
هناء فتحى
«نور» الذى لن ينطفئ
قالوا مات نور الشريف .. والرجل لم يمت.. ولأن إعلان موته تكرر كثيراً فى الفترة الأخيرة فلم نصدق يوم الثلاثاء الماضى أنه فعلها بجد وحق وحقيقى ولم يكن يختبر محبتنا أو يمازحنا ويضحك ضحكته الطفولية الصافية ويقول بصوته الممزوج ببقايا ضحكته تلك: يا حبيبى إنت صدقت؟... ومات.
لكن لا تنسى وأنت تدرك باليقين أنه مات.. لا تنس أن تتذكر كم من الناس يأتون الدنيا ويموتون دون أن يعيشوا.. وكم منهم جاءوا وعاشوا وماتوا، ثم، كم منهم ولدوا وعاشوا ولم يموتوا أبدا؟ إنه نور الشريف.
ولن نتحدث ونكرر ونقول كل ذلك الكلام الجميل الذى يرثيه به الجميع كونه فنانا كبيرا ترك أعمالا عظيمة تطيل عمره مثل أى فنان كبير فى الدنيا.. وهذه حقيقة لأنهم يحسبون عمره الفنى الزاخر والصادق والعروبى فى أزمنة التردى والانتكاسات العربية.. ماشى.. صحيح.. وأنا سأقيس طول عمره الحقيقى بمدى تأثيره فى المحيط الإنسانى وجوهر طيبته المشعة المتمددة بعيدا.. بعيدا جدا لتشمل حتى كارهيه.. هؤلاء صانعو وناصبو الشرك والأفخاخ وسرادقات الوجع.. واسأل نفسك: هل هناك بنى آدم واحد فى محيطه الإنسانى (زعل مرة) من محمد جابر الشهير بنور الشريف؟ ومتقوليش أى حاجة عن «بوسى».. فما بينهما لا ولم ولن يدركه ويشرحه سواهما.
وأتخيل أن حجم ثقافته وتنوعها وتأملاته الفلسفية فى الكون والتاريخ والسياسة قد منحاه هذا القدر من الصفاء والتسامح وإدراك السلوك الإنسانى المربك وغير المتوقع والقاسى كذلك.. ولسوف تجد أن محمد جابر الشهير سينمائيا بنور الشريف قد ناله من الحب جانب.. أقصد ناله من الكره جانب.. بل جوانب.
عدة تجارب إنسانية فنية صعبة وقاسية.. بعضها قاتل.. مر - بها وعليها وفيها ومنها - «نور الشريف» مرور الكرام الصابرين بوعى المثقف الساكن عقله ومخيلته والذى يتحدث بلسانه دوماً: منها تجربة فيلم «ناجى العلى» وهذه التجربة ليست فنية فى حقيقتها لو أمعنت التفكر فيها بجدية وحيادية وصدق.. ثم هناك تجربة ثانية مرة مريرة تتعلق بالأخلاق والسلوك الشخصى تماماً تم اتهامه بها فى فترة ما.. تجربة ثالثة قاسية تتعلق بأسباب وظروف انفصاله عن زوجته الفنانة «بوسى».
«نور الشريف» الإنسان الفنان المثقف المصرى الوطنى الناصرى العروبى!!... ماذا؟ أوليست كل تلك الصفات أسبابا يمكن تحويلها - فى زمن ما - إلى تهم واتهامات تهلك صاحبها ومعتنقها؟ لا هه؟ ربما.
طيب.. أوليست كل تلك الصفات السابقة أسبابا تحمل فى معانيها الباطنة والظاهرة معنى البقاء؟ أن يعيش نور الشريف حيوات كثيرة حتى وإن سكنت أعضاؤه تراب القبر ظهيرة الثلاثاء الماضى؟
ناهيك عن انتقائه لنوعية من الأدوار الفنية رشقت فى قلوب البسطاء.. كان نور الشريف يراهن دوماً على البسطاء.. يمثل لهم وعنهم وبهم .. لم يقترب من السلطة.. أى سلطة.. لم يتقرب من مسئول أو نافذ.. لم يؤد شخصية طاغية.. لم يتقمص شخصية مسئول أو زعيم أو رئيس أبداً.. وراجع كل أدواره ستجده فقط قد أدى دور «ناجى العلى» و«يوسف شاهين» و«ابن رشد» و«سجين جوانتانامو» و«الحاج متولى» وعدة شخصيات على شاكلة هؤلاء.. «محمد جابر» لم يغازل الناس اللى فوق.
وهكذا حين قالوا إنها الوفاة الأخيرة لنور الشريف أدركت أن الرجل لم يمت.∎