الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الذكرى الـ 98 لميلاد الكاتب الفيلسوف أنيس منصور السندباد المسافر عبر الزمن

كأنه بالأمس.. أتذكر جيدا أن كتاب (حول العالم فى 200 يوم) كان سبب بدء ارتباطى بعالم القراءة والتردد على المكتبات.. كنت فى المرحة الابتدائية (قبل نحو 25 عاما) بقريتى التابعة لمحافظة الغربية فى دلتا مصر.. وفى إحدى الإجازات الصيفية أعلن مركز شباب القرية عن افتتاح مكتبة به وأنها مفتوحة أمام الجميع للاطلاع والاستعارة أيضا.. دفعنى الفضول إلى التعرف عما تقدمه المكتبة.



بمجرد دخول المكتبة والنظر إلى «أرفف» كتبها المرتبة وقع عينى على غلاف أنيق عليه صورة الرجل صاحب الوقار «أنيس منصور» ورسومات تعبر عن اسم الكتاب وأنه يضم جولات للكاتب فى عوالم أخرى لا نعرف عنها شيئا خاصة أن وقتها لم يكن يخطر على بال أحد أنه سيكون هناك فى المستقبل ما يسمى (الإنترنت) أو كل هذا الكم من القنوات التليفزيونية.

الكتاب الساحر

المهم.. سحبت الكتاب وجلست على كرسى بجوار «الرف» وبمجرد البدء فى أولى كلماته وجدت نفسى مسافرا فى عالم آخر وكأننى أعيش فى مكان غير المكان.. وكأننى مرافق للكاتب فى رحلته التى بدأ به كتابه.. ولم يعيدنى إلى مكانى سوى صوت (أمين المكتبة) معلنا انتهاء ساعات عمله ويجب عليه الانصراف وأنا أيضا.. فطلبت منه استعاره الكتاب لمدة أسبوع ووافق.

الأسبوع الذى استعرت خلاله الكتاب قرأته مرتين وفى كل مرة أحلق فى السماء وأجلس مع شعوب مختلفة وكأننى أنا هو (أنيس منصور).. من وقتها عشقت هذا الكاتب صاحب الأسلوب الساحر والكلمات الرشيقة.. فقرات له ما تيسر أمامى من الكتب.. وفى كل مرة أقتنع أنه شخص من طراز فريد.

رغم أن ما سبق هو تجربة شخصية ولكن أعتقد أن «أنيس منصور» هو حالة خاصة فى عقول وتراكمات ثقافة الكثير من العاشقين لأدب الرحلات والأدب عموما.. وحتى الآن يمكن قراءة ما كتبه دون ملل وكأن أسلوبه واختيار موضوعاته عابرة للزمن.. ولذلك لا يسعنا هنا سوى أن نتذكر سويا بعض لمحات من حياة الكاتب الفيلسوف.

ذكرى ميلاده

الأسبوع الماضى وتحديدا يوم 18 أغسطس كانت ذكرى ميلاد سندباد الأدب والكاتب الفيلسوف (انيس منصور) – الذكرى الـ 98 - هذا الكاتب المختلف فى كل شىء حتى فى نشأته وتكوين عقليته وشخصيته الإنسانية والثقافية، كانت نشأته بسيطة فى إحدى القرى بالقرب من مدينة المنصورة، حيث ولد فى عام 1924 وتمكن من حفظ القرآن فى سن صغيرة حتى أتمه وهو فى سن التاسعة من عمره، حيث حفظ القرآن فى الكتاب بالقرية، وكانت له العديد من القصص والحكايات خلال رحلة حفظه للقرآن، رصد بعضها فى كتابه «عاشوا فى حياتى».

عمل أنيس منصور أستاذا فى الجامعة وكان يدرس للطلبة فى قسم الفلسفة، إلى أن ترك تلك المهنة من أجل التفرغ لهوايته الكتابة وإلى العمل الصحفى، وبدأ عمله الصحفى فى مؤسسة «أخبار اليوم»، ثم التحق بجريدة الأهرام، ومكنته خبرته الواسعة من ترأس تحرير عدد كبير من الصحف والمجلات منها؛ آخر ساعة وأكتوبر والجيل، وكما رأس إدارة دار المعارف.

عمود مواقف بالأهرام

 ختم أنيس منصور مشواره الصحفى الطويل والفريد بعموده الثابت بصحيفة الأهرام «مواقف»، والذى ظل يكتبه حتى وفاته فى 21 أكتوبر2011، وقد لعب المزيج ما بين الفلسفة والأدب والمهارات الصحفية الفائقة فى الكتابة، دورا مهما فى فتح الطريق لأنيس منصور فى بلاط صاحبة الجلالة، فكان من أصغر من تولى منصب رئيس التحرير فى الصحافة المصرية، وكان وقتها لم يكمل الثلاثين من عمره.

فى «مواقف» كان يثير أنيس منصور قضايا فكرية، ويحكى نوادر خفيفة عايشها، ويدلى بوجهة نظره فى أحداث آنية آنذاك، وكانت أقواله المأثورة حول الزواج والحب والمرأة والرجل هى الأشهر، وقد جمعها فيما بعد فى كتاب، ولا يزال رواد مواقع الفيس بوك يتداولونها حتى الآن.

200 كتاب مختلف

أثرى أنيس منصور طوال حياته الحافلة بعشرات الكتب المهمة والمؤثرة فى الثقافة العربية، زاد عددها على الـ 200 كتاب، ما بين الآداب والفنون والفلسفة وأدب الرحلات، ويعتبر الباحثون والمثقفون منجز أنيس منصور مكتبة كاملة متكاملة من المعارف والعلوم والفنون والآداب والسياسة والصحافة والفلسفة والاجتماع والتاريخ والسياسة والمرأة، نجحت فى تشكيل ثقافة أجيال متعاقبة.

من أشهر كتب أنيس منصور «حول العالم فى 200 يوم»، «بلاد الله لخلق الله»، «غريب فى بلاد غريبة»، «اليمن ذلك المجهول» «أنت فى اليابان وبلاد أخرى»، «أعجب الرحلات فى التاريخ»، «الذين هبطوا من السماء»، «الذين عادوا إلى السماء»، «لعنة الفراعنة»، كما تحولت العديد من أعماله إلى السينما والمسرح والدراما، ومن أبرزها مسرحية «حلمك يا شيخ علام»، «من الذى لا يحب فاطمة»، «هى وغيرها»، «عندى كلام».

ترجمة الكتب والروايات

 وفى الترجمة قدم «منصور» الكثير، حيث نقل نحو 9 مسرحيات و5 روايات من لغات مختلفة إلى العربية، إلى جانب ترجمته لـ 12 كتابا لعمالقة الفلاسفة الأوروبيين، كما اهتمت دور النشر العالمية بنقل كتب أنيس منصور إلى اللغات الأخرى، وخاصة الإنجليزية والإيطالية، ومن أهمها كتاب «حول العالم فى 200 يوم»، الذى تمت ترجمته لما يزيد على 10 لغات.

وعرف بأنه كانت له عادات خاصة بالكتابة حيث كان يكتب فى الرابعة صباحاً ولا يكتب نهاراً، ومن عاداته أيضاً أنه كان حافى القدمين ويرتدى البيجاما وهو يكتب، كما عرف عنه أنه لا ينام إلا ساعات قليلة جداً، وكان يعانى من الأرق ويخشى الإصابة بالبرد دائماً، وكان يمتلك 36 جواز سفر ملئت جميعا بالتأشيرات لكثرة سفرياته.

حصل فى حياته على الكثير من الجوائز الأدبية من مصر وخارجها ومن أبرزها الدكتوراه الفخرية من جامعة المنصورة وجائزة الفارس الذهبى من التليفزيون المصرى وجائزة الدولة التشجيعية فى مصر فى مجال الأدب، كما له تمثال بمدينة المنصورة يعكس مدى فخر بلده به.

علاقة منصور والسادات

كان منصور أحد أقرب الصحفيين المقربين من الرئيس أنور السادات، كما كان الكاتب المفضل للرئيس السابق حسنى مبارك، وظل السادات يتابع مقالات أنيس منصور على مدى سنوات، حتى قابله مصادفة فى مصعد أخبار اليوم، فأثنى على مقالته، ولم يلبث أن طلب منه كتابة مذكراته.

كان أنيس منصور يعتبر الرئيس السادات صديقه المقرب، وأنهما يفكران بالأسلوب نفسه، وكان من أكثر من أيّدوه فى اتفاقية السلام مع إسرائيل، كما كان واحدا من 3 شاركوا فى صياغة خطاب السادات أمام الكنيست، وهو الموقف الذى انتقده كثيرون.

ودليلا على تلك الصداقة يروى منصور أن السادات كان يحب المشى معه خصوصا فى حقول قريته ميت أبو الكوم، ويضيف أنهما قضيا ذات مرة وقتا طويلا فى السير معا والتحدث، حتى توقف السادات فجأة ونظر إلى ساعته ونظر فيها قائلا «إيه ده يا أنيس، تعرف أننا بنمشى بقالنا 3 ساعات، ولا حسيت».

معارك أنيس منصور

تميز بمواقفه وآرائه الجريئة، التى عرضته لأحيان كثيرة لخوض صراعات ومعارك، ولكنه كان صاحب موقف، ولم يصمت يوما نتيجة تلك الصدمات، فقد خاض معارك من أبرزها هى اتهامه بالتطبيع، وذلك بعد إجراء حديث تليفزيونى معه نادى فيه بتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيونى من أجل حل مشاكل الفلسطينيين، مشددا على أن معارضة التطبيع هو رفض للسلام وحل القضية، كما أوضح أن مصر تعرضت للاحتلال الإنجليزى قرابة الـ 70 عاما، وكذلك الاحتلال الفرنسى واليونانى والرومانى، ومع ذلك فالعلاقات قائمة ووثيقة ومتينة ومميزة، وهذه التصريحات غضب منها الكثير من السياسيين والكتاب حتى اتهموه بالتطبيع مع إسرائيل.

ومن بين تلك المعارك أيضاً، عندما أكد فى كتابه «الذين هبطوا من السماء»، أن كائنات فضائية هبطت من السماء وقامت ببناء الأهرامات، ويقول أيضا أن الحضارة الإنسانية ليست هى الحضارة الوحيدة التى عاشت على الأرض كانت قبلها حضارات ازدهرت واندحرت لأسباب لا نعرفها الآن، والإنسان ليس هو الكائن العاقل الوحيد فى هذا الكون وهناك كائنات أعقل وأذكى تعيش على كواكب أخرى كثيرة، وهذه الكائنات الأعقل والأذكى قد جاءت إلى الأرض، عاشت وأقامت وعلمت الإنسان وحذرته ثم اختفت ولكن بعد أن تركت آثارها فى الجيزة وفى بعلبك وفى كهوف التسيلى بليبيا وبالقرب من بغداد وفى جنوب فرنسا والنمسا وإنجلترا وروسيا، وكل هذا تسبب فى هجوم شرس عليه، وذلك لتشكيكه فى الحضارة الفرعونية القديمة.

  ومن أبرز المعارك معركته مع الإسلاميين، وذلك بعد انتقاده الشديد لشركة الطيران لمنعها تقديم الخمور على متن الطائرة، وهذا ما دعا الشيخ عبدالحميد كشك، أن يطلق عليه فى إحدى خطبه «أستاذ إبليس مسطول»، وليس هذا آخر هجوم على الكاتب الراحل أنيس منصور بل هاجمه سيد حسين العفانى وأبو إسحاق الحوينى، واستندوا فى هجومهم عليه إلى بعض الأخطاء فى الأحاديث النبوية التى أوردها أحيانا فى بعض كتاباته.

لقب (عدو المرأة)

كما أن أنيس منصور عرف بعدائه الشديد للمرأة والزواج، وظهر ذلك واضحاً من خلال كتابه «عاشوا فى حياتى»، حيث قال: وجدتنى عدواً للمرأة ووجدتنى أمسك سلاحاً سرياً أحاول أن أملأه بالاحتقار لها، فهذه الكلمات قادرة على جعل العالم غاضبا، ولكن فى حقيقة الأمر نجده يحب زوجته حباً شديداً، إذ كتب عنها «يجتمع فى زوجتى الذكاء والحنان، النار التى تدفئ، والنور الذى يضىء»، وعندما أصيبت زوجته بوعكة صحية حزن حزنا شديدا لدرجة أنه أصيب بجلطة.

علاقته بأمه

رغم تلقيب الأديب الراحل أنيس منصور بأنه «عدو المرأة» فإنه اعترف أكثر من مرة أنه يقدر ويؤمن بوجود المرأة فى الحياة، والدليل على ذلك ما قاله فى أحد لقاءاته التليفزيونية: «نعم أحب المرأة.. فهى التى استطاعت بذكائها وتسامحها ورقتها، وفى نفس الوقت بقوة شخصيتها واحتوائها، أن تجذبنى بخيوط حريرية ناعمة من حياة العزلة لأصبح مخلوقا اجتماعيا يتفاعل، وينعم بالزواج».

بكى أنيس منصور أمه، بعد وفاتها، بحرارة، وقال «كم أحببت هذه الأم وبكيت وما زلت أبكى فراقها فقد دفعتنى للتفوق والقراءة، وحفظ القرآن فى طفولتى، كانت أمى وصديقتى فى طفولتى وصباى»، وبناء على وصيته، من على فراش الموت، تم دفن أنيس منصور بجوار والدته بمدافن العائلة بمدينة نصر عام 2011.