الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

70 سنة ثورة يوليو.. ناصر «العدو» الذى احترمه الغرب

«إن المَسيرة المقدسة التى تصر عليها الأمّة العربية، سوف تنقلنا من فوز لآخر.. نعم؛ إن عَلم الحرية الذى يرفرف فوق القاهرة ودمشق، وبغداد اليوم، سوف يُحَلق فوق بقية الشرق الأوسط».. هكذا كانت كلمات ناصر.. الذى أطلق عليه العالم العربى.. زعيم الأمّة.. هذا الفارس الذى استطاع أن يسطر اسمّه فى التاريخ ليصبح علامة، وأحيانًا نهجًا سياسيًا.. شعوب الشرق قدسته، وسياسيو الغرب يخشوه.. ورُغْمَ ذلك يحترمون قدراته وخُطاه.. فكان أعداؤه يحترمون صدقه.. وفاءَه لشعبه.. حتى حلمه بالقومية العربية وهو المشروع الذى كرّس له حياته كلها، كان من أنبل وأخطر الأحلام للغرب..



 

 فما حدث من هزيمة ساحقة للـ«أسد البريطانى» فى ثورة 23 يوليو.. وما تبعه من مواجهة الغرب جعل من جمال عبدالناصر زعيمًا وأيقونة تاريخية.. يخشاها الغرب بل «يمقتها» أحيانًا.. حتى يومنا الراهن.. حتى إنهم أطلقوا على نهج سياساته مصطلح «Nassersim» ليصبح جمال عبدالناصر نهجًا سياسيًا عالميًا.. وشبح الغرب الذى لا يزال يؤرقه.

 الظهور الأول

مع الاحتفال اليوم بالذكرى الـ70 لثورة 23 يوليو، التى نقلت مصر من عصر الملكية والطبقية إلى عصر يَرسى مبدأ المساواة بين جميع طبقات الشعب، وهى المبادئ التى جاهد من خلالها جمال عبدالناصر «حبيب الملايين» لتكون دربَه حتى مماته؛ حيث كان ناصر دومًا نصيرًا للمستضعفين فى الأرض وصوتَ مَن ليس له صوت؛ ليحظى بشعبية جارفة لم ينلها زعيم آخر، وتتخطى شعبيته حدودَ مصر لتصل إلى الغرب.

وقد اعترف أعداؤه وخصومه السياسيون بتأثيره، فهو الوحيد الذى تناول سيرته ثلاثة آلاف كتاب أمريكى، عشرات منها لمجموعة من كبار مسئولى الإدارة الأمريكية، ما يعنى أن سيرته ظلت أسطورة فى عيون أعدائه قبل أصدقائه.

ومنذ بداية ثورة يوليو، كان جمال عبدالناصر هو عدوّ بريطانيا اللدود، تضاربت سياسات ناصر الخارجية والداخلية المستقلة بشكل متزايد مع المصالح الإقليمية لكل من المملكة المتحدة وفرنسا. فدعمُه القوىُّ لاستقلال الجزائر، ووقوفه ضد حلف بغداد كانا من أقوى المسببات التى نصّبت العداءَ بين الطرفين، بالإضافة بالطبع لنضاله الطويل ضدهم وقت احتلالهم لمصر.

وبقرار تأميم القناة اشتعلت الحرب بينه وبينهم بصورة رسمية؛ حيث كان قرار التأميم ضد مصالحهم ورُغْمَ إدراك ناصر لما سيحدثه هذا القرار من أزمة دولية؛ فإنه لم يتردد فى اتخاذه وصدقت توقعاته حيث تعرضت مصر لعدوان ثلاثى من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، لتظل بريطانيا عدوًّا استعماريًا لعبدالناصر ومصر.

