الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

حادث كنيسة أبوسيفين بإمبابة ملاك الموت يخطف أطفال أسر بأكملها .. «لتكن مشيئتك يا رب»

«صَوْتٌ سُمِعَ فِى الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِى عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ». (مت 2: 18)



عاشت مصر يوم الأحد الماضى يومًا من أصعب أيامها، فقد امتلأت البيوت المصرية جميعها على حد سواء بالألم والوجع، وذلك عندما استيقظت على خبر اندلاع حريق هائل فى كنيسة أبوسيفين بأرض المطار بإمبابة، والذى راح ضحيته نحو ٤١ شخصًا أغلبهم من الأطفال والسيدات.

 

فى هذا اليوم فقدت نحو 5 أسر مصرية جميع أبنائها، رحلوا فى غمضة عين، وبعد أن كانت تلك البيوت تعج بضجيج الأطفال، أصبح الصمت القاتل يخيم على أرجائها.

فبعد أن كانت تملؤها ضحكات صغيرة بريئة تارة وخناقات شقية تارة أخرى، أصبح الصمت المطبق يخيم على قلوب ذويها، وذلك بعد أن انطفأت حياة أبنائها وبناتها مبكرًا.

لقد غدر الموت بقلوب أمهات ثكلى وأخذ منها على حين غرة فلذات أكبادهن، وكما اشتعلت النيران بالكنيسة وقضت على ما فيها من الأخضر واليابس، تأججت النيران أيضًا بقلوب تلك الأمهات، ولكن هذه النيران لم تنطفئ فى قلوبهن كما انطفأت نيران الكنيسة، بل تأججت نيران قلوبهن عندما أخذت ألسنتهن تنادى على أطفالهن ولكن ما من مجيب.

بل أخذت تقفز من شدة الألم والوجع الذى يلج قلبها تنادى عليهم لعلها تسمع كلمة: «نعم يا أمى» مرة أخرى، ولكن كان للقدر رأى آخر فانطفأت الحياة فى عيون تلك الأمهات ووضعت فى تابوت أبنائهن الذين راحوا ضحية هذا الحادث الأليم.

وانطلقت صراخات الأمهات الثكلى لعلهن يجدن من يطبطب على قلوبهن، ولكن ما من مجيب.

صراخهن يشق القلوب ويدميها، عيونهن تبحث عن كفوف صغيرة كانت تحتضنها وتقبلها كل يوم، ضحكات بريئة صغيرة تجعلها تنام قريرة العين، ولكنها ذهبت لخالقها فى غمضة عين.

وعلى الرغم من محاولات مستميتة لتقبل مشيئة الله وقدرها فإن العقول تأبى أن تصدق ما حدث.

فها هى هويدا أم فادى ومارى وجومانة إدوار تحاول استيعاب ما يحدث فتقف بعيون تائهة خائفة من الذى سيأتى، ولكنها تصرخ فزعًا عندما يضعون أمامها ثلاثة صناديق تحمل جثامين أبنائها الثلاثة تحاول أن تحتضنهم جميعًا، ولكنها لا تستطيع، فترمى بجسدها عليهم، وتعاتب الله قائلاً: «ثلاثة صناديق من عندى؟ ثلاثة؟ ليه يا رب»؟

ثم تصرخ فى تعجب متألم: «ولادى كلهم؟ ليه يا رب؟ ده لما الواحد بيشوف صندوق واحد بيلطم فتاخد من عندى ثلاثة»؟

وتنهار الأم وهى تصرخ من هول مصابها، بل تقفز من شدة الألم وتعاتب العذراء مناجية إياها: «زعلانة منك يا عدرا، زعلانة منك» ولكنها تستدرك قائلة: «لتكن مشيئتك يا رب، لتكن مشيئتك».

ولكن عندما ينادى فى الكنيسة على أسماء أطفالها الذين تترواح أعمارهم ما بين الثلاثة عشر والحادية عشرة تصرخ مرة أخرى: «ليه يا رب؟ وتشتكى لمن حولها قائلة: نار، نار يا رب».

