الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

عندما قال الطبيب لأحمد زكى: «أبوك صلاح جاهين مات» "الحلقة الثالثة"

كعادتها دائمًا كانت «روزاليوسف»- ولاتزال- تستضيف على صفحاتها تاريخ الفنانين وحكاياتهم.. نستكشف من مسيرة العمر ومشواره قصص الكفاح والحب والأمل والصعود.. لأننا نؤمن أن تاريخ البلد ووجدان الشعب ما هو إلا محصلة أيام ويوميات وحكايات رموزه.



يصحبنا فى هذه السطور الكاتب الصحفى الكبير محمد توفيق فى رحلة ممتعة مع فتى الشاشة الأسمر عبر كتابه «أحمد زكى86».. ونتيح لحضراتكم فصلًا من حياته وأحد أهم أعوامه زخمًا وفنًا وتأثيرًا.

ونحن بنشر الكتاب على فصول نؤكد أن حكاية فنان بحجم أحمد زكى هى ملك لكل محبيه وجمهوره.. بحلوها ومرها.. بما حققه من إنجازات وبطولات.. وبكل ما قابله من خذلان.. لأنه رمز كبير وهذا قدر الكبار.

 

“1”

عاش أحمد سنوات بين بيتَى جدته وخاله عبدالمنعم، وأحيانًا كان ينتقل للعيش فى بيوت أقارب والدته.

كانت جدته السيدة ألماظ تشترى له الملابس الجديدة ليلة العيد، وكان أحمد يرتدى الملابس كاملة بما فيها الحذاء قبل نومه، ويدخل إلى سريره لينام بملابس العيد حتى يكون جاهزًا مع أول ضوء يمر من شباك المنزل.

وفى الصباح يُقبّل يد جدته ويحصل منها على العيدية، ثم يذهب مع خاله ليصلّى العيد، وبعد الصلاة يجرى مع أبناء خاله نحو لعبته المفضلة أو المتاحة (المراجيح)، ولا يتركها حتى تنفد العيدية إلى آخر قرش فيها.

وبعد انتهاء العيد يعود أحمد إلى مدرسة التربية الابتدائية فى الزقازيق، وفى تلك المدرسة ارتبط بمدرس اللغة العربية الذى كان يكتب له ولزملائه بعض الاسكتشات الفكاهية ليقوموا بتمثيلها فى حفلات عيد الأم والمناسبات الوطنية.

ولمح المدرس لأول مرة أن لدى هذا التلميذ صغير الحجم موهبة كبيرة فى التقليد، خصوصًا حين كان يقلّد أصوات الممثلين فؤاد المهندس وعبدالمنعم مدبولى فى البرنامج الإذاعى «ساعة لقلبك».

وظلت حياة أحمد مستقرة لسنوات قليلة حتى ضاقت الحياة على عائلة والدته، وصارت ظروفهم المادية لا تسمح لهم باستضافة الولد الصغير أكثر من ذلك، ولم تكن هناك فرصة أن يذهب الابن للعيش مع أمه فى بيت زوجها.

وفى أحد الأيام أبلغه خاله بأنه سيذهب إلى بيت جديد، وظن أحمد أنه سينتقل بصحبة خاله وأبنائه، لكن خاب أمله حين علم أنه سيذهب إلى بيت أسرة لا صلة له بها، لكنهم أناس كرماء سيرفقون باليتيم الذى مات والده وهجرته أمه.

أمسك عبدالمنعم بيد أحمد وذهب به إلى بيت محمود راتب، وزوجته السيدة وطنية التى بمجرد أن رأت الولد الصغير الأسمر النحيل الذى لا يستطيع أن يرفع عينيه من الأرض من شدة الخجل حتى احتضنته، ليطمئن قلبه، وتهدأ نفسه.

استقر أحمد فى بيت الأستاذ محمود والست وطنية التى قررت أن تقول إنه ابنها من زوجها الأول حتى لا يسىء أحد الضيوف معاملته ولا يشعر بالغربة.