وقد قال عنه هارولد ماكميلان (رئيس وزراء بريطانيا فى الفترة بين 1957-1967): «إن نجاح عبدالناصر شجّع فجأة الحركات القومية وجعلها تتصور أنها قادرة أن تسحق بريطانيا، ولو أن جمال عبدالناصر استقل بمصر وحدها لما كان الخطر كبيرًا على مصالحنا فى العالم كله. وأننى أقول لكم صراحة إن جمال عبدالناصر كان أخطر على مصالحنا من الاتحاد السوفيتى ولم تستطع كل جهود روسيا أن تضعفنا كما استطاع أن يفعل عبدالناصر».

كما قال إدوارد هيث، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق (1970-1974): «لم تكن قوة عبدالناصر ونفوذه معترفًا بهما فى مصر وحدها ولكن فى جميع أنحاء العالم العربى».

 «ناصر» والإعلام الغربى

منذ بداية ثورة 23 يوليو، وكان العالم الغربى يسلط أنظاره على مصر وجماعة الضباط الأحرار الذين استطاعوا أن يهزوا عرش إمبراطوريات الغرب فى المنطقة، لكن دائمًا ما كان ينظر لجمال عبدالناصر أنه العقل المدبر لجميع التحركات التحريرية فى الشرق، ومنذ توليه رئاسة الجمهورية؛ كانت صورة جمال عبدالناصر تتصدر أغلفة أعرق الصحف الأمريكية والصحف العالمية، ففى عام 1955 تصدرت صورة ناصر الشهيرة بزيّه العسكرى مجلة «التايمز» الأمريكية.

وفى هذا العدد الصادر بتاريخ 26 سبتمبر 1955، (وهذا الوقت) كان الأمريكيون فى مراكز اتخاذ القرار والصحافة والإعلام يتعاملون مع عبدالناصر على أنه الرجل الأقوى فى المنطقة.

وكانت فكرة احتلال فلسطين والنزاع المتواصل على الحدود «المصرية- الفلسطينية» يزعج الولايات المتحدة باعتبارها دولة كبرى ولها مصالح فى المنطقة.

كانوا يرون أن عبدالناصر على وَشَك أن يكون له دورٌ ليس فى المنطقة؛ بل العالم، لذا كانت تحليلاتهم أكثر عمقًا فى الشخصية، وأفردوا فى تقريرهم المذكور بعضًا من سماته، أنه شخص شديد الذكاء، واسع الحيلة، بارع فى وضع الخطط، وكانت من بين الشهادات التى أفردت هذه الصفات شهادة السفير چيفرسون كافرى (سفير أمريكا فى القاهرة حينها).

لكن ذات المجلة وصفته فى عددها الصادر يوم 28 يوليو 1958 بـ«المغامر»، وذلك بعد ما شعروا به من تطلع نحو زعامة عربية ودولية كبيرة، بعد اهتمامه الكبير بالخارج، وتواصله المستمر مع الكتلة الشرقية، بزعامة تيتو، رئيس يوغسلافيا.

هنا وصفته «التايمز» بأنه شخصية عصيّة على الفهم، مُركبة، مغرور، وعنيد، ومهتم بالسُّلطة.. هذا أمرٌ مفهومٌ بالتأكيد؛ خصوصًا مع التقارب الوشيك مع الاتحاد السوفيتى.

هنا تحوَّل عبدالناصر من شخص مثير للإعجاب، إلى شخص مثير للاستهجان، فى عدد 29 مارس 1963 ظهرت على «التايم» صورته المشهورة ووراءه «أبوالهول» فى إشارة من المجلة الأمريكية، إلى «تحوُّل الزعيم إلى فرعون مصرى قديم».

