الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

(آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ): القرآن.. ليس حَمَّال أوجُه!

يرى البعضُ أن تعاليم الإسلام تنظر للأنثى نظرة دونية مقارنة بالذكر، وهى رؤية تأسَّست على فهم غير صحيح لآيات قرآنية، مثل قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخـرف 19، (أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) الطور 39، (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى) النجم 21.



 

 

من الأقوال المنسوبة للإمام علىّ بن أبى طالب، أن القرآن حَمَّال أوجُه، وذلك عندما انتدب عبدالله بن عباس ليحاور الخوارج: «لا تجادلهم بالقرآن لأنه حمّال أوجُه، وجادلهم بالسُّنَّة».

 

وقد تتبع البعضُ أصل هذه الرواية فلم يجدوا فيها عبارة حَمَّال أوجُه، كما أن الإمام علىّ كان يعلم أن الخوارج رفضوا الأخذ بالسُّنة والاحتكام إليها، ولن يكلف المنتدب لحوارهم بأن يجادلهم بما لا يؤمنون به.

و«حَمَّال أوجُه» تعبيرٌ تم استخدامه بعد ذلك ليعطى معنى التناقض بأن كل آية يأتى بها من يدافع عن القرآن أو يستشهد به، يمكن لمن يجادله أن يأتى بآية أخرى فى نفس الموضوع تخالفها وتناقضها فى المعنى. 

والقرآن بذاته ليس بحَمَّال أوجُه، ولم ينزل ليجعل الناس فى حيرة، ولكن تختلف زوايا فهم الناس لمعانى القرآن الكريم، فقد يفهم منه البعض شيئًا لا يفهمه الآخرون، كما يوجد من يستطيعون أن يفهموا من الآيات معانى لا يستطيع غيرهم الوصول إليها.

والقرآن الكريم ليس فيه الرأى وضده؛ لأن الله تعالى أخبرنا أن لبعض آيات القرآن الكريم صفة التشابُه؛ تعبيرًا عن مرونة فهم المعانى ليتناسب مع اختلاف الزمان والمكان وظروف حياة الناس.

 المحكم والمتشابه

الآيات المحكمات هى الآيات التى لا تحتمل معنيين، فهى آيات قطعية الدلالة: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، النساء 103، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، البقرة 183، وكل ما هو أساسى فى الحياة تشمله آية محكمة واضحة الدلالة قطعية المعنى.

أمّا الآيات المتشابهات فتشمل الاختلاف والتغير، ولذلك فالمتغيرات تشملها الآيات المتشابهات ظنية الدلالة؛ لأنه تعالى أرادها أن تشمل كل الظروف، فى كل متغيرات الحياة، وذلك رحمة بالناس، أمّا آيات الوحدانية والمحرمات والفرائض فهى محكمات.

قال تعالى: (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)، آل عمران 7، ونلاحظ أن التأويل هو للمتشابه فقط.

قال تعالى: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، هود 1، والآيات المحكمة والمتشابهة تؤكد أن القرآن الكريم كتاب أحكم تعالى آياته بعد أن فصّلها على علم وحكمة: (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، الأعراف 52، فالآيات المحكمة تعطينا الخطوط العريضة بإيجاز، والآيات المتشابهة تعطى تفصيلات تؤكد ما قررته الآيات المحكمة.

والقرآن الكريم فيه آيات محكمة ثابتة وفيه آيات متشابهة متغيرة، فالثابت يمثل القوانين العامة للوجود، ومنها الموت وقيام الساعة ونفخة الصُّور والبعث والجنة والنار، وهذا الجزء لا يتغير ولا يتبدل؛ أمّا المتشابه فيتجلى فى مدى معرفة الإنسان بالسُّنن والقوانين المنظمة للوجود.

كما يشمل المتشابه آيات القَصَص: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ)، يوسف 3، وقد أورد منه تعالى أحداثا متكاملة تبيّن مدى تطوُّر تفاعُل الإنسان مع القانون العام للوجود والقوانين الجزئية من جهة، وكيف تفاعَل مع الرسالات من جهة أخرى، والتشابه فى فهم القَصَص القرآنى يرجع إلى تطور المعارف الإنسانية حول التاريخ، فكلما تطورت هذه المعارف تطور معها تأويلنا لآيات القصص. 