ومرت الأيام الأولى صعبة، ثم اعتاد أحمد عليهما واعتادا عليه، وصارا يطلقان عليه «زيكو» رغم أن هذا الاسم كان يُغضبه حين يشعر أن من يقوله يسخر من ذكائه.

“2”

فى تلك الفترة كان أحمد يميل إلى الجلوس بمفرده للتأمل أكثر من اللعب مع أقرانه، فقد كان شعوره باليُتم يطغى عليه، وإحساسه بأنه وحيد فى هذه الدنيا لم يكن يفارقه، فلم يجد من يحنو عليه، ويسأله: مالك؟!

هو الغريب، وإن حاول أهل البيت إثبات عكس ذلك.

ولم تفلح السنوات فى إذابة إحساسه باليُتم، بل كان يتضاعف هذا الإحساس حين يرى تدليل الأمهات لأبنائهن، ويسمع كلمة «أمى» تتردد حوله ولا يستطيع أن يرددها.

ظل إحساس أحمد بالغربة يسيطر عليه، بل كان يزداد حين يرى الشفقة فى عيون من حوله، وهم لا يتخيلون -رغم نياتهم الحسنة- أن إحساس الشفقة يقتله ببطء، ويُشعره أن لديه مرضًا لا يقدر الزمن على مُداواته.

وقد تعمّق هذا الإحساس لديه حين أُصيب بالبلهارسيا، ولم يجد الحب بقدر ما وجد العطف على طفل يتيم، وسمع كلمة «سلامتك» بنبرة مُشفقة جعلته يكره المشاعر المحايدة التى تنظر إليه بعين العطف لا بعين الحب.

حاول الأستاذ محمود راتب ألا يترك أحمد أسيرًا لتلك الفكرة، فأصر على أن يواصل أحمد تعليمه رغم أنه كان ينجح بصعوبة بالغة.

فلم يتفوق أحمد طوال سنوات دراسته لا لضعف قدراته وإنما لأنه لم يشعر قط بأن أحدًا يفرح لنجاحه أو يحزن لرسوبه، لا أحد يلومه أو يحتفى به، لا أحد يتلهف لمعرفة نتيجته أو يترقب وصوله بعد عودته من المدرسة، فلم يولِ لها اهتمامًا، وشعر بأن التعليم مجرد مرحلة لا بد أن يتجاوزها بأى طريقة حتى يفعل بعدها ما يحلو له؛ لكنه فى المدرسة الثانوية بدأ يجد المتنفس مع أصحابه الذين يعاملونه بندّية، وأحب مشاهدة الناس ومتابعة حركاتهم وتقليدهم، وصارت عيناه بمثابة كاميرا تلتقط أنماط البشر.

“3”

ذهب أحمد إلى مدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية، والتحق بقسم «البرادة»، وتعلم كيف يُمسك بالمبرد، ويقف على المخرطة، ولم يكن أحد يتصور أن يكون هذا الولد أكثر من «ميكانيكى شاطر».

وفى أحد الأيام وقف أحمد فى الفصل يقلّد الفنانين، فضحك كل التلاميذ، وبعد نهاية اليوم ذهب زميله محمد الحسينى إلى شقيقه يوسف الذى يعمل مدرسًا بالمدرسة، وقال له: «معانا ولد بربرى -على حد تعبيره- فى الفصل يُضحكنا بتقليده للفنانين».

وحينها كان الأستاذ يوسف يختار أعضاء فريق التمثيل؛ فاستدعى الطالب بقسم البرادة أحمد زكى عبدالرحمن ليختبره، فاختار أحمد أن يقوم بتمثيل دور صامت، واندهش الأستاذ لأداء تلميذه، واصطحبه إلى مسؤول النشاط المسرحى بالمدرسة الفنان وفيق فهمى.