بعد حرب يونيو 1967 كان هناك ما يشبه بالاحتفاء بالانتصار الإسرائيلى، ولكن ما حير الأمريكيين فعلًا هو المظاهرات التى خرجت بعد الهزيمة تطالب عبدالناصر بالاستمرار بعد استقالته، وهو ما ظهر على غلاف «نيوزويك» فى 11 سبتمبر من عام الهزيمة؛ حيث ظهر عبدالناصر فى الصورة وعلى وجهه ملامح الهزيمة، أمّا التقرير فحمل تحية «للبطل المهزوم»، مؤكدًا بين ثناياه أن «الهزيمة لم تنل من الحماس الذى ألهبه عبدالناصر فى نفوس الجماهير العربية».

وفى 16 مايو من العام 1969، التقى رئيس مجلة «تايم» هيديليدو نوفان، بالرئيس عبدالناصر، وأجرى حوارًا معه فى بيته بمنشأة البكرى، وكانت أهم عبارات الزعيم المصرى فى الحوار هى:

- نرفض الجلوس مع إسرائيل، فلو جلسنا الآن سنجلس كشعب مهزوم يستسلم، وهذا ما لن نفعله.

- سأقبل حقيقة إسرائيل، وسيقبلها شعبى، إذا تم التوصل إلى تسوية إنسانية.

- قبل حرب 1967 لم أكن أدير الأمور العسكرية، أمّا الآن فأنا أتعامل معها بشكل مباشر، وأنا على ثقة أننى لا أُضل.

بعد رحيل عبدالناصر كان الجميع يبكونه حتى أعداؤه، أو المختلفون معه، لكن ما كان يشغلهم هو وضع الشرق الأوسط بعد رحيل أهم زعمائه، مجلة «لايف» فى 9 أكتوبر 1970 بحثت عن مستقبل المنطقة بعد موت عبدالناصر، وانتهت إلى أنه «أورث الأمّة العربية أشياءً لن يحيدوا عنها بسهولة».

 كاريزما «العدو»

رُغْمَ ما حدث إبّان نكسة 67 وما واجهه جمال عبدالناصر من أزمات فى الداخل والخارج؛ خصوصًا من قبَل دولة الاحتلال الإسرائيلية والولايات المتحدة؛ فإن الرئيس الراحل كان بمثابة «الكابوس» أو الشبح على قادة الدول الغربية، وهو ما أكدته رئيسة وزراء إسرائيل السابقة جولدا مائير فى مذكراتها؛ حيث أفردت جزءًا من مذكراتها «كتاب حياتى» عنه تسرد خلاله «صدمتها» من خبر وفاته.. فهو كان «العدو الشريف» لدولة الاحتلال كما وصفته مائير.

ومناحم بيجن، رئيس وزراء دولة الاحتلال آنذاك، قال عن وفاة ناصر: «بوفاة جمال عبدالناصر أصبح المستقبل مشرقًا أمام إسرائيل وعاد العرب  فرقًا كما كانوا وسيظلون باختفاء شخصيته الكاريزماتية».

وقال عنه موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلى، عندما رحل: «هذا الرجل العظيم الذى لن يتكرر فى التاريخ، عبدالناصر كان ألد أعدائنا، وأكثرهم خطورة على دولتنا، ووفاته عيد لكل يهودى فى العالم».

أمّا ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال؛ فقد قال عن خبر وفاة زعيم الأمّة: «كان لليهود عَدوَّان تاريخيّان هما فرعون مصر فى القديم وهتلر فى الحديث، ولكن عبدالناصر فاق الاثنين معًا فى عدائه لنا، لقد خُضنا الحروب من أجل التخلص منه، حتى خَلصنا منه الموت».

فى المقابل، قال عنه ريتشارد نيكسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية: «إن الكثيرين من قادة العالم وزعمائه قد صَيّرتهم المواقفُ والأعمال عظماء عند الناس، ولكن جمال وحده كان يُصَيّر المواقفَ والأعمال ويجعل الناس والأشياء عظيمة كلها من حوله، فهو لم يكن عظيمًا بما حققه لبلده ولأمّته من انتصارات وأمجاد فحسب؛ ولكنه كان عظيمًا بالقيم الرفيعة والمبادئ الخالدة التى وقف من أجلها دومًا بشرف وبسالة».