وتأتى آيات الأحكام بصيغة أمْر: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِى الْقُرْبَى)، النحل 90، أو صيغة نهى: (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، النحل 90، أو صيغة كتب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، البقرة 183، أو صيغة وصايا: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)، النساء 11.

القرآن الكريم محكم صحيح المعاني: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)، هود 1، ومتشابه لتشابه معانيه فى الصحة والإحكام: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ)، الزمر 23.‏

وبعضه محكم وبعضه متشابه: (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)، آل عمران 7.

 أمثلة من الآيات

والمحكم هو الذى يعتبر قطعى الدلالة مثل آيات الأحكام والعبادات والتشريع، والمتشابه منه أقسام، وجود احتمالات متشابهة لتفسير الآية، كالآيات التى تفيد أن المشيئة يمكن أن تكون لله وحده أو للعبد أيضًا: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، 29،.

وبالرجوع إلى المحكم نجد أن العبد مسئول عن أعماله: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ.‏ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، ‏الزلزلة 7- 8.

ومن المتشابه أن تأتى آيات توهم بصفات لا تليق بذات الله: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، الإسراء 16، هذه الآية متشابهة لأنها توهم أن الله يأمر بالفسق، ويقول تعالى فى آية محكمة: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، البقرة 28.

هنا نربط بين المتشابه والمحكم ونفهم الآية المتشابهة، ونجد بلاغة الإيجاز بالحذف، والكلمة المحذوفة قد تكون العدل، ويكون السياق «أمرنا مترفيها بالعدل ففسقوا فيها». وفى قوله تعالى: (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)، طه 85، الآية متشابهة لأن الله لا يفتن أحدًا، والمعنى أنه تعالى اختبرهم فلم يستطيعوا الصبر على الطاعة.

وفى قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ)، الحشر 19، الآية متشابهة، وهى توهم بنسبة النسيان إلى الله، ويقول تعالى فى آية محكمة: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً)، مريم 64، والمعنى فى آية سورة الحشر أنه تعالى أسقطهم من هدايته ورحمته ويؤكد ذلك قوله تعالى: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ)، ‎‏الجاثية 34، بمعنى أنه تعالى حاسبهم وأدخلهم النار.

لو كان القرآن كله محكمًا قطعى الدلالة؛ ما كان هناك حاجة لإعمال العقل والتفكر والتدبر فى آيات الله؛ بهدف البحث لكى يزيل التناقض الموهوم بين المتشابه والمحكم، قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا)، الإسراء 9.

 

قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، محمد24. إن تدبر آيات القرآن الكريم يحتاج إلى منهج موضوعى حتى لا تتناقض المفاهيم مع بعضها البعض، ومن مفردات المنهج عدم التأويل اعتمادًا على أحكام مسبقة بغرض إثباتها أو تبريرها، وكذلك الالتزام بمصطلحات القرآن ومفاهيمه لأن المنهج موجود فى بنية الآيات والألفاظ، فالتدبر يعنى أن نكون فى دبر الآية أى خلفها وأن تكون الآية دليلنا مع تتبع كل الآيات المتعلقة بالموضوع المراد بحثه فى القرآن كله والربط بينها.

وأخبرنا تعالى أن الذين فى قلوبهم زيغ سيتبعون الفهم المتغير للآيات حسب أهوائهم: (فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ)، آل عمران 7، يوجد فهم موضوعى للقرآن يتبعه الراسخون فى العلم  يقوم على الإيمان بالكتاب كله والتدبر فى آياته، ما كان منها محكم الدلالة وما كان منها متشابها مفصلا، كما يوجد الفهم الزائغ الذى ينتقى ما يوافق هواه.  إن القرآن الكريم واضح مبين محكم، وقارئ القرآن إن كان مؤمنًا ازداد بالقرآن إيمانًا وإن كان ضالًا ازداد به ضلالًا: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا)، الإسراء82، فالقرآن هو شفاء ورحمة للمؤمن الذى يسعى طالبًا الهداية بإخلاص فيجد فيه الهداية؛ أمّا الذى يستعمل القرآن ليخدم غرضًا فى نفسه فمن السهل عليه أن يُحَرِّف المعانى ويخلط المفاهيم، ثم يتهم القرآن الكريم بأنه حَمَّال أوجُه يقول المعنى وضده فى الوقت نفسه. 

قال تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)، فصلت 42، والذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليس بحَمَّال أوجُه: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى)، فصلت 40.