
عصام زكريا
«الإساءة لسمعة مصر» فى إعلانات رمضان!
من بين كل البيانات والتصريحات التى يصدرها المجلس الأعلى للإعلام ولجنة الدراما لم أسمع كلمة واحدة عن إعلانات التليفزيون، خاصة التى تتخلل مسلسلات وبرامج شهر رمضان.
لم أسمع مثلًا أى شىء يتعلق بقواعد الإعلان، وكل صحف وتليفزيونات العالم تعمل وفقًا لقواعد بخصوص المساحات المخصصة للإعلانات، ونوعية الإعلانات التى تنشرها أى صحيفة أو تبثها أى قناة وتوقيتات عرض هذه الإعلانات.
لا نقابة الصحفيين ولا نقابة الإعلاميين ولا المجلس الأعلى للإعلام وباقى الهيئات المعنية بوضع ضوابط المهنة، ولا هيئة حماية المستهلك، ولا «المحامين» الذين يقدمون البلاغات كل يوم ضد المسلسلات والبرامج والأفلام، لا أحد، يشغل باله بموضوع الإعلانات..لماذا؟ لأنهم لا يدركون «خطورة» الإعلانات على أساس أنها مواد خفيفة لا تستحق الاهتمام، أم لأن المعلنين لديهم المال الذى يمول القنوات والصحف وبالتالى لا يقدر أحد من هذه النقابات والهيئات على «زعل» المعلنين أو اتخاذ أى قرار قد يؤثر سلبًا على كمّ الأموال التى يدفعها المعلنون؟
فى كل بلاد الله خلق الله هناك قواعد معمول بها كما ذكرت، تحدد نسبة زمنية وتوقيتات بعينها لعرض الإعلانات. هذه النسبة لا يجب بأى حال من الأحوال أن تتجاوز 25% من زمن عرض الفيلم أو المسلسل أو البرنامج. وكلنا نعلم أن بعض الصحف تتجاوز هذه النسبة، أما القنوات، خاصة فى رمضان، فحدث ولا حرج. النسبة تتجاوز 100%، بل تقترب من 200% أحيانًا!! مهزلة لم يسبق لها مثيل فى أى تليفزيون على هذا الكوكب أو الكواكب الأخرى!!
نبلاء وشحاذون!
الذين يتشدقون بسمعة مصر التى «تبهدلها» المسلسلات، لا يخطر ببالهم أن المسلسل، مهما راح أو جاء، فهو محض خيال فى أذهان صناعه، وليس أبدًا مرآة للواقع كما يرى «المصلحون» الاجتماعيون، وأهل الحسبة الجدد من لجان رسمية ومحامين متطوعين لأجل الحفاظ على الوطن وأمن الوطن. هؤلاء لا يخطر ببالهم، أو لا يجرءون على التفكير بأن الإعلانات هى التى تقدم فعلًا صورة اجتماعية واقتصادية عن البلد: نوعية اهتمامات الناس؟ ما ينتجه هذا البلد وما يستهلكه سكانه؟ طبيعة علاقات السلطة والثروة فى هذا البلد...إلخ ولو افترضنا أن هناك شخصًا جاء من بلد أو كوكب آخر ليشاهد إعلانات القنوات التليفزيونية المصرية فى رمضان أعتقد جازمًا أنه سيخرج بانطباع راسخ بأن نصف أهل هذا البلد يسكنون فى مجمعات سكنية فاخرة ولا يفعلون شيئًا سوى الحديث فى الهاتف المحمول، بينما النصف الآخر لا يفعلون شيئًا سوى الشحاذة من أجل ثمن العلاج أو الحصول على كرتونة طعام مجانية، وفى الحالتين يرقص الجميع سواء كانوا نبلاء أو شحاذين!
حرب الجواسيس على «ودان» المصريين
لا أحد ينفق على الإعلانات كما تنفق شركات الاتصالات. ولا يقتصر الأمر على عشرات الملايين التى تنفقها كل شركة على إعلانات رمضان فقط، ولكن على حرب الجواسيس بين هذه الشركات لسرقة أفكار الإعلانات والتبارى بينهم على من «يحرق» أفكار الآخرين، أو يزايد عليها، على طريقة مزاد هريدى وأبو زيد فى فيلم «الفتوة» حتى لو كانت النتيجة تدمير السوق كله.
هذا العام تبارت شركات المحمول الأربع على من يستطيع «شراء» لاعبين، من نجوم تمثيل وكرة قدم، دون أن يحاول أحدهم البحث عن فكرة أخرى غير حشد عدد أكبر وأشهر من هؤلاء النجوم، حتى لو كلفهم الأمر دفع عشرات الملايين. ويتجاوز الأمر سرقة الأفكار إلى «خطف» النجوم أنفسهم، مع أن أبسط قواعد المنطق أن من يشارك فى الإعلان لشركة ما لا يصح أن يشارك فى إعلان لشركة منافسة حتى لا ندخل منطقة العبث، ولكن بما أننا دخلنا ونعيش فى منطقة العبث من زمان، فمن الطبيعى أن يقوم محمد منير بالدعاية لشركات المحمول الأربع المتنافسة. وطبعًا كل هذه الملايين التى يحصل عليها هو وزملاؤه وصناع الإعلانات والقنوات التى تعرضها، من جيوب البسطاء الذين يشترون الهواء والترماى والعتبة الخضراء وينفقون على الثرثرة الفارغة فى التليفونات مئات أو آلاف الجنيهات شهريًا...وطبعًا سوف ترتفع أسعار المكالمات والضرائب المفروضة عليها، حتى تستطيع الشركات تعويض ثمن الإعلانات وتستطيع الدولة جباية أكبر نسبة ممكنة من هوس المصريين بالتليفونات!
«حذارى من الشفقة»!
هو عنوان رواية قديمة للأديب النمساوى شتيفان تسفايج، وهو يصلح للتحذير من إعلانات الفضائيات فى رمضان التى تلعب على شعور الشفقة بشكل محرج ومخز، وفوق ذلك مخرب.
خذ عندك مثلًا إعلان شركة المحمول الكويتية «زين» وهو عبارة عن أغان فى شكل رسائل لرؤساء وقادة البلاد الكبرى، مثل أمريكا وروسيا وألمانيا وكوريا الشمالية وسكرتير عام الأمم المتحدة وقادة دول الخليج، على لسان طفل باك يرجو ويستعطف هؤلاء حتى يستردوا له الحق فى فلسطين وينقذوا المسلمين من المذابح التى تدبر ضدهم.
الإعلان كما سمعت يحقق مشاهدات عالية جدًا، كما أن صناعه قاموا بترجمته، كعادتهم، إلى اللغات العالمية حتى تصل رسالتهم إلى العالم، وأحب أن أقول لهم إن الرسالة الوحيدة التى يمكن أن تصل من هذا الإعلان وأمثاله هى أنكم بؤساء، ضعفاء، مضحكون ومثيرون للشفقة بشكل مؤسف، ولا يوجد تعبير بالعربية أفضل من «مثير للرثاء» والأدق هو التعبير الإنجليزى pathetic، « باثيتيك»، أى المثير للشفقة بشكل سلبى،على هؤلاء العالقين أبد الدهر «بين ليت وآمين» على حد وصف ذلك الإعلان المشين.
هذا الشعور بالشفقة نفسه تلعب عليه إعلانات جمع التبرعات للمستشفيات، التى مهما قيل عن حسن النية وعن الخير الذى ينتج عنها، لا يمنعنا ذلك من الإشارة إلى قدر «الابتزاز العاطفى» الذى تمارسه على المشاهدين العزل، وقدر الإسفاف الذى تمارسه فى حق المرضى والمشوهين والفقراء الذين تخدش خصوصياتهم وكرامتهم، حتى لو كان هؤلاء المستضعفون أضعف من أن يدركوا أن كرامتهم يتم إهدارها...ويؤسفنى أن أقول إن ترويج وتبرير هذا النوع من الشحاذة إنما يعزز الصورة السيئة عن مصر بأنها بلد شحاذين!
«حذارى من السرقة»!
من أطرف أفكار إعلانات هذا العام إعلان إحدى شركات الأجهزة الكهربائية الذى يصور عصابة متخصصة فى سرقة أجهزة هذه الشركة، بسبب سمعتها الطيبة ولغيرة زعيم هذه العصابة من هؤلاء الأثرياء الذين يشترون هذه الأجهزة ويتباهون بها فى الإعلانات.
ومع أن الفكرة طريفة إلا أنها تعبر عن فكرة مخيفة وهى أن الثراء فى هذا البلد خطر بسبب الفقراء، وعندما خطر ببالى هذه الفكرة نحيتها جانبًا معتبرًا أنها مبالغة وتأويل مفرط، ولكن ابنتى التى تبلغ من العمر تسعة أعوام خطر ببالها الفكرة نفسها، فقد فوجئت بها تقول: «يعنى عايزنا نجيب تورنادو علشان نتسرق؟!»
طبعًا أعلم أن كل ما سبق يحتوى على قدر من المبالغة، ولكنها رد فعل على المبالغات التى تحتويها هذه الإعلانات، والمبالغة فى فرضها على المشاهدين مئات المرات يوميًا، والمبالغة فى قراءة الدراما والأفلام بواسطة أهل الحسبة الجدد، الذين «يعملون أنفسهم من بنها» عندما يأتى الحديث عن الإعلانات!