الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الانتخابات تقدم تلك المعضلة.. «شتات» لبنان أقل من «ربع» اللبنانيين داخل البلد والبقية «اغتراب»

يعرف كثيرون فيلم «سفر برلك» الذى قامت فيه السيدة «فيروز» بالتمثيل والغناء، لتقدم دور الفتاة اللبنانية «عادلة» التى وقفت فى مشهد النهاية على شاطئ بحر «جبيل» تودع خطيبها «عبدو» الهارب من بلاده إلى وجهة لا يعلمها مع آخرين عبر مركب شراعى، خوفا من الخضوع لحملة «سفر برلك» العثمانية، لتناديه: «ما تتركنى هون»، فيرد عليها: «هون بلدنا وبدنا نرجع.. انطرينى نحنا راجعين»، ولكن يبدو أن «عبدو» لم يعد!



 

شخصية «عبدو» ليست خيالية، فهو مثل الآلاف خرجوا من شط بلادهم «لبنان» هربا من حملات «سفر برلك» وقت أفول الدولة العثمانية فى مراكب دون هوية أو أوراق ثبوتية، ليأخذهم الرحال إلى العالم الجديد الذى كان وقتئذ «الأمريكتين» ليصبح «مغتربا لبنانيا» يحضر لنا عبر الزمن بمعضلة تظهر مجددا منذ عشرات السنين وظهرت فى الانتخابات النيابية اللبنانية التى أجريت مؤخرا فى مايو الجارى، ليكون الناخب المغترب متواجدًا بربع مليون ناخب مسجل فى اللوائح من أصل ما يقارب المليون شخص «مغترب» لهم حق التصويت فى العموم، ولكن الغريب أن هذا الرقم فى أنحاء المعمورة من أصل أعداد فى إطار تقديرات ليس أكثر، بوجود أكثر من 20 مليون شخص فى دول العالم ينحدرون من أصل لبنانى ومن الممكن أن يتجاوز العدد إلى 30 مليونًا، حيث إن التقديرات هى صاحبة الكلمة وليس الإحصاء الدقيق.

حالة «المغترب» اللبنانى غير أى مغترب فى العالم، حيث إنه مع تراوح التقديرات، يكون عدد اللبنانيين الذين يعيشون على أرض لبنان والذين لا يتعدون الـ5 ملايين مواطن، نجد المغتربين بين 4 إلى 5 أضعاف على الأقل مقارنة بمن يعيشون فى الداخل، الأمر الذى لم يرصد مع أى شعب آخر حيث يكون «المغتربون» فى معظم الدول المصدرة للهجرة بالعالم، ما بين 10 إلى 15 % من تعداد من يعيشون داخل وطنهم.

وبالعودة إلى تعريف «سفر برلك» بالتركية التى تعنى بالعربية النفير العام والتأهب للحرب، وهو فرمان سلطانى صدر فى أغسطس 1914، يقتضى اعتبار كل شخص من تتراوح أعمارهم من الرجال بين 15 حتى 45 سنة، فى أراضى الدولة العثمانية من المسلمين وغير المسلمين والتى كان لبنان جزءًا منها فى هذه الفترة، مطلوبًا للخدمة العسكرية، ويجب عليهم الالتحاق بـشعب تجنيدهم من تلقاء أنفسهم، ويحق لغير المسلمين دفع 30 ليرة ذهبية مقابل الإعفاء من ذلك، حتى أصبحت الأسر والعائلات الفقيرة