الثلاثاء 9 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
نظرية المؤامرة على مقهى فى وسط البلد!‏

نظرية المؤامرة على مقهى فى وسط البلد!‏

جلسنا مجموعة من الأصدقاء الصحفيين على مقهى فى وسط البلد، بعد ندوة أدبية عن ‏الرواية التاريخية، وكنت معترضًا على التسمية، فالرواية عمل فنى قد يختار فيه الكاتب ‏شخوصه، ويربطها بأحداثٍ عامة من زمن سابق قريب أو بعيد، وينسج الحكاية مُطلقًا لخياله ‏القدرة على تصور تصرفاتهم وردود أفعالهم الإنسانية، منسوبة إلى ذلك الزمن حسب قراءاته ‏عن تلك الفترة سواء منحازًا لأفكارها أو رافضًا لها، وهذا ليس تاريخًا ولا يمكن أن يكون، ‏هذا فن أيًا كان الزمن الذى وقعت فيه أحداثه، ولا علاقة له لا بالتاريخ، لا علمًا ولا تفسيرًا.‏



فرفع أحدهم مؤيدا: هذا أقرب إلى الصحة، ويشبه إلى حد كبير الفرق بين المؤامرة ونظرية ‏المؤامرة التى يدمنها الشرق!‏

ضحكت متسائلا: ما علاقة الفن بنظرية المؤامرة؟

قال: نحن شعوب متعلقة بنظرية المؤامرة، نتعلق بها كما نتعلق بقشة وسط أمواج الحوادث ‏والأزمات المحيطة بنا، لأنها مريحة وترفع عنا عناء البحث العلمى الجاد والمكلف عن فك ‏هذه الأزمات وإصلاح أحوالنا!‏

قلت: لا اتفق معك.. المؤامرة جزء من حركة التاريخ، جانب من إدارة الصراع فى العالم ‏أفرادا وجماعات ودولا منذ عرف الإنسان الملكية، دول تتآمر على دول، ملوك تتآمر على ‏ملوك، مؤامرات داخل العائلة الملكية الواحدة، محاولات اغتيال، انقلابات، الإطاحة ‏بحكومات..إلخ، ولماذا تؤسس الدول أجهزة مخابرات، قطعًا ليس لجمع المعلومات فحسب، ‏بل ترصد مؤامرات وتحيك مؤامرات.‏

المؤامرة إحدى أدوات الصراع الخفى، حين تفشل المواجهات الصريحة المباشرة فى تعديل ‏‏«المواقف» بين أطراف المصالح المتناقضة.‏

قال غاضبًا: أنت إذن من مؤيدى أن 25 يناير 2011 كانت مؤامرة وليس ثورة شعبية، تريد ‏أن تحرم المصريين من حقهم فى تعديل أحوالهم المعوجة؟، أنت من المصابين بـ«هوس» ‏المؤامرة، أنت «مؤامراتى» ،كما تصفك المراجع العلمية!!‏

قهقهت بشدة إلى درجة فرت فيها الدموع من عينى..‏

قال: لم ترد.‏

قلت: مؤكد أن 25 يناير كانت مزيجًا من غضب شعبى حقيقى ومؤامرة خارجية من جهات ‏أجنبية بالتنسيق مع أطراف داخلية بينها تناقض إلى حد الموت وهما الفوضويون ‏الاشتراكيون ومؤيدوهم والإخوان المسلمون وأتباعهم، وقد استغلوا هذا الغضب من أجل ‏مصالحهم الضيقة، وحولت المؤامرة المشهد العام إلى وليمة للذئاب، كل طرف يحاول أن ‏ينهش أكبر قدر ممكن من الوليمة بسرعة، لكن طبيعة المصريين وموقف المؤسسة العسكرية ‏أجهضا المؤامرة.‏

سكت محدثى برهة ثم أخرج من جيبه تليفونه المحمول الحديث الذكى، وقلب فى برنامج ذكاء ‏اصطناعى، وراح يقرأ: ثم عوامل نفسية واجتماعية لانتشار نظرية المؤامرة..‏

‏1 - الحاجة إلى التفسير والمعنى: وفيها ينجذب البشر إلى القصص التى تمنح معنى للأحداث ‏المعقدة أو المأساوية، خاصة عندما تكون التفسيرات الرسمية غير مرضية وغير مقنعة.‏

‏ 2 - الشعور بعدم الأهمية أو الضعف: وقد يتبنى الأفراد الذين يشعرون بالضعف أو العجز ‏نظريات المؤامرة لاستعادة شعورهم بالفهم والسيطرة على عالمهم.‏

‏3 - عدم الثقة بالسلطات: يرتبط الإيمان بالمؤامرة غالبا بمستويات منخفضة من الثقة فى ‏المؤسسات الحكومية أو الإعلامية أو العلمية. ‏

‏4 - التحيز التأكيدى: يميل الناس إلى البحث عن المعلومات التى تؤكد معتقداتهم المسبقة ‏وتجاهل الأدلة التى تتناقض معها.‏

‏5-التبرير: فى المجتمعات المهزومة أو التى تعانى من مشكلات داخلية تستخدم نظرية ‏المؤامرة لتبرير الفشل وإلقاء اللوم على قوى خارحية بدلا من نقد الذات.‏

وتوجد كتب عديدة حول نظريات المؤامرة منها موسوعة المؤامرة، وكتابات ماثيو ردينث ‏التى تتناول الجوانب الفلسفية لها وتقييم الأدلة فيها.‏

سكت محدثى وصب نحوى نظرة شماتة كما لو أنه ألقمنى حجرًا، وقال: عليكم أن تتخلصوا ‏من نظرية المؤامرة التى تلبستكم!‏

سألته بصوت خفيض منكسر من باب الخداع: هل تعلم من هو صاحب نظرية المؤامرة ومتى ‏ظهرت على نطاق واسع؟

لاحت علامات دهشة على وجه، وقال: سوف أسال البرنامج.‏

‏ قلت: لا ضرورة..نظرية المؤامرة اختراع غربى مئة فى المئة، وظهرت أول مرة عام ‏‏1863 فى رسالة إلى محرر صحيفة نيويورك تايمز، كتبها تشارلز أستور بريستد، يفسر ‏فيها لماذا تقف بريطانيا فى صف «الجنوب» ضد الشمال فى الحرب الأهلية الأمريكية التى ‏امتد من سنة 1861 إلى 1865 من أجل إضعاف الولايات المتحدة وإفشال تجربة الاستقلال، ثم ‏عادت إلى الظهور فى عام 1909 فى مقال نشرته مجلة (أمريكان هيستوريكال ريفيو)، ‏وبعدها استخدمها الفيلسوف كارل بوير فى كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» المنشور سنة ‏‏1945، ثم شاعت بعد مقتل الرئيس جون كنيدى فى 22 نوفمبر 1963، إذ لقى مصرعه ‏بين حرسه الخاص، وأمام عشرات الملايين على شاشات التليفزيون فى مدينة دالاس بولاية ‏تكساس، واتهم فيها (لى هارفى أوزولد)، الذى اعتقلته الشرطة وقتل بعد أيام قليلة دون أى ‏تحقيقات مسجلة معه، على باب المحكمة بسهولة مفرطة من مواطن عادى قال إنه ينتقم ‏لرئيسه المحبوب، ثم مات القاتل مريضًا فى السجن بعد سنوات، هذا غير ما باحت به ‏كريستين كيلر، فتاة الليل اللعوب، التى أسقطت وزير الدفاع البريطانى جون بروفيمو فى ‏الستينيات، وكانت على علاقة عارية معه، وفى نفس الوقت مع الملحق العسكرى السوفيتى ‏فى لندن، إذ قالت فى كتابها «أخيرا الحقيقة..قصتى» الصادر فى 2001: رويت كل شىء ‏للقاضى اللود ديننج، لكنه نشر شيئا مخالفا، وهددنى بأن أغلق فمى، لأنه وجد فى الجنس ‏حلا سهلا، وتجاهل ما قلته من حقائق تمس مجلس الوزراء البريطانى والبيت الأبيض ‏الأمريكى، فقد أطلعته على ما سمعته بأن الرئيس كنيدى سوف يغتال فى دالاس بعد عدة ‏أشهر ولم يهتم!‏

هل هذه مجرد مصادفات مذهلة؟!‏

خذ عندك أحداث 11 سبتمبر 2001، يعتقد 23 % من الأمريكيين أن الهجمات عملية ‏داخلية وأن الحكومة متورطة فيها، وهى الهجمات التى ضربت فيها الطائرات برجى مركز ‏التجارة العالمى فى نيويورك، ومبنى البنتاجون فى واشنطن، وراح 3000 إنسان ضحية لها.‏

وفى 2015 رصدت جامعة كمبرديج البريطانية أن أكثر من نصف البريطانيين وافقوا على ‏الأقل على واحدة من قائمة تضم خمس نظريات مؤامرة،وكانت النظريات تتراوح ما بين ‏وجود مجموعة سرية تتحكم فى الأحداث العالمية إلى مجموعة أخرى تؤمن بالكائنات ‏الفضائية.‏

ويقول البرفيسور كريس فرنتش عالم النفس بجامعة جولد سميث فى لندن: إن من يؤمن ‏بنظرية المؤامرة هم من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية ومن كلا الجنسين.‏

‏ يعنى العرب والشرقيون عمومًا براء تمامًا من اختراعها، وإن أسرفوا فى استخدامها مثل ‏الأمريكيين، الذين ألف عنهم جو أوسينسكى كتابًا عنوانه «نظريات المؤامرة الأمريكية» فى ‏‏2014.‏

سأل منزعجا: ماذا تقصد؟

قلت: ببساطة علينا أن نفرق بين المؤامرة كحدث حقيقى ثابت، ونظرية المؤامرة كنوع معين ‏من تفسير الأحداث الغريبة التى يكتنفها غموض يبدو متعمدا، فالمؤامرة حقيقة موجودة ‏تاريخيًا وواقعيًا، أما الأحداث التى تغيب فيها الأدلة الدامغة أو الموثقة، فتتعدد نظريات ‏تفسيرها، التى تحاول ربط المصادفات ببعضها أو تستند إلى الأدلة الظرفية.‏

حتى على المستوى الفردى، التخطيط لعمليات سطو مسلح، تهريب المخدرات، الاحتيال ‏المالى المنظم، جرائم القتل العمد.. إلخ.‏

رفع أحد الجالسين يده معترضًا، كفاكم..أريحوا عقولكم قليلا وتمتعوا بهذا الليل الشتوى ‏الخفيف مع عصير البرتقال نصف المثلج، بلا مؤامرة بلا يحزنون.‏

سكتنا..لكننى قررت أن أحاور «كوبايلوت» عن المؤامرة ضد العرب عندما أعود إلى منزلى؟

للحديث بقية