
عاطف بشاى
أزهى عصور السينما
فى أسبوع واحد شهدت الساحة الفنية حدثين فى منتهى الأهمية.. اعتبرتهما القوة الناعمة رد اعتبار للمبدعين ومحبى الفنون الجميلة.
الأول قرار رئيس الجمهورية المستشار عدلى منصور باعتبار 13 مارس عيدا للفن بعد غياب طويل لهذه المناسبة التى تجمدت بفعل فاعل فى النظام الساقط، بينما كانت على مشارف التحريم فى عهد النظام المعزول ليكون العيد بارقة أمل لإعادة الريادة والسيادة لنجوم هوليوود الشرق واستعادة ذاكرة الأمة.
أما الثانى فهو قرار رئيس الوزراء إبراهيم محلب بتشكيل لجنة تضم أبرز صناع السينما لتقديم حلول من شأنها النهوض بـ «الفن السابع» باعتباره صناعة مهمة ومصدرا للدخل القومى ومظهرا للإشعاع الحضارى.
هذا الملف يستعرض المشهد الأول من رد الأصول السينمائية لعصمة وزارة الثقافة ولقطات من مظاهر الانهيار لصناعة السينما على خلفية سياسات ساقطة ومجتمع مصاب بازدواجية.. والأمل كبير بعد ثورتى مصر أن تعود هذه الصناعة رائدة فى مصر الجديدة.
لم تعد لدينا سينما
هل تبدو تلك الجملة مقدمة منطقية واستهلالاً لابد منه يعكس المستوى المتدنى للأفلام السينمائية المصرية التى نراها فى الفترة الحالية والفترة السابقة التى تمتد إلى عدة سنوات منذ ثورة (25 يناير) وحتى الآن؟!
أم أنها جملة انفعالية تعبر عن سخطى وغضبى.. وسخط وغضب معظم المثقفين والنقاد المتابعين للسينما الجادة والراقية؟!
إن الثورات تنهض بالمجتمعات وتغيرها تغييراً جذرياً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً.. لكن المتابع لأحوال الأدب والفن - خاصة السينما - فى بلادنا يكتشف العكس للأسف..
فبينما دخل الفيلم المصرى من سنة (1952) إلى سنة (1962) مرحلة دقيقة من حياته وهى السنوات العشر الأولى من حياة ثورة (23) يوليو، حيث قدم «صلاح أبوسيف» أفلامه الستة المهمة والتى كانت أساس شهرته كمخرج واقعى.. وهى أفلام «لك يوم يا ظالم» و«الأسطى حسن» و«ريا وسكينة» و«الوحش» و «شباب امرأة» و«الفتوة».. والبطل فى هذه الأفلام هو الإنسان المصرى الفقير المطحون ضحية الاستغلال والإقطاع.
لكن ما حدث للسينما بعد ثورة (25) يناير أنها غرقت فى أفلام الابتذال الرخيصة ومنها مثلاً فيلم «عبده موته» الذى حقق رقماً غير مسبوق فى إيراداته بأسبوعه الأول.. وهو توليفة من رقص خليع وإيحاءات جنسية فظة وعنف ودماء ومطاردات وغناء سوقى وعلاقات محرمة وميلودراما فجة تلتقط من تراث ردئ لأفلام قديمة مستهلكة.
وإذا كانت ظاهرة ابتعاد السينما المصرية عن معالجة القضايا السياسية والاجتماعية المهمة وهموم المواطن المصرى البسيط فى مواجهة الفساد والاستبداد (منذ نشأتها فى 1927 وحتى سنة 1952) ترجع إلى أن صناعة السينما كانت فى يد المنتجين الأفراد.. ولم يكن القطاع العام قد ظهر بعد.. وهؤلاء طبعاً لا يمكن أن يفكروا فى تقديم أفلام تزيد من إثارة الشعب وتدفعه إلى التخلص من الاستعمار الذى كان يحمى هؤلاء المنتجين وكل المشتغلين الأجانب.. علاوة على ذلك فقد كانت نسبة كبيرة من المنتجين المصريين تتألف من «منتجى الحرب» الذين أثروا فى سنوات الحرب وتحولوا بعد ذلك إلى استغلال أموالهم فى هذه التجارة سريعة الربح.
فما أشبه الليلة بالبارحة.. ومن أغنياء الحرب إلى «السبكية» ياقلبى لا تحزن.. ومن أفلام مثل «منديل الحلو» و«يا حلاوة الحب».. و«قبلنى فى الظلام» و«الآنسة بوسة».. إلى «عبده موتة» لاعزاء للمشاهدين.
لكن ما يدعو إلى الإحباط واليأس الآن أكثر أن المستوى المتراجع لفن كتابة السيناريو والحوار.. وفن الإخراج يتماهى معه بشكل واضح التراجع الملحوظ فى مستوى النقد والنقاد.. أولئك الذين يدعونك إلى أن تغض البصر عن المساحة الفارغة من الكوب.. فلماذا لا تكون متفائلاً وتولى اهتمامك بالازدهار الكبير الذى تعيشه السينما المصرية الآن فى ظل «الهيمنة السبكية» وإعلان كثير من النقاد عن شجاعة «السبكى» كمنتج سينمائى يواجه الكساد بالإنتاج الغزير فى ظل ظروف تسويقية صعبة.. فيصبح الوحيد الذى يغامر لتدور العجلة.. فيوفر فرص عمل للفنيين والفنانين.. وبذلك تظل الصناعة قائمة، وبالتالى ينبغى علينا أن نبجله.. وأن نشكره.. وأن نشيد به كمنقذ أريب لتلك الصناعة التى كادت أن تندثر.. بعد أن كانت تمثل العائد القومى الثانى بعد القطن.
ينبغى علينا أن ننظر إليه بفخر نظرتنا إلى الرائد الكبير «طلعت حرب» بدلاً من أن نكيل له الاتهامات بإفساد الذوق العام من خلال إنتاجه لأفلام مبتذلة تتسم بالحوار السوقى والخلاعة والانحطاط الخلقى والسلوك الداعر للشخصيات.
بل إن ناقدا معروفاً علق على «توليفة» البلطجى والراقصة المبتذلة والمطرب الشعبى فى الأفلام «السبكوية».. أن الواقع الاجتماعى يعبر عن نفسه من خلال تلك الأنماط.. فالبلطجى مثلا أصبح له وجود قوى على الساحة.. والبلطجة أصبحت مهنة ومصدراً للرزق تفرض علينا أن نعبر عنها لأن السينما فى النهاية - شأنها شأن كل الفنون - انعكاس للواقع.. وإلا لما كان النجاح التجارى الساحق حليفاً لتلك الأفلام التى أصبحت إيراداتها هى الأعلى فى تاريخ السينما.. غير مدركين لبديهية أن الفن - أى فن - ليس نقلاً مباشراً للواقع كما هو.. وإلا تحول الجميع.. موهوبون وغير موهبين.. مثقفون وجهلة.. خاصة وعامة إلى مؤلفين.. ولكن الفن تكثيف وارتقاء وتعبير موح وغير مباشر وبليغ للواقع واستخلاص لعلاقاته الجمالية.. وتركيز على مضمونه الفكرى والنفسى والإنسانى.
أن التسجيل الفظ للواقع المعاش ونقله إلى الشاشة كما هو بترهله وتدنيه وانحطاطه باسم الواقعية فى العمل الفنى هى منه براء.. بل إنها تبكى وتنتحب من جراء الإسفاف والفجاجة.
واسألوا «صلاح أبوسيف».