الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة نفسية: كيف يُفكر الرئيس الروسى فلاديمير بوتين؟

رُغم التاريخ الطويل لمحاولات علماء النفس دراسة شخصيات القادة وتأثيرها على عملية صنع القرار؛ فإن التقدم فى هذا المجال لا يزال يسير بوتيرة بطيئة للغاية، فى ظل ما يشوبه من محاذير ترتبط بالتحفظ على تقديم تحليلات لشخصيات لم تتم دراستها وجهًا لوجه، وما ينطوى عليه التحليل القائم على تحليل الكتابات والسير الذاتية وغيرها من المصادر الثانوية من عدم دقة فى تفسير سمات شخصيات وأنماط تفكير القادة.



غير أن هناك العديد من المحاولات الجادة والنظريات التى يمكن الرجوع إليها للوصول إلى ما يشبه المقاربات التحليلية الخالية من إصدار الأحكام القاطعة حول الشخصية.

ولعلّ المتابع للأزمة الأوكرانية الروسية سيتبدّى له - دون شك- مدى تأثير سمات شخصية الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ونمط تفكيره ونظرته للعالم على اتجاهات الأزمة وتحولاتها، فهو بمثابة «المفتاح» لفهم ما يجرى فى الوقت الذى تعجز فيه أحيانًا الرؤى الاستراتيجية عن الإجابة على العديد من التساؤلات المهمة حول الأزمة وجذورها ودوافعها واتجاهاتها.

 مغالطة اللا عقلانية فى تقييم اتجاهات الرئيس الروسيّ

هل تسير تحركات الرئيس الروسيّ وفقًا لمبدأ العقلانية؟ وهل يُعد افتراض العقلانية عند تفسير التحركات الروسية القادمة هو المسار الأمثل؟.

أيُّ حرب فى العالم تقوم على مجموعة من الاختيارات، التى يقوم بها قادة يعملون على موازنة المكاسب والخسائر المحتملة جراء كل تحرك يقومون به. يخبرنا علم النفس المعرفى أن البشر يكرهون الخسارة. وتخبرنا نظرية الاحتمالات عن الظروف التى من المحتمل أن يتخذ الأشخاص بموجبها قرارات أكثر خطورة لمنع الخسارة، بدلًا من السعى لتحقيق مكاسب. يرى الكثير من المحللين أن حسابات بوتين -فى هذا الصدد- تفتقر للعقلانية، بل إنّ هناك من يذهب بعيدًا ليُشكّك فى الحالة العقلية للرئيس الروسي؛ إلا أن المعضلة الكبرى التى تواجه معظم التحليلات السياسية للقادة تتمثل فى «الذاتية» والاعتماد على نظرية لعب الأدوار. والحقيقة هى أنك بمجرد «أن تضع نفسك فى موضع الآخر» فإن هذا لن يضمن لك بالضرورة التمكّن من الدخول فى عمق تفكيره، وموازنة الأمور وفقًا لحساباته. وفى الوقت الذى يرى فيه الغرب تحركات الرئيس الروسى وكأنها تصرفات غير محسوبة؛ ترى حسابات المنطق الروسى أنها التحركات المثلى.

يرى بينوا فيتكين Benoît Vitkine، مراسل صحيفة «لوموند» الفرنسية اليومية فى موسكو، أن إحساس بوتين بالوقت يدفعه إلى اتخاذ إجراءات أكثر حسمًا ضد كييف، ويصف الطموحات السياسية للرئيس الروسى بأنها مثل عمره (يبلغ 70 عامًا فى أكتوبر)، تصطدم بضغط الوقت المتبقى لبناء حلم الإمبراطورية. فى عام 2015 وعلى صفحات صحيفة «نيوزويك» كتب «جيرولد بوست» Jerrold M. Post عضو الجمعية الأمريكية للطب النفسى وهو واحد من أبرز علماء النفس السياسى، عن بوتين قائلًا: «… يرى نفسه قيصر اليوم المسئول عن الشعوب الناطقة بالروسية. لكن الشخص الأكثر أهمية بالنسبة له هو بوتين نفسه، وليس الشعب الروسي». وفى تحليل نفسى مفصل اتسم بالكثير من التحامل، أرجع بوست الطبيعة الصارمة لبوتين إلى مشاكل فى الطفولة نتيجة لتعرّضه للتنمر الذى دفعه نحو تعلّم مهارات الجودو.

بمطالعة وسائل الإعلام الغربية والأمريكية -بشكل خاص- ستجد العديد من التحليلات النفسية التى تتجه بعيدًا عند محاولتها تفسير تحركات الرئيس الروسى ونظرته للعالم من بعد سيكولوجى بحت، ولكن سيظهر لك بوضوح كمّ الذاتية فى تلك التحليلات التى أدت -فى أحيان كثيرة- إلى نقص القدرة التنبؤية فيما يتعلق بأفعال روسيا، أو إلى تنبؤات عاطفية مبالغة تتّجه جميعها إلى إثبات فرضية «لا عقلانية الرئيس الروسي»، وهى مغالطة أصلية سيترتب عليها حزمة من المغالطات الأخرى عند تفسير التحركات الحالية أو محاولة استشراف/التنبؤ بردود فعل الرئيس الروسى حيال التحركات الغربية المحتملة. حتى من يميلون لتبنّى رؤى أكثر حيادية ينظرون إلى الرئيس الروسى على أنه قائد تكتيكى وليس استراتيجيًا، وهى أيضًا ثنائية مغلوطة، يبدو خطؤها بوضوح عند تأمل قدرة بوتين على التكيف فيما يتعلق بتحديات السياسة الخارجية. ففى أحيان كثيرة كان الرئيس الروسى يُظهر مرونة بارعة، ويتمكن من عكس مساره وتغيير أولوياته دون انحراف عن الاهتمامات الاستراتيجية الرئيسية وشعوره بالمصلحة الوطنية لروسيا.

 ثنائية المظلومية والانتقام

عقب أزمة رهائن مدرسة بسلان أو كما يطلق عليها «مجزرة بسلان» التى وقعت فى 1 سبتمبر 2004، ونتج عنها مقتل حوالى 320 رهينة، علّق الرئيس الروسى قائلًا إن روسيا قد تعرضت للهجوم «بسبب ضعفها». عند تبنى منظور الرئيس الروسى حيال روسيا وعلاقتها بالعالم تبدو بوضوح ثنائية المظلومية والانتقام كدافع رئيسى لتحركات الرئيس الروسى الذى يصف الانهيار السوفيتى بأنه «كارثة جيوسياسية ضخمة»  فى القرن العشرين، ويأسف علانية حيال حقيقة أن 25 مليون روسى قد وجدوا أنفسهم خارج روسيا، وينتقد أيضًا علانية حقيقة أن 12 مليون روسى وجدوا أنفسهم فى الدولة الأوكرانية الجديدة. كما كتب فى مقاله المؤلف من 5000 كلمة المنشور فى الصيف الماضى بعنوان «حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين»: «فى عام 1991، وجد الناس أنفسهم فى الخارج بين عشية وضحاها، وقد أخذوا هذه المرة بالفعل من وطنهم التاريخي»، علمًا بأن مقالته تم توزيعها على القوات الروسية.

يقول إيان روبرتسون Ian H. Robertson، أستاذ علم النفس بجامعة تكساس: «لا يساورنى شك فى أن بوتين يشعر بالإهانة الشخصية بسبب سقوط الاتحاد السوفيتى وإمبراطورتيه، وأنه سيعمل بجد أكبر من أجل تعويض هذا الإذلال من خلال المزيد من المغامرات الخطرة. سوف يكون مدفوعًا أكثر بشعوره بالتفوق الشخصى والوطنى على القوى الغربية الضعيفة والمفككة والجبانة، كما يراها على الأرجح». والحقيقة هى أن رواية الخسارة للغرب هذه ترتبط بهوس خاص لدى بوتين الذى يرى أن مخاوفه مبررة، فبعيدًا عن كل شىء لقد تعرضت روسيا على مدار تاريخها للغزو المتكرر من الغرب، وتمتلئ وسائل الإعلام التى تسيطر عليها الحكومة بالمزاعم بأن أوكرانيا يمكن أن تكون منصة انطلاق لعدوان الناتو، وهو ما كتبه بوتين فى مقاله عام 2021 بأن أوكرانيا تتحول إلى «نقطة انطلاق ضد روسيا». ولعلّ ما يميل العديد من المحللين إلى إغفاله هو إحساس بوتين الانتقامى القوى بتجديد فخر روسيا ومكانتها فى العالم، هذا الشعور الذى تم دعمه وإذكاؤه على المستوى الشعبى، وهو ما يفسر ارتفاع معدلات شعبية بوتين السياسية (من 70-80٪ فى معظم فترة ولايته) والتى لا يمكن لأى سياسى آخر فى روسيا أن يضاهيها.

وبالنظر إلى ما كتبه هنرى كيسنجر Henry Kissinger عندما تحدث عن الاتحاد السوفيتى قائلًا: «الأمن المطلق لطرف ما يجب أن يعنى انعدام الأمن المطلق لجميع الأطراف الأخرى»، سيبدو بوضوح مدى تطابقه مع السلوك الحالى للرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ولكنه يُثير فى الوقت نفسه تساؤلًا مهمًا مؤداه: هل الأمن المطلق لروسيا هو جلّ طموحات الرئيس الروسى؟ أم أنه يتجه إلى ما هو أبعد من ذلك؟.

يعتقد بوتين أن لروسيا حقًا مطلقًا فى مجال المصالح المتميزة فى فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتى. وهذا يعنى أن جيرانها من الاتحاد السوفيتى السابق يجب ألا ينضموا إلى أى تحالفات تُعتبر معادية لموسكو، ولا سيما الناتو أو الاتحاد الأوروبى. وقد أوضح بوتين هذا المطلب فى المعاهدتين اللتين اقترحهما الكرملين فى 17 ديسمبر، واللتين تطالبان أوكرانيا ودول ما بعد الاتحاد السوفيتى الأخرى، وكذلك السويد وفنلندا، بالالتزام بالحياد الدائم وتجنب السعى للحصول على عضوية الناتو. كما سيتعين على الناتو أن يتراجع إلى وضعه العسكرى فى عام 1997، قبل توسعه الأول، عن طريق إزالة جميع القوات والمعدات فى وسط وشرق أوروبا (وهذا من شأنه أن يقلل الوجود العسكرى لحلف الناتو إلى ما كان عليه عندما تفكك الاتحاد السوفيتى). كما سيكون لروسيا حقّ النقض (الفيتو) على خيارات السياسة الخارجية لجيرانها من خارج الناتو. وبالنظر لمطالب الرئيس الروسى يتبدى تصميمه على إعادة تأكيد حق روسيا فى تقييد الخيارات السيادية لجيرانها وحلفائها السابقين فى حلف وارسو، وإجبار الغرب على قبول هذه القيود، سواء كان ذلك عن طريق الدبلوماسية أو القوة العسكرية.

 معضلة السيادة فى عقل بوتين

لقد كتب الرئيس بوتين فى سيرته الذاتية: «أعتبر أن من واجبى المقدس توحيد شعب روسيا، وحشد المواطنين حول أهداف ومهام واضحة، وتذكر كل يوم وكل دقيقة أن لدينا وطنًا واحدًا، وشعبًا واحدًا، ومستقبلًا واحدًا..». هنا تبدو بوضوحٍ رغبة الرئيس الروسى فى «توحيد شعب روسيا»، ولكن مع الأخذ فى الاعتبار أنّ تفسير الكرملين للسيادة له أوجه تشابه ملحوظة مع تفسير الاتحاد السوفيتى الذى يرى أن دولًا مثل أوكرانيا -على سبيل المثال- ليست ذات سيادة كاملة. يقول ألكسندر باونوف Alexander Baunov، وهو زميل بارز فى مركز كارنيجى فى موسكو: «بعد سنوات عديدة فى السلطة، يرى بوتين نفسه مسئولًا عن صياغة النظام النهائى لما بعد الاتحاد السوفيتي». «بهذا المعنى، فإن العديد من الأحداث أو الحقائق التى قد يبدو أنها لا رجوع فيها تاريخيًا هى -من وجهة نظره- أخطاء لا يزال يتعين تصحيحها». وتقول أنجيلا ستنت: «لقد أدت مطالب بوتين إلى اقتراحات بأنه رجل من القرن التاسع عشر يعيش فى القرن الحادى والعشرين، حيث يحاول بوتين بالفعل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عن طريق التراجع عن نظام ما بعد الحرب الباردة».

والحقيقة أن نظرة بوتين إلى كييف لا تختلف كثيرًا عن نظرة الشعب الروسى الذى ترسّخ لديه الإدراك بأن كييف هى «أم» جميع المدن الروسية، التى باعت نفسها «للغرب»، وتم التلاعب بها وتحويلها إلى أداة ضد روسيا، بينما ينظر للأوكرانيين والبيلاروسيين على أنهم «الإخوة الأصغر سنًّا للروس»، وهو تعريف قائم على الوصاية والرعاية فى الوقت نفسه، فهناك رسالة ثابتة فى الدعاية اليومية خلال سنوات بوتين تتمثل فى أن: الغرب هو عدو روسيا الذى يبذل كل ما فى وسعه لإبقائها على ركبتيها، بينما يرى الزعيم الروسى نفسه على وجه التحديد كبطل يجب أن يهزم المنافس (الولايات المتحدة) ويحمى الأم (روسيا الكبيرة، التى ليست فقط روسيا، ولكن جميع أراضى الإمبراطورية).

وبالتالى فإنّ عقل الرئيس الروسى ينظر إلى الغزو الروسى لأوكرانيا بوصفه «عملية إنقاذ» ومحاولة للمّ شمل العائلة التى تفككت بفعل الفتن والدخلاء، فى ظل إصرار قائم لم يتغير على أن كل هذه البلدان المختلفة هى فى الواقع «شعب واحد»، كتلة واحدة مصيرها البقاء إلى الأبد فى كيان واحد مشترك، وعلى الرغم من أنّ الإشارات إلى «الإخوة الصغار» و«الأم كييف» هى مجازات قديمة متأصلة فى الثقافة الروسية؛ إلا أن الابتكار الأحدث هو تصوير وزارة الخارجية الروسية للبلدان التى اعتادت أن تكون فى الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو، مثل التشيك وإستونيا وبولندا، على أنها دول «يتيمة» تنتظر عودة الأب موسكو.

وعلى الرغم من صعوبة توقّع قرارات الرئيس الروسى وتحركاته القادمة، للحد الذى دفع مجلة «L’Express» الفرنسية نحو وصفه بأنه «لاعب بوكر يصعب توقع قراراته»؛ إلا أن هدفه الرئيسى من غزو أوكرانيا يبدو واضحًا دون التباس، حيث لا تمثل أوكرانيا للرئيس الروسى فقط محاولة لإحياء حلم الاتحاد السوفيتى أو توسيع الأراضى الروسية، وإنما هى فرصة روسيا لإعادة تأكيد أهميتها الجيوسياسية، وبالتالى -وكما يرى بوتين- فإن التهديد بالحرب وحده هو الذى يمكن أن يعيد فتح محادثات حول أمور شعر الغرب، وكأنها تاريخ مستقر، فإذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو أو انجذبت إلى تحالف عسكرى فإن مشروع بوتين قد فشل، بينما إذا تم منع أوكرانيا من القيام بذلك، فقد أدى بوتين دوره التاريخى. وبالتالى، ووفقًا لما كتبه جريج يودين Greg Yudin، عالم الاجتماع والفيلسوف والأستاذ فى مدرسة موسكو للعلوم الاجتماعية والاقتصادية، فـ«بدون العملية العسكرية فى أوكرانيا، لن يصبح بوتين أبدًا إمبراطورًا «لكل الأراضى الروسية».

واستنادًا لما سبق وبالنظر إلى مجمل الدوافع والمبادئ الحاكمة لفكر وسياسة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، يتضح أن جميعها يتمركز حول هدف أساسى يتمثل فى دفع العالم للتعامل مع روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتى، قوة يجب احترامها والخوف منها، تتجاوز سيادتها حدودها الجغرافية الحالية، وتمتد لتكفل لها حقوقًا فى جوارها، وصوتًا فى كل قضية دولية مهمة. وبالتالى فإن لروسيا، بحسب بوتين، حقًا مطلقًا فى الجلوس على طاولة المفاوضات فى جميع القرارات الدولية الكبرى، والانتماء إلى ما يمكن أن نطلق عليه «مجلس الإدارة العالمي»، بعد ما حدث من «إذلال» فى التسعينيات أجبر روسيا فى ذلك الوقت على الانضمام إلى أجندة وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون.

  نقلا عن المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية