الخميس 24 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
جمهورية الحب!

جمهورية الحب!


حينما كتب رئيس التحرير- بتفاؤل وثقة- افتتاحية العدد الماضى من «روزاليوسف» متعهدا وواعدا القارئ «بجمهورية الحب» اسمها «مصر».. أثار شجونى بقدر ما جذبتنى شجاعته.. وحرك كوامن الآسى فى نفسى مثلما حفزنى حماسه وروحه المعنوية العالية التى تتوسم العبور إلى مستقبل مختلف يسوده الحب والوئام وينبذ الكراهية والفرقة وازدراء الآخر.. ذلك أن الردة الحضارية التى نعيش فى كنفها الآن والتى لخص مقاومتها فى نصيحة: لا تخش دعاة الرجعية.. سيذهبون شتاتا وتتبدد ريحهم.. هذه الردة ألقت ظلالها الكثيفة والكريهة بكل شرورها وعنفها وتخلفها وقسوتها على أرض المعمورة وربوعها فسادا خلقيا.. وشذوذا.. عنفا وتحرشا.. قبحا يسود وينتشر ويتوغل.. تكفيرا وإقصاءً وتناحرا وتطرفاً دينياً.. وإلحاداً.. جرائم قتل وزنى محارم واغتصاب أطفال.. أزمات اقتصادية طاحنة.. سرطانات ومستشفيات تهدد الأرواح.. سينما رديئة ودراما تليفزيونية متدنية تطفح ببذاءات لفظية وصراعات منحطة.. وأحداث دامية ومشاهد عرى وابتذال..