وعندما حاول زوجها أن يجعلها تهدأ كانت تصرخ بأعلى صوتها: «أولادى، الثلاثة راحوا.. دول كانوا قمرات وعلطول فى الكنيسة، صبح وضهر وليل».

ويتسبب كلامها فى انهيار الأب الذى يصرخ معها قائلاً: «أنا غسلت ولادى أمال مين اللى هيغسلنى»؟

«سلموا علىّ الصبح، وسابونى ومشيوا.. مين هيأكلنى الشهد بعدهم وهتعشى مع مين من غيرهم»؟

ويحاول الأقارب أن يُهدئوا من وجعهم، ولكن قلوبهم تأبى أن تتعزى، فمن أين التعزية وفلاذات أكبادهم يحتضنهم صندوق وضع عليه كلمة «المرحوم».

وفى جانب آخر ارتمت نيرمين عاطف على صندوقين آخرين، حيث رقد فيهما أختاها ميرنا وإيرين عاطف والذى شاءت العناية الإلهية أن تتركا هذا العالم مع والدتهما التى احتضنت معها أحفادها الثلاثة بارثينيا ومريم (5 سنوات) وإبرام تامر وجيه (3 سنوات).

رحلت إيرين (34 سنة) بعد أن كانت حياتها مليئة بالتحديات الكثيرة والكبيرة وأصبحت أيقونة يحكى عنها الكثيرون، فهى كانت تعمل فى حضانة أطفال لأنها كانت تعشقهم، ولكنها كانت تعانى من تأخر وصعوبة فى الحمل إلا  أنها رزقت بالتوأم مريم وبارثينيا بعد عملية تلقيح صناعى، وذلك بعد 5 سنوات من زواجها على الرغم من أن كل الأطباء كانوا يؤكدون استحالة حملها لظروف طبية خاصة بها، ولكن كانت أمها هى السند لها وكانت دائمًا تصلى لها أن يرزقها الله ويعطيها سؤال قلبها.

وبعد سنة وشهر من إنجابها تعبت إيرين كثيرًا وكانت تصاب بإغماء كثيرًا، الأمر الذى كانوا يرجعونه إلى إرهاقها مع التوأم، ولكن بعد أن أجرت فحوصاتها الطبية كانت المفاجأة الكبيرة أنها تحمل طفلا آخر فى أحشائها عمره 4 شهور، وهذا على الرغم من وجود بطانة رحم مهاجرة وخضوعها لعملية جراحية لاستئصال ربع مبيض وأنبوبتين بالرحم، إلا أن الله أعطاها إبرام رغم كل هذه العوامل التى تجعل من حملها مستحيلاً، إلا أن فرحتها لم تدم كثيرًا، حيث توفى زوجها منذ ما يقرب من عام تقريبًا ليترك لها الأطفال الثلاثة دون دخل ثابت ففقدت الزوج الأمان والسند، ولكنها لم تيأس من رحمة الله الذى صنع معها المستحيل.

وبعد وفاة الزوج كانت إيرين لا تخرج كثيرًا وأعطت كل وقتها واهتمامها لأولادها الثلاثة ولم تذهب إلى الكنيسة، الأمر الذى جعل الآباء الكهنة يلحون عليها أن تذهب لحضور القداس للتناول وظل الوضع هكذا حتى قررت أن تذهب مع والدتها وأختها العروس والتى كانت خطوبتها قبل الحادث بأيام، ولم تكن تعلم أنها ذاهبة ليجمعها الله مرة أخرى مع زوجها هى وأولادها الثلاثة.

أما مارى حكيم والدة الطفلين كيرلس وبيشوى صابر فقالت فى فيديو لها إنها الآن مطمئنة عليهم وعلى مكانهم، مشيرة إلى أنها لو كانت زوجتهم لم تكن ستكون سعيدة كما هى الآن.

ولم يكن كيرلس ابنها ذو العشرة أعوام تقريبًا يريد الذهاب للقداس فى ذلك اليوم وطلب منها أن يذهب قداس الأربعاء إلا أنها رفضت وأصرت على ذهابهم لصلاة قداس الأحد.