كما قال عنه، چورج بومبيدو رئيس فرنسا الأسبق: «إنه رجل دولة عظيم استعاد بحق لمصر كرامتها وعزّتها». وقال عنه أليكسى كوسيچين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتى: «إن ناصر كان وسيبقى إلى الأبد فى ذاكرة الناس مناضلًا من أجل الكرامة والوطنية والعزّة لشعبه».

وقال عنه جوزيف بروز تيتو، رئيس يوغسلافيا: «كان كل أمل ناصر أن يرى حياة شعبه قد تحسنت، ويرى الوحدة العربية وقد تحققت. إن جمال عبدالناصر واحدٌ من البُناة الذين سعوا إلى تحقيق وحدة إفريقيا.. وقد كانت حياته القصيرة حياة غنية ولم يكن أحدٌ سواه يستطيع القيامَ بما قام به».

 زعيم الأمّة

وفْقَ مذكرات سامى شرف، وزير شئون رئاسة الجمهورية وسكرتير جمال عبدالناصر للمعلومات، التى صدرت تحت عنوان «سنوات مع عبدالناصر»، تناول خلالها رؤية الغرب؛ خصوصًا أمريكا للزعيم الراحل، وقال «شرف» فى كتابه: «قصدت أن أبرز ما كتبه الأمريكيون بالذات، وهذا لا ينفى أن آخرين كثيرين من دول أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية قد أدلوا بدلوهم حول ثورة عبدالناصر أيضًا».

وأضاف: «تحت يدى كتابات استطعت أن أحصل عليها من مئات الكتب؛ بل الآلاف منها؛ حيث سجّلت مكتبة جامعة أوكسفورد منذ تسعة أعوام أنه كتب عن عبدالناصر ما يزيد على الثلاثة آلاف كتاب بلغات مختلفة، هذا بخلاف الدراسات والندوات والرسائل الجامعية والمحاضرات والأحاديث فى الفضائيات المرئية والمسموعة مما يصعب حصرها عمليًا، أقول هذا ما استطعت أن أحصل عليه بوسائلى الخاصة لما كتب عنه بوساطة ساسة وكُتّاب ومفكرين وصحفيين من الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، لعلها تفيد الباحثين فى إلقاء الضوء على تجربة الرجل الإنسان التى وضعته فى دائرة الضوء منذ قيام الثورة أو عقب قيامها، بفترة قليلة ومن اليوم وباكر كما هو مرئى ومنتظر».

وتناول، سامى شرف، كيفية تعامُل الرئيس الأمريكى الأسبق ريتشارد نيكسون، مع ناصر فى كتبه «القادة» و«الفرصة السانحة» و«نصر بلا حرب»، كذلك كتب هنرى كيسنجر عن تأثيره فى الاستراتيچيات العالمية فى كتابه «سنوات فى البيت الأبيض» الذى جاء فى جزأين كبيرين، ثم كان موضوعًا لكتاب الصحفى الشهير بوب وودوارد «الحجاب: الحروب الخفية لوكالة الاستخبارات الأمريكية» و»الهدف- الشرق الأوسط».

وكتب الصحفى ويلتون وين، الذى عمل مراسلًا فى الشرق الأوسط لمدة 40 عامًا والذى قال فيه: «لقد أصبح ناصر زعيمًا لكل العرب لأنه يمثل شعوبهم اليوم أصدق تمثيل»، ووصفه السفير هنرى بايرود، سفير أمريكا فى القاهرة خلال الخمسينيات، بأنه «القائد الوحيد فى العالم العربى الذى يمثل الاتجاه الجديد، والذى يمكن لدبلوماسى غربى أن يجرى معه مناقشات مفيدة متزنة، ولو حدث انتخاب حقيقى فى سوريا أو الأردن أو العراق لفاز ناصر بنسبة كاسحة».