لقد أصبح الحاضر كابوساً مقيتاً ومرعباً يخرج الإنسان المعاصر من عصرانيته ويدفع به إلى ظلامية أشد من ظلامية العصور الوسطى.. حيث تجرد الإنسان من فكره ومن عقله ومن عواطفه.. وقبل هذا كله من حبه للآخر..
وسط هذا الجحيم من حولك.. ما رأيك أن تصافح عيناك خبراً مفاجئاً فحواه:
قلة من شباب المحبين فى «المنصورة» استنسخوا فكرة وضع أقفال حديدية على الجسر بكوبرى «طلخا» كتبوا عليها أسماؤهم وقذفوا بالمفاتيح فى النيل.. لتقوية علاقات الحب وترسيخها والحفاظ عليها.. على طريقة الحب الفرنسى.. و«جسر الفنون» المطل على نهر «السين» «بباريس» الشهير بأقفال الحب للعشاق..
لا شك أنك سوف يحدث لك ما حدث لى حينما تقرأ الخبر.. فقد تبدد الاكتئاب.. وانفرجت الأسارير وانبسط الوجه المتقلص.. وظهر الضوء الخافت فى نهاية النفق.. فتصورت أن زمن الرومانسية الجميل قد أطل من جديد على استحياء تمهيداً لأن يعم فى القريب العاجل أرجاء البلاد ويضم فى أحضانه البشر.. كل البشر.. مبشراً بيوتوبيا جديدة يسودها الحب والوئام وشفافية الروح.. وعطر الأحباب.. ورحيق الوله والهيام.. ولهيب الأشواق.. وعذاب الفراق.. ولهفة اللقاء.. وذوبان الحب فى المحبوب.. وأشعار «رامى» وشدو «حليم» والشعر الحرير على الخدود يهفهف وأم كلثوم وأخاف أسرح تفوتنى لمحة منك.. وعبدالوهاب وجفنه علم الغزل وانتصار «نزار قبانى» للعشق والجنون.. وتبشير «إحسان عبدالقدوس» بدولة الحب.. وبكاء «العقاد» الجبار بين يدى «مى زيادة» متوسلاً مغفرة الخيانة ومتلهفاً لمعاودة الوصال.. وخلود رسائل «جبران خليل جبران» لها.. ورسائلها له.. وبين الأطلال.. و«نهر الحب».. بل قبل ذلك فى العصر الأموى حب «ولادة بنت المستكفى» الشاعرة الجميلة للشاعر المبدع «ابن زيدون» والتى ألهمته قصيدته النونية الشهيرة التى قال فيها: فليبق عهدكم عهد السرور/ فما كنتم لأرواحنا الأرياحين/ والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً/ منكم ولانصرفت عنكم أمانينا.
وقد كانت «ولادة» سافرة.. وبغية الكثير من الشعراء الذين يتهافتون إلى مجلسها فى صالونها الأدبى ليمتعوا أنظارهم بها وليتغزلوا بجمالها ورقتها وحسنها ودلالها وكانت هى فى المقابل تشعر كل شاعر منهم بإعجابها الخاص والأثير به متلاعبة بمشاعرهم ليجودوا بأجمل ما فى قريحتهم من أشعار عذبة تتغنى بالحب والجمال وتحثهم على ذلك فى تحريض سافر مرددة:
/أمكنُ عاشقى من صحن خدّى وأعطى قُبلتى مَن يشتهيها
أما «الرومى» الشاعر الصوفى العظيم- والذى عاش فى عصر اتسم بالتعصب الأعمى والتشدد المذهبى الصلب- فقد كتب قصيدة مطلعها: توجه للحب يا حبيبتي/ فلولا حياة الحب الجميلة لكانت الحياة عبئاً ثقيلاً.
كما أنه هو القائل إن البحث عن الحب يغيرنا.. وما من باحث بيننا يسعى وراء الحب ولم ينضج فى طريقه إليه.. ففى اللحظة التى تبدأ فيها بالبحث عن الحب يبدأ التغيير عليك باطناً وخارجاً.. تلك هى رسالة «الرومى» إلينا.. عليك اختيار أحد النقيضين ولا شيء آخر بينهما.. إما الحب الصافى.. أو الكراهية.. وفى طريق الحب ننبذ الكراهية فما من حكمة بلا حب.. ومالم نعرف كيف نحب مخلوقات الله فإننا لا نستطيع أن نحب الله حباً صادقاً أو نعرفه معرفة حقيقية..
لكن للأسف لم أنعم طويلاً بخبر «أقفال الحب» فقد ألجمتنى الصدمة وأنا أتابع ردود الأفعال من شباب هذا الزمان الفظ.. زمن أصبح فيه الحب الرومانسى ذو الطابع  السينمائى الشاعري- من وجهة نظرهم- عبطًا وغباء.. وخيالاً مريضًا.. وأصبح التعبير عنه- إذا وجد- يتم بأسلوب غليظ وألفاظ سوقية سواء فى الواقع أو على شاشة السينما من عينة: «بحبك فشخ» و«اديك فى الجركن تركن».
على صفحات التواصل الاجتماعى كتب أحد الشباب ساخراً من الفكرة.. «من البداية حياتهم كلها أقفال وعقد ومشاكل».. وكتبت فتاة: «هبل وتقليد ماسخ.. المصيبة أن الحرامية المحششين ممكن يفتكروهم أقفال محلات ويكسروهم».. وأضافت أخرى: «طيب جسور فرنسا بتتحمل وجود أقفال ورغم كدة زاد الحمل أوى اليومين دول فبدأوا يشيلوا شوية علشان يقللوها. بالنسبة لنا الجسور بتقع من غير حاجة.. هايحطوا كمان أقفال؟!
وذلك بالإشارة إلى أن فرنسا بدأت فى إزالة الأقفال التى امتلأ بها «جسر الفنون» الملقب «بجسر الحب» خوفاً من انهيار الكوبرى بسبب زيادة الأحمال.. وزيادة الأحمال بالطبع تعنى زيادة أعداد المحبين والعشاق الذين يتنفسون حباً ووداً ووئاماً وصفاء وتصالحاً مع النفس وتكيفاً مع واقع أكثر نقاء وسلاماً وإنسانية.