وعندما علمت مارى بوفاة ولديها أخذت تصرخ قائلة: «لقد أوصلتهم للسماء بيدى».

أما والدة إيلاريا ومينا أشرف (١٣ عامًا) فعندما تلقت خبر وفاة طفليها امتقع وجهها رعبًا وذلك لأنهم كانوا يرفضون النزول للقداس فى ذلك اليوم إلا أنها أصرت مؤكدة على أهمية حضور قداس الأحد مؤكدة أنها هى من ألبستهم فى ذلك اليوم بنفسها وأوصلتهم بيديها.

ومازالت ابنتها الثالثة والصغرى مارينا أشرف بين الحياة والموت فقد وصلت المستشفى بلا ضغط والتنفس ونبضات القلب ضعيفة جدًا وتم وضعها على أجهزة التنفس الصناعى وحتى الآن مازالت حالتها غير مستقرة.

ومن جانب آخر شملت قائمة أطفال السماء ثلاثة توائم مهرائيل ويوسف وفيلوباتير باسم أمين (5 سنوات) إلا أن والدتهم دخلت فى غيبوبة ولم تعرف بخبر وفاتهم حتى الآن.

أما «مينا صالح» 16 عامًا فقد عرف بأنه صاحب الابتسامة والوجه البشوش وهو الشماس المساعد للقس عبدالمسيح بخيت كاهن الكنيسة.

مينا هو أصغر إخوته وكانت أمه دائمًا تقوم بتوصية إخوته الكبار عليه إيمانًا منها بأنها لن تعيش كثيرًا له، فكان يعلق دائمًا قائلاً: «ومين اللى قال إنى هعيش كتير، أنا هموت صغير أساسًا»، وعندما كانت تطلب منه أن يكف عن الهزار بهذا الشكل كان يجيبها: «أنا اللى هفتح لكم الترب وهكون أول واحد فيها».

مينا ليلة الحادث طلب من أمه أن توقظه باكرًا ليذهب للقداس إلا أنها شعرت بانقباض فى قلبها وقررت ألا توقظه، ولكن كان للقدر كلمة أخرى واستيقظ هو من نفسه وذهب للكنيسة للخدمة مع القس عبدالمسيح.

وفجأة استيقظت الأم على صوت صراخ كبير، حيث كانت الناس تصرخ فى الشارع وتقول الكنيسة تحترق، فقامت مفزوعة تبحث عن فلذة كبدها إلا أنها لم تجده وأيقنت أنه هناك.

نزل أخوه الأكبر للبحث عنه، ولكن دون جدوى، لا يجده ورغم إعيائه الشديد فإن الأم أخذت تحثه لإيجاد أخيه.

وبالفعل وجدوه وصرخ الأب بأن مينا حى ولايزال قلبه ينبض، فأخذه بسيارة الإسعاف والأم كانت تلحق بهم وهى تدعو الله ألا يمتحنها هذا الامتحان الصعب، وأخذت تناجى العذراء أن تترك لها ابنها، فقلبها لن يتحمل ألم فقدان الابن، إلا أن قبل وصولها قالوا لها إنه توفى، ولكنها أبت أن تصدقهم وأبت أن تصدق أن الله سمح لها بهذه التجربة الرهيبة، فهى تريد ابنها ولا تستطيع الحياة بدونه.

ولكن كانت الكلمة الأخيرة بوفاة أصغر أبنائها تاركًا إياها مع دموع وألم لا يقل منهما احتضانها الدائم لصورته وملابسه وهى تطلب الرحمة والصبر من الله لأنها لا تحتمل هذا الألم الكبير الذى تعجز كلمات العالم عن وصفه.

ومازالت حادثة حريق كنيسة أبوسيفين بأرض المطار بإمبابة تحمل الكثير والكثير من الألم الذى لا ينتهى والدموع التى لا تجف والوجع الذى لا يقل، فصرخات الأمهات مازالت تزلزل جدران وشوارع إمبابة ذلك الحى الصغير الذى أكد للجميع أن ما حدث هو مصاب كل بيت وكل أسرة وأن الوجع والألم واحد لهم جميعًا.