الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

70 سنة ثورة يوليو.. خطاب مفتوح إلى جمال عبدالناصر الحرية هى الرئة الوحيدة التى يتنفس بها الشعب إنك فى حاجة إلى الخلاف تمامًا كحاجتك إلى الاتحاد

تحية أزكى بها شبابك الذى عرضته للخطر، وجهدك الذى تنفقه 



من أجل هذا الوطن.

تحية من سيدة عاصرت الحوادث واعتصرتها التجربة.. أنفقت عمرها تتأمل الوجوه القديمة حتى كفرت بكل وجه يحمل ملامح الندم، فلا يسعدها اليوم شىء كما يسعدها أن ترى الوجوه الجديدة تزحف، وتنال فرصتها الكافية لتحاول أن تسير بهذا الوطن بأسرع مما كان يسير.

إننى أعرف الكثير عن ساعاتك التى تنفقها عملا بغير راحة ولياليك التى تقطعها سهرا بلا نوم، وتدقيقك البالغ فى كل أمر بغية أن تصل فيه إلى وجه الصواب ولكنك - وحدك - لن تستطيع كل شيء.. ولا بالمعونة الخالصة من أعوانك، وأصدقائك، وكل الذين تعرفهم وتثق بهم، فلابد لك من معونة الذين لا تعرفهم أيضا الذين يعيشون فى جو غير جوك ويتأثرون بعوامل غير التى تؤثر فى أصدقائك ويمرون بتجارب كثيرة منوعة لا يمكن أن يمر بها واحد من الناس، ولا عشرة، ولا ألف!

إنك - باختصار - فى حاجة إلى الخلاف.. تماما كحاجتك إلى الاتحاد. إن كل مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معا، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، الاتحاد للغايات البعيدة والمعانى الكبيرة، والخلاف للوسائل والتفاصيل، انظر إلى الأسرة الواحدة فى البيت الواحد.. قد تراها متماسكة متحابة متضامنة.. ولكن كل فرد فيها يفضل نوعا من الطعام ويتجه إلى طراز من العمل ويروق له لون من الثياب.. ثم انظر إلى أسرة الوطن الكبير- أى وطن كبير- تجد هذا التباين والخلاف موجودا بينهم فى أدق دقائق الحياة، فى طريقة تذوق الحياة ذاتها.

هذا الخلاف ليس شيئا تمليه الطبيعة وحدها، بل والمصلحة أيضا.. فكل إنسان يعيش حياة خاصة به تكيفها ظروفه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن حق كل إنسان أن يعبر دائما عن تجربته التى يستخلصها من هذه الحياة.. وأن يوضح مطالبه ويشرح أحلامه.. ومن اختلاف المطالب واحتكاك التجارب يتبين الجو العام أو رأى عام، يتفق عليه أكثر الناس.. شىء كضغط الهواء تحسه ولكن لا تراه.. يوجه دفة السياسة كما تنفخ الريح فى الشراع!

فمالك الأرض الزراعية لا ينظر إلى الأمور كما ينظر إليها صاحب المصنع.. وإحساس الموظف ليس كإحساس العامل الزراعى أو العامل الصناعى أو التاجر.. وما دام الناس طبقات كل طبقة لها وضعها وظروفها فلا بد من تعارض.. لا بُد من تمدد فى كل شىء.. فى الأحزاب، فى الآراء، فى الأحلام.. تمدد يصبح وحدة متماسكة إذا دهم خطر خارجى، أو نزلت بوطن الجميع نازلة، ولكنه لا يموت أبدا لأنه شيء تمليه الطبيعة وتمليه المصلحة.

وأنت تؤمن بهذا كله لا شك فى ذلك.. وقد قرأت لك غير بعيد حديثا تطالب فيه بالنقد وبالآراء الحرة النزيهة ولو خالفتك، ولكن.. أتعتقد أن الرأى يمكن أن يكون حرّا حقّا وعلى الفكر قيود؟ وإذا فرض وترفقت الرقابة بالناس، واستبدلت حديدها بحرير، فكيف يتخلص صاحب الرأى من تأثيرها المعنوى؟ يكفى أن توجد القيود كمبدأ ليتحسس كل واحد يديه.. يكفى أن يشم المفكر رائحة الرقابة.. وأن يرى بعض الموضوعات مصونة لا تمس ليتكبل فكره وتتردد يده، ويصبح أسيرًا بلا قضبان.

وقد قرأت لك أيضًا - أو لبعض زملائك - أنكم تبحثون عن كفايات، وأنكم تريدون طرازًا غير المنافقين الموافقين ولكن.. كيف يبرز صاحب الكفاية كفايته.. أليس ذلك بأن يعبر عن نفسه.. يعبر عنها بصراحة ودون تحوير؟.. إن مجرد شعور صاحب الكفاية - خاطئا أو مصيبا - بأن هناك شيئًا مطلوبًا وشيئًا غير مطلوب يجعله إما أن يبعد بنفسه خشية أن لا يوافق المطلوب، وإما أن يقترب بعد أن يهيئ نفسه ليتلاءم مع ما يعتقد أنه مطلوب، فتضيع الفائدة منه فى كلتا الحالتين.

أترى.. إلى أى حد تفسد هذه القيود الجو.. أترى إلى هذا الستار الكثيف الذى تقيمه بين الحاكم وبين ضمائر الناس؟ إن الناس لا بُد أن يختلفوا لأنهم مختلفون خلقا ووضعا وطبعًا.. وقد دعت الظروف إلى إلغاء الأحزاب، وإلى تعطيل الكثير من وسائل إبداء الرأى.

وقد أصبح للعهد الجديد شعار واحد وألوان واحدة، فلم يبق شىء يمكن أن يتنفس فيه النقد وتتجاوب فيه وجهات النظر غير الصحف، وأسنة الأقلام وتفكير المواطنين.

على أنى أعرف الدوافع لإبقاء هذه القيود.. أنت تخاف أنياب الأفاعى وفيران كل سفينة.. أنت تخاف من إباحة الحريات أن يستفيد منها الملوثون المغرضون، ولكن صدقنى أن هذا النوع من الناس لا يكون لهم خطر إلا فى ظل الرقابة وتقييد الحريات.. إن الحرية لا يفيد منها أبدا إلا الأحرار، والنورلا يفزع إلا الخفافيش. أمّا الهمسات فى الظلام، والبسمات التى يبطنها النفاق والمدائح التى يمتزج بها السم الزعاف.. فلا شيء يبطل مفعولها إلا النور والهواء الطلق والرأى العام النابه الحريص.

وأعرف أيضًا أنك تتهيأ لمعركة فاصلة مع الانجليز، وكلمتك الباهرة التى أعلنت بها توقف المباحثات لا تدع مجالا للشك فى صلابة موقفك.. وأنت تخاف على هذا الموقف الصلب من إطلاق الحريات خشية أن يندس بين أمواجها دعاة الهزيمة والتفكك.. وصدقنى أن هذا لن يكون.. فهؤلاء الانهزاميون لم يحدثوا تأثيرهم فى الماضى إلا لأن جهات قوية كانت تحميهم.. ولو أنهم تركوا بغير حماية لما عاشوا طويلا.. فالحرية الصحيحة دائما كفيلة بقتل أعضائها كما يقتل نور الشمس ديدان الأرض.

بل إن استعدادك للمعركة الفاصلة مع الانجليز وحده سبب كاف لإلغاء القيود على الحريات.. فمن مصلحة هذه المعركة أن يكون جنودها أحرارًا.. والقيود ستار للضعيف، وعذر للمتردد ولكنها عقبة فى سبيل الأقوياء المؤمنين. ولا تصدق ما يقال من أن الحرية شيء يباح فى وقت ولا يباح فى وقت آخر.. فإنها الرئة الوحيدة التى يتنفس بها المجتمع ويعيش.. والإنسان لا يتنفس فى وقت دون آخر.. إنه يتنفس حين يأكل، وحين ينام، وحين يحارب أيضًا.

إنك بكل تأكيد تضيق ذرعًا بصحف الصباح حين تطالعها فتجد أنها تكاد تكون طبعة واحدة لا تختلف إلا فى العناوين. حتى بعض حوادث الأقاليم المحلية يصدر بها أحيانًا بلاغ رسمى واحد.. والناس كلهم يحسون ذلك ولا يرتاحون إليه.

وقد قلت مرة أنك ترحب أن تتصل بك أى جريدة إذا أحست الضيق.. ولكن.. أليس فى هذا ظلم لك، وللصحف، وللقضايا الكبرى التى تسهر عليها؟ ألم أقل أنك لن تستطيع وحدك كل شيء؟

فقـد أقــدمـت- وفى شبابك الباكر- على تجارب هائلة.. خضت بعضها ورأسك على كفك لا تبالى مصيره.. وليس كثيرًا أن تجرب إطلاق الحريات..

إن التجربة كلها لا تحتاج إلا إلى الثقة فى المصريين.

وأنت أول من تجب عليه الثقة فى مواطنيه.

«فاطمة اليوسف» (11 مايو 1953)

 

 

 

 

..وجمال عبدالناصر يرد: لا نريد أن يشترى الحرية أعداء الوطن.. حاجتنا إلى الخلاف من أسس النظام

أمّا تحيتك فإنى أشكرك عليها. وأمّا تجربتك فإنى واثق أنها تستند على دروس الحياة. وأما تقديرك لما أبذله من جهد فإنى أشعر بالعرفان لإحساسك به. وأمّا رأيك فى أنى لا أستطيع أن أفعل وحدى كل شىء فإن هذا رأيى أيضًا ورأى كل زملائى من الضباط الأحرار، نحن الذين قامت حركتنا على تنظيم كامل عاشت فيه الفكرة وتوارت الأشخاص وقام كل فرد فى ناحيته بأقصى ما يستطيع من جهد. وأما أنى فى حاجة إلى كل رأى فقد أعلنت هذا ولن أمل تكرار إعلانه، ليس من أجلى وإنما من أجل مصر.

وأمّا حاجتنا إلى الخلاف فى التفاصيل قدر حاجتنا إلى الاتحاد فى الغايات فأنا مؤمن به واثق أنه من أسُس الحرية الصميمة، بل من أسُس النظام أيضًا.

وأنا أكره بطبعى كل قيد على الحرية وأمقت بإحساسى كل حد على الفكر على أن تكون الحرية للبناء وليس للهدم، وعلى أن يكون الفكر خالصًا لله وللوطن.

ودعينى ألجأ إلى تجربتك لكى تبقى الحرية للبناء ويبقى الفكر لله والوطن لا تخرج بهما شهوات وأغراض ومطامع عن هذه المثل إلى انقلاب مدمر يصيب مصالح الوطن المقدسة بأبلغ الأضرار.

لقد قلتِ أنتِ بنفسكِ إنك تعلمين أنى أخشى على موقف البلاد الصلب من إطلاق الحريات خشية أن يندس بين أمواجها دعاة الهزيمة والتفكك.

لقد عبرت بهذا عن جزء مما أشعر به.

واسمحى لى أن أضيف عليه شيئا آخر هو أننى لا أخشى من إطلاق الحريات، وإنما أخشى أن تصبح هذه الحريات كما كانت قبل 23 يوليو سلعا تباع وتشترى.

أنتِ لا تتصورين كم فجعت لما أتيح لى أن أطلع فى وثائق الدولة على مأساة الحرية.

لقد كان للحرية سوق وكانت للأفكار تجارة وكانت الحرية تضيق وتتسع بالأرقام. وكانت الأفكار تنقلب طبقا للأسعار التى تدفع فيها، وأنا لا أقصد بذلك أن أمس جميع الصحفيين، وإنما الذين أقصدهم هم جميع هؤلاء الذين قرأت أسماءهم فى كشف المصاريف السرية، وأنا أريد أن أصون الحرية من هذا العبث. ولا يتفق ومبادئنا أن تصفق لنا الجرائد على صفحاتها لأننا أطلقنا كل الحريات ثم نذهب من وراء الصفحات فنشترى هذه الحرية التى رأينا من وثائق الدولة كيف كانت تباع بأبخس الأثمان.

ونحن لا نريد أن يشترى الحرية غيرنا.. ومن يدرى فقد يكون بينهم أعداء للوطن يفرقون هذا الشعب الطيب الوديع الذى استغلت طيبته واستغلت وداعته واستغل قلبه المفتوح وغرر به دون ما أساس سليم يصونه من التضليل- بما لا يجب أن يغرق فيه فى هذه الظروف العصيبة التى تمر بالوطن.

وثقى- وليثق معك كل مواطن- أن أعداء البلاد على استعداد لأن يدفعوا أغلى الأثمان فى سبيل استغلال طيبة الشعب وقلبه المفتوح والتغرير به وخداعه مرة ثانية حتى يصلوا إلى أغراضهم.

ونحن الآن فى سبيل إرساء الدعائم ووضع الأسُس التى تنهض عليها فى المستقبل حرية جديرة باسمها خليقة بمعانيها السامية مصونة من العبث مرتفعة فوق المساومات.

ومع ذلك فأين هى الحرية التى قيدناها، أنتِ تعلمين أن النقد مباح وأننا نطلب التوجيه والإرشاد ونلح فى الطلب، بل إننا نرحب بالهجوم حتى علينا إذا كان يقصد منه إلى صالح الوطن وإلى بناء مستقبله وليس إلى الهدم والتخريب ومجرد الإثارة.

ذلك لأننى أعتقد أنه ليس بيننا من هو فوق مستوى النقد أو من هو منزه عن الخطأ.

وبعد، فإنى أملك أن أضع رأسى على كفى، ولكنى لا أملك أن أضع مصالح الوطن ومقدساته هذا الوضع.

«جمال عبدالناصر»