وهنا تغيَّر كل شىء... حين ذهب أحمد لأول مرة إلى مسرح المدرسة وبدأ يتعلم أول دروس التمثيل ولفتت موهبته الأنظار، لم يكن مجرد تلميذ يذهب إلى المسرح ليهرب من الحصص أو يؤدى دوره فى المسرحية ليلفت نظر أستاذه، لكنه وُلد من جديد داخل مسرح المدرسة، ولحُسن حظه أن مدير المدرسة كامل نجم كان يُدرك قيمة المسرح جيدًا، ويضع له ميزانية محترمة، ويتعامل مع التلاميذ بوصفهم نواة لفنانين.

وفرح أحمد بتشجيع مدير المدرسة ومسؤول النشاط الذى طلب من كل قسم من أقسام المدرسة تقديم عمل فنى تحت إشرافه، ثم اختار وفيق فهمى منتخبًا من الطلبة الذين قاموا بتمثيل الروايات المسرحية ليمثل المدرسة فى مسابقات المسرح، وصار الطالب أحمد زكى بمثابة قائد فريق التمثيل، وامتدّ نشاطه خارج المدرسة بالذهاب إلى مسرح قصر ثقافة الزقازيق، وشعر بأن له طريقًا لا بد أن يسلكه.

أصبح أحمد لا يريد أن يغادر المسرح مطلقًا، ربما التمثيل كان ملجًا له يُفرّغ فيه طاقاته، ويذيب الآلام التى عاشها، ويعيش من خلاله حياة أخرى غير التى عرفها منذ مولده.

“4”

لقاء أحمد مع وفيق فهمى كان بمثابة نقطة تحول فى حياته، فقد علّمه أصول التمثيل، وعرف على يديه الفرق بين التقليد والتمثيل، أن تكون الأصل أو تكون مجرد صورة ساخرة لشخص آخر.

ولم يكتفِ وفيق بذلك بل علّمه إخراج مسرحيات الطلبة، وصار يقوم بتمثيل وإخراج المسرحيات، ويحصل على أجر، رغم أن هذا الأجر كان قليلًا وأحيانًا لا يكفى مصاريف المواصلات إلا أنه شعر أنه بدأ يتحقق، ويحصل على مقابل من فنه.

ومنح وفيق الثقة لأحمد وجعله يتصدر منتخب المدرسة فى المسابقات، وصار يمنحه أدوار البطولة حتى وصلت المدرسة إلى المسابقة النهائية، ويومها ذهب أحمد لأول مرة لمسرح أكبر، وأهم من مسرح المدرسة ومسارح قصور الثقافة التى اعتاد عليها... إنه مسرح «الهوسابير».

وقف أحمد لأول مرة على مسرح فى القاهرة، وتألق فى دور «أحمس»، وحصلت المدرسة على الجائزة الأولى على مستوى الجمهورية، وحصل أحمد على جائزة أفضل ممثل، وقد ضمت لجنة التحكيم الفنانين صلاح منصور، وحسن مصطفى، وأنور محمد، وزكريا سليمان، وأثنى منصور على أداء أحمد، وقال له: «لو قدمت فى معهد التمثيل حتبقى كويس».

وتكررت المسابقة للعام التالى، وشاركت المدرسة بمسرحية «غاب القمر»، وتكرر الفوز، ونشرت جريدة «صوت الشرقية» تقريرًا صحفيًّا عن أحمد زكى عبدالرحمن أشهر طالب بمدرسة الزقازيق الثانوية الصناعية.

ويومها فرح أحمد كما لم يفرح من قبل، وشعر أن الدنيا التى أعطته ظهرها طويلًا، كشفت عن وجهها أخيرًا.

وبدأ حلم دراسة التمثيل يراوده، وبدأت موهبته فى التقليد تلمع، وتخطف الأبصار، فصار يقلّد جمال عبدالناصر فى حادث المنشية، وعبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش، ومحمود المليجى، وغيرهم.

ولم يكتفِ أحمد بتقليد المشاهير لكنه صار يقلّد كل من يرى أن لديه سمة مميزة حتى من الأشخاص العاديين، ففى أثناء سيره بصحبة أصدقائه فى شارع البوستة فى الزقازيق، كان يقوم بتقليد الفلاحين والمدرسين وغيرهم حتى ينفجر أصدقاؤه ضحكًا على ما يفعله.

