تلك الأسئلة تطرح نفسها وتفرض وجودها حينما نتحدث عن تلك الضجة الأخيرة المصاحبة التى احتلت مساحات لا بأس بها من الجرائد والمجلات اليومية والأسبوعية.. ومن خلال آلاف التعليقات والآراء والقفشات والمناظرات الجادة والساخرة المؤيدة والمعارضة.. المسالمة والغاضبة على مواقع التواصل الاجتماعى إزاء ما تم تسميته بأغانى المهرجانات تلك التى تشمل ظواهر غنائية جديدة لأشخاص ينتمون أو لا ينتمون إلى فن الغناء تطلقها حناجر تذكرنا بشكل أو بآخر بتلك الشخصية الكاريكاتورية التى ابتكرها «أحمد رجب» ورسمها لمطرب أطلقنا عليه «جعورة» حينما حولت تلك النكات إلى حلقات تليفزيونية هى (ناس وناس) وقام بأداء شخصية «جعورة» الفنان «نجاح الموجى» وهى حلقات تسخر فى جزء منها من قبح صوت هذا المطرب الأرزقى الذى ينال جزاء فعلته تلك صفعًا وركلًا وضربًا مبرحًا من معازيم الأفراح والحفلات وينتهى به الأمر فى كل الأحوال بانتقاله فى عربة الإسعاف إلى المستشفيات وحجرات العناية المركزة بها.
لكن الفارق الجوهرى هنا هو الاختلاف الشاسع بين جمهور تلك الأشخاص وأقصد بهم «حمو» و«بيكا» وآخرين.. إلخ.. وآخرهم «شاكوش».. وبين جمهور «جعورة» البائس، فأصحاب الإسفاف الغنائى ومنهم ذلك الذى يغنى للحشيش والخمور ويحتفل بإدمانهم الحميد الملازم لحالة الحب والوله التى تربطه بالمحبوبة العاصية.. فهم يستمتعون بتجاوب شعبى كبير من جماهير يتحلقون حولهم فى سعادة غامرة مهللين فى صخب وصيحات إعجاب واحتشاد هائل واحتفاء بهيج.. فالبضاعة التى نراها نحن فاسدة باعتبارنا مثقفين نكديين نتمتع بوافر من الكآبة وثقل الظل والاستعلاء السخيف وكل ما من شأنه أن يحجبنا ويحرمنا من مباهج الحياة وينابيع الفرح والسرور.. يراها الجماهير المتكيفة مع واقعها المتصالحة مع مثالبه وعوراته.. منحة ثمينة تلون حياتهم بالأنس والحبور والفرفشة.
وأنت تعجب من هذه المفارقة وتفسرها متفلسفًا بأن القبح عندما يسود يصبح جمالًا بحكم التعود عليه.. ويذكرك ذلك بأقصوصة صينية تراثية تحكى عن بقرة فى حقل مليء بالأعشاب تعزف عن الطعام على الرغم من وجود موسيقار يجلس إلى جوارها يعزف لها أجمل الألحان الموسيقية الناعمة.. فلما استبدلها بأن يعزف لها أصوات نقيق الضفاضع ونعيق الأغربة أقبلت على الطعام تلتهم فى نهم واستمتاع.
وأنت فى دهشتك تلك تنعى أزمنة الفن الجميل وزمن الأغنية الذهبى كما ترثى عصر الرقى فى اللحن والكلمة الرشيقة والعزبة التى تثرى العقل وتغزو القلوب وتبهج الروح.. وتتحسر على أيام مظهر المطرب المتأنق فى حلته البراقة التى تزينها رابطة عنق بديعة الألوان.. بينما تصدمك رؤية ممثل ومغنٍ يظهر على المسرح عارى الصدر حول عنقه (شخاليل) ويرتدى نظارة شمسية وتصاحبه سيارتان وموتوسيكل ويغنى بصوت فج متغزلًا فى ذاته المتورمة فيصف نفسه أنه الأول والأوحد والأعظم.. وفى السينما يقدم أفلامًا تحقق نجاحًا جماهيريًا كبيرًا ورواجًا شعبيًا واسعًا.. وموضوعاتها تكرس للانتقام الفردى.. والعنف البشع.. والجرائم الدموية لشخصيات درامية أو فالنقل ميلودرامية تنتمى إلى بيئة العشوائيات.. شكلت منذ أكثر من ثلاثين عامًا طبقة من شرائح اجتماعية يمثلون (قاع المدينة).. ضموا إليهم بقايا طبقة متوسطة متآكلة يعانون جميعًا من فوارق طبقية هائلة تفصلهم عن طبقة الأثرياء أو (كريمة المجتمع) فإذا أضفنا إليهم رهطًا من مكفرين ظلاميين وبشرًا تشملهم غيبيات وخرافات واعتداد بثوابت أخلاقية عقيمة.. وموروثات عتيقة تعادى العلم والنهضة والحضارة وتعيش خارج الزمن.
تصنع هذه اللخبطة الطبقية والاجتماعية جمهورها العريض الذى يحاكيها فى الإسفاف والتخلف كما يحاكيها فى آليات (التذوق الفنى) المنحدر ويصير من المنطقى أن يتحدث الشارع المصرى بلغة جديدة من مفردات منحطة تخاصم الرقى وتكره الجمال وتزدرى المرأة وتنطق بألفاظ قبيحة وتسخر من الفنون الجيدة.
فإذا أضفنا إلى ذلك إجابة عن السؤال الذى طرحته فى أول المقال عن ماهية الفن وعلاقته بالأخلاق وعلمنا بداهة أن الخطاب الفنى هو خطاب جمالى.. والفنون تخضع لمعايير ومدارس ومناهج فلسفة الجمال ونظريات مفكريها المتنوعة والمختلفة والمعقدة والتى لا علاقة لها من قريب أو بعيد لقواعد وشروط وثوابت القيم الأخلاقية.. فمن هنا أختلف مع قرارات المنع والحجب والتحريم والتجريم التى يصدرها نقيب الموسيقيين «هانى شاكر» لأن فرض الوصاية باسم الأخلاق لن يحقق فى النهاية ما نصبو إليه من اقتلاع جذور القبح وسيادة الفن الراقى إلا بإنتاج الأعمال الفنية ذات المضمون الجمالى والفكر العميق الذى يطرد العملة الرديئة.
ولذلك حديث آخر.>