الخميس 24 أبريل 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
ممـدوح الليثى الرجل الذى عاش 1000 عام

ممـدوح الليثى الرجل الذى عاش 1000 عام


 لأن حضوره كان طاغياً .. ووجوده ساطعاً.. صار انصرافه موحشاً.. وغيابه مؤثراً.. كنت أتصور أن يبقى معنا لحين آخر لكن طائر الموت الكريه انقض فى قسوة سادية ليختطف روحاً ينبض قلبها العليل بعطاء أخاذ وأشواق لمواصلة عناق الأوراق حتى اللحظة الأخيرة.
 
هاتفنى قبل رحيله بساعات.. بآمال دفاقة.. وأحلام فنية بدت لى مستحيلة فى ظل الظروف العصيبة التى تعيشها البلاد.. لكنى جبنت عن مصارحته باستحالتها حتى لا يصب جام غضبه علىّ لتصاغر طموحاتى وتواضع قناعاتى.. وركونى إلى الدعة والاستسلام لتصاريف القدر والزمان التى لا ترشحنى إلى تكملة مشوارى إلى جواره.. فهو يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا.. وبالفعل عاش «ممدوح الليثى» حياة عريضة تمتلئ بالأحداث العاصفة والمعارك الدموية.. والإنتاج الوفير.. ومات عن عمر يناهز الألف عام أو يزيد.. فإنجازاته الهائلة كمبدع مميز وإدارى ماهر تمتد لتشمل عدة أعمار كان فيها واحداً من أهم كتاب السيناريو فى مصر.. وكان تجسيده لروايات نجيب محفوظ مثل «الكرنك» «وثرثرة على النيل» و«ميرامار» و«المذنبون» مشحونة بجرأة فريدة فى تجاوز الخطوط الحمراء.. والقفز فوق الأسوار العالية.. والأسلاك الشائكة لسينما سياسية جسورة فى أزمنة لم تكن تسمح إلا بالنذر القليل من الإشارة أو التلميح أو الرمز الذى ما يلبث أن يتوارى خوفاً من بطش أكيد وإطاحة عاجلة.. لكن الرجل كان مقاتلاً شجاعاً ومحارباً عتيداً.. يسعى إلى معارك يكون فيها النزال دموياً وعاصفاً.. دون أن تلين إرادته.. أو تخبو عزيمته.. لذلك فقد دخل عش الدبابير كثيراً.. واصطدم بكل أنواع السلطات ابتداء من سلطة الرقابة العاتية على المصنفات الفنية حتى السلطة الحاكمة فى «المذنبون» و«الكرنك» و«ثرثرة» وخرج من حلبة الصراع مزهواً بانتصارات كان خليقا بها وكانت جديرة به.
 
ومع توالى الإنجازات الفنية الكبيرة سعى إلى أن يكون مشروعه الإدارى لخدمة الفن المصرى كبيراً أيضاً.. بل إنى أزعم أنه إمبراطور ماسبيرو الذى أحيا أفلام التليفزيون المصرى فكان عصراً ذهبياً للدراما.. وساهم بسخاء فى تشييد مدينة الإنتاج الإعلامى.. وقدم من خلال جهاز السينما أفلاماً بالغة التميز.. أزعم أنه منذ الثمانينيات أقام صرحاً درامياً فريداً لمبنى شاخ وترهل وبهت وسطح: فأعاد له البريق والألق والريادة.. فمن ينسى «ليالى الحلمية» و«رأفت الهجان» و «لا» و«دموع صاحبة الجلالة».. و«بوابة الحلوانى» و«العائلة».
 
عرفته منذ نهاية السبعينيات.. فتوسم فىّ الموهبة.. وراهن علىّ وأنا اسم مجهول لشاب نحيل يبحث عن فرصة فغامر بجرأة وأسند لى كتابة السيناريو والحوار لعملين هما الفيلم التليفزيونى «تحقيق» قصة نجيب محفوظ والمسلسل الفيلمى «الوليمة» فحققا نجاحاً كبيراً عند عرضهما.. وكعهده فى اكتشاف المواهب - كجواهرجى أصيل وصاحب حدس عجيب لا يخيب أبداً تعهدنى بالرعاية والمؤازرة.. فقد كان يؤمن ألا يلقى بالموهبة فى العراء بعد اكتشافها.. لكنه يساندها ويدعمها ويواصل معها رحلتها وكأنها رحلته هو.. فكانت سلسلة أفلامى التليفزيونية مثل «فوزية البرجوازية» و«الوزير جاى» و«محاكمة على بابا» و«المجنون» و«صاحب العمارة» و«نسيت أنى امرأة» ومسلسلات مثل: «حضرة المحترم» و«لا» و«دموع صاحبة الجلالة» و«ست الحسن» و«أهل القمة».
 
وقد أفرز هذا الدأب العظيم فى تفجير المواهب ومتابعة تواصلها وتصعيدها فى ظهور أجيال كاملة.. جيلاً تلو الجيل من كتاب السيناريو والمخرجين من دفع بهم إلى ساحة الإبداع نجوماً بكل المقاييس فى أعمال درامية راقية تثرى عقل ووجدان المتفرج.. فلا يمكنك أبداً أن تضبط فيلماً تليفزيونياً أو مسلسلاً درامياً مسفاً.. أو هابط المستوى أشرف على إنتاجه «ممدوح الليثى».. ذلك أنه كان يختار النصوص بنفسه.. ويبادر بالتعاقد على روايات كبار الروائيين مثل نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وفتحى غانم ومصطفى أمين.. ثم يقرأ بنفسه أيضاً تلك السيناريوهات دون الاعتماد على تقارير اللجان.. وضارباً بعرض الحائط بملاحظات الرقابة التعسفية.. فارضاً عرض الفيلم أو المسلسل على مسئوليته الشخصية.
 
وليس سراً أن أعلن أن أحد أعمالى الذى أنتج فى عهده.. وهو يشغل منصب رئيس أفلام التليفزيون ليعرضه أصلاً على الرقابة.
 
ويبدو أمراً مدهشاً بالطبع أن يثابر مثابرة جبارة على قراءة نصوص المسلسلات والأفلام التليفزيونية التى ينتجها لحساب التليفزيون مشهداً مشهداً وجملة جملة.. ويكتب ملاحظاته الدقيقة عليها.. والمدهش أكثر من ذلك الإصرار الغريب على متابعة إعادة كتابة النص - ربما بأكمله - بعد تنفيذ التعديلات التى طلبها وكتبها بقلمه الأحمر على صفحات السيناريو.. وكم شهدت حجرة مكتبه المناقشات العاصفة والاحتدامات المدوية والاشتباكات العنيفة بينه وبين كتاب السيناريو والمخرجين.. والتى كانت تصل كثيراً إلى حد إجبارهم على إعادة كتابة النص بأكمله إجباراً لا يقبل تنازلاً أو إزعاجاً.
 
وقد كان يبدأ عمله فى السابعة صباحاً.. ولا ينهه قبل منتصف الليل فى عمل متواصل مضن لا تتخلله إلا راحة قصيرة يغفو فيها على فوتيه بأعين نصف مغمضة ونصف مفتوحة.. وأيد جاهزة فوراً لرفع سماعة التليفون الذى يرن إلى جواره فيرد على المتصل فى الحال بنفسه وبصرف النظر عن قدر وأهمية هذا المتصل سواء كان كومبارس بسيطاً.. أو وزيراً.. ويمارس عمله بمركزية واضحة ليس لدوافع ديكتاتورية آمرة.. ولكن لقلق عاصف ورغبة مخلصة أن يطمئن قلبه إلى كل كبيرة وصغيرة متصلة بمسئولياته الضخمة المتعددة.
 
ولأنه كان يتمتع بعين لاقطة وقدرة فائقة على الفرز الحاسم والسريع بين الموهبة والادعاء.. الغث والسمين.. ولرغبته الوثابة فى تحقيق نجاحات متوالية.. فلم يسمح أن ينفذ إلى مياهه الإقليمية الواسعة - كنتيجة لكثرة مناصبه الحيوية - الأفاقون والمدعون والطبالون والزمارون والمنتفعون وأنصاف المواهب والمبتزون والمتسلقون والأرزقية ولابسو المزيكة.. وكتاب «الفشار».. وطردهم من إمبراطوريته شر طردة بقسوة لا تخلو من إهانة.. فكانت النتيجة أن تكاثر ضده الأعداء من الضباع والمتآمرين والخفافيش الذين فشلوا فى التقاط ولو الفتات من مائدته فطعنوه فى شرفه وسمعته واستباحوا لأنفسهم أن يكونوا شهود زور ضده.
 
لم يرحل «ممدوح الليثى» فى صباح ذلك اليوم الحزين باستهلال عام جديد.. بل رحلت مؤسسة إعلامية كبيرة تسير على قدمين.. وعلامة مضيئة فى تاريخ الفن المصرى.. مات قبل أن يجف مداد القلم بعد.