وفى العام التالى وقف أحمد على مسرح «الهوسابير» للمرة الثالثة والأخيرة، وشارك بمسرحية «الطريق الأبيض» التى حصلت على المركز الأول الذى اعتادت عليه المدرسة لثلاث سنوات متتالية.

وحصل فيها أحمد زكى على جائزة أفضل ممثل على مستوى الجمهورية بإجماع لجنة التحكيم التى ضمت الفنانين: محمد توفيق، وعبدالمنعم إبراهيم، ومحمود السباع.

وبعد نهاية العرض، وإعلان الفائزين، استدعى الفنان محمد توفيق الطالب أحمد زكى وطلب منه أن يتقدم لمعهد الفنون المسرحية فور تخرجه من المدرسة.

وبكى أحمد من الفرح، وشعر أنه حصل على جائزة أفضل كثيرًا من جائزة أفضل ممثل، فقد حصل على شهادة فنان كبير أنه يستحق أن يكون ممثلًا.

وواصل أحمد تقديم المسرحيات مع الفرق المسرحية الموجودة فى الشرقية، وقام ببطولة وإخراج مسرحية «اللحظة الحرجة» التى كتبها يوسف إدريس، ثم شارك فى واحدة من مسرحيات نجيب الريحانى اسمها «شقة غلط».

وظل وفيق فهمى يشجّع أحمد زكى وطلب منه إخراج مسرحيات أقسام المدرسة المختلفة حتى يحصل على مكافأة مادية تعينه على أعباء الحياة، وفى الوقت نفسه ينمّى موهبته ويلمّ بكل جوانب التمثيل.

“5”

كانت مدرسة الثانوية الصناعية بالزقازيق هى أول مدرسة يتعلم بها أحمد زكى فن التمثيل؛ بل تشعر حين تتأمل نشاطها أنها كانت بمثابة معهد تمثيل مصغر، فقد استثمرت إدارة المدرسة كل الطاقات، والإمكانيات المتاحة للمدرسة من ورش ومعدات لبناء مسرح كبير وإقامة عروض قوية تدعو إليها المدرسة أولياء الأمور وسكان المناطق القريبة ليشاهدوا مجانًا مسرحيات جادة يقدمها التلاميذ.

وليس هذا فحسب، ففى شهر رمضان كان يطلب مدير المدرسة من اثنى عشر قِسمًا بالمدرسة أن يقوم كل منهم بعمل مسرحيتين يتم عرضهما بعد الإفطار فى شهر رمضان، وتكون الدعوة عامة ومجانية للجميع.

وفى نهاية الشهر يختار الجمهور بمشاركة لجنة التحكيم المسرحية الفائزة بـ«كأس كامل نجم»، مدير المدرسة، الذى يبدو أنه كان يحلم أن يصير فنانًا، فصار راعيًا للفنانين من أساتذة وتلاميذ، كأن حلم صلاح جاهين فى تمثال رخام على الترعة فى كل قرية مصرية قد تحقق فى تلك المدرسة.

لذلك لم يكن غريبًا أن تجد فنانة وضعت قدميها على أول طريق الشهرة توافق على أن تقوم بالتمثيل على مسرح «مدرسة الصنايع» بعد أن صارت تقف على أكبر مسارح القاهرة أمام فؤاد المهندس.

إنها سناء يونس التى أقنعها بالحضور زميلها وفيق فهمى بوصفها مثالًا ناجحًا لبنات الشرقية، ولتكون سببًا فى إدخال البهجة على نفوس الطلاب الذين سيقومون بالتمثيل أمامها، فوافقت دون قيد أو شرط.

وجاءت سناء بالقطار إلى محطة الزقازيق، ووجدت فى انتظارها شابًّا أسمر اقترب منها، وعرّفها بنفسه قائلًا: «أنا أحمد زكى يا أستاذة... هيحصلّى الشرف بأنى هاكون بطل المسرحية مع حضرتك».

ظل أحمد يتحدث مع سناء عن مسرحية «الوطن» التى سيشاركها فى بطولتها، والمأخوذة عن نص عالمى، وأخبرها أن المخرج سيكون مدرس اللغة الإنجليزية.

لازم أحمد سناء طوال أيام إقامتها فى الزقازيق بوصفها فخر المحافظة؛ وتحدث معها عن أحلامه فى المسرح، وأمنيته أن يلتحق بمعهد الفنون المسرحية، وتمنى أن تساعده عندما يأتى إلى القاهرة.

“6”

استفاق أحمد زكى من غفوته، وابتسم حين اكتشف أن خيطًا رفيعًا جدًّا يربط بين مدرسة الزقازيق الصناعية، ومستشفى «لندن كلينك»، هذا الخيط هو المبنى العريق، والنافذة الزجاجية الطويلة التى كان يجلس إلى جوارها فى الفصل حين كان طالبًا، والآن يجلس إلى جوارها فى غرفة المستشفى.

وأغلق أحمد صندوق ذكرياته حين حضرت هالة، وجاءت بصحبتها الممرضة، ثم رنّ جرس الهاتف فى غرفته بالمستشفى وأخبروه أن المُتصلة هى سناء يونس، فهزّ رأسه وشعر كأنه استدعاها حين تذكّرها، وردّ عليها، وبعد أن اطمأنت عليه وشكرها على اتصالها، أخبرها أنه سيجمعهما عمل قريب.

وبمجرد أن وضع سماعة الهاتف وجد اتصالًا آخر، وحاول أن يتجاهل الرد عليه لينعم ببعض الهدوء، لكنه علم أن السيدة التى على الهاتف هى فاتن حمامة فخطف السماعة، كأنه استردّ جزءًا من عافيته بهذا الاتصال.

وبعد دقائق رن جرس الهاتف مرة ثالثة، فردّت هالة، فقال لها المُتصل: «عايز أكلم الأستاذ أحمد زكى»، فقالت: «نقولّه مين؟»، فقال لها: «هو مايعرفنيش، أنا راجل بسيط بس باحبه قوى أنا ومراتى وعيالى، ونفسنا نسمع صوته». فابتسمت هالة، وقالت للرجل: «حاضر هاخلّيك تكلمه»، وأعطت لأحمد السماعة وقالت له: «دى مكالمة هتفرّحك».

وأمسك أحمد بالسماعة، وبمجرد أن نطق بكلمة واحدة، لم يدعه الرجل يتحدث، فقال له: «إحنا من شبرا، وأصرينا نتصل بيك رغم أن ظروفنا على قدّنا، بس كنا عايزين نقولك إننا بنحبك قوى عشان أنت شبهنا، وبندعيلك ليل نهار ربنا يقوّمك بالسلامة».

وانتزعت زوجته منه السماعة، وأخذت تدعو لأحمد فى التليفون ثم أخذ أولادها السماعة واحدًا تلو الآخر، وكل واحد منهم يدعو له أن يستردّ صحته، ويعود إلى مصر فى أسرع وقت ممكن.

وعَلَت الفرحة وجه أحمد، ولكن رغم كثرة الاتصالات التى انهالت على غرفته فإنه لاحظ أن والده الروحى صلاح جاهين لم يتصل منذ خروجه من غرفة العمليات، رغم أنه كان أكثر الناس اتصالًا به، ودعمًا له منذ وصوله إلى لندن.

فسأل أحمد هالة: «أمال فين أبو الصُّلح... ماسمعتش صوته من ساعة ما خرجت من العملية رغم أنه كان بيتصل بيّا كل يوم فى القاهرة، ولحد أول ما جيت لندن، وكان بيقولّى: لو عايزنى أجيلك، هاجيلك على أول طيارة؟»، فطمأنته هالة، وقالت إنه ربما اتصل ولم تصل إلينا المكالمة فى زحمة الاتصالات؛ فلم تستطع أن تخبره بحقيقة ما جرى، فقلب أحمد لا يتحمل ومرارته قد أُزيلت، فكيف يقوى على الصمود أمام خبر بهذه القسوة.

قررت هالة أن تُبعد الصحف القادمة من القاهرة مؤقتًا عنه، واتفقت مع والدها على ألا يسمح لأحد أن يُبلغه عن طريق الهاتف، وأن يظل الخبر سرًّا حتى يستعيد عافيته ويعود إلى مصر.

وفى اليوم التالى لم تكن هالة قد وصلت إلى المستشفى، فحضر أحد الأطباء المصريين العاملين فى المستشفى للاطمئنان على صحة أحمد، وفى أثناء حديثه معه قال له: «شدّ حيلك... هاقولك خبر حاول تتماسك وأنت بتسمعه لأنى فضّلت أن أقوله لك بدلًا من أن تعرفه من شخص آخر... أبوك مات».

فردّ عليه أحمد متعجبًا: «أبويا مين! أنا أبويا مات وعمرى سنتين»... فبادره الطبيب: «أبوك صلاح جاهين مات». ووقعت الصدمة على قلب أحمد ورأسه كالصاعقة، ولم يشعر بنفسه إلا بعد أن نزل مسرعًا من المستشفى فى لندن ليذهب إلى صلاح جاهين ويودِّعه فى القاهرة.

للحظة ضاعت المسافات والأماكن وكل شىء، ولم يحتمل الجُرح ما فعله أحمد، فانفتح وخرجت كمية كبيرة من الدم، وسقط أحمد على الأرض، وحملوه إلى سريره.

“7”

لم يتصور الطبيب أن خبر وفاة صلاح جاهين يمكن أن يفعل به كل ذلك، وندم الطبيب المعالج ندمًا شديدًا أنه أبلغه الخبر؛ فلم تفلح المهدئات أن تسكن آلامه النفسية والجسمانية.

وفوجئ الأطباء بتدهور حالته مرة أخرى، فاجتمعوا حوله، وأعادوا فحصه، فوجدوا صديدًا يغطى الجرح بطوله، فعاد أحمد إلى غرفة العمليات مرة أخرى لإجراء عملية جراحية جديدة تخلِّصه من آثار الصديد.

وخرج أحمد من غرفة العمليات للمرة الثانية، وكانت هالة أول من رأى بعد أن فتح عينيه، وظلت إلى جواره حتى تطمئن عليه.

ومرّت الساعات، وسكنت آلام أحمد نسبيًّا، وحضر إلى مستشفى «لندن كلينك»، السفير أحمد قدرى سفير مصر فى لندن، والدكتور أحمد عكاشة، والصحفى عماد أديب ليطمئنوا عليه.

وأراد أحمد أن يعرف متى وكيف رحل جاهين. لم يحتمل أن يظل لا يعرف شيئًا عمّا جرى لأبيه الروحى فى أيامه الأخيرة.

وأخبروه أنه قد دخل إلى المستشفى فى ليلة السادس عشر من أبريل بعد أن اتصل به، واطمأن على وصوله إلى لندن.

بعدها دخل فى غيبوبة دفعته إليها كل الأحداث المحيطة، فلم يتحمل مرض أحمد الذى يعدّه ابنًا له، وفى الوقت نفسه كان غاضبًا من أشياء كثيرة حدثت معه، منها وقف مسرحية له، وأخرى تقوم ببطولتها زوجته منى قطان، وحذْف اسم ابنه بهاء من كاريكاتير كان يحتفى فيه بصدور ديوانه الأول.

لكنّ أكثر ما أثار شجون أحمد هى تلك الرسالة التى حملها له الدكتور أحمد عكاشة من جاهين وهو على فراش الموت حين قال لمن حوله قبل ساعات من رحيله: «خلّوا بالكم من أحمد زكى».

وانصرف الضيوف، وتفرغ أحمد ليتذكر ما فعله جاهين من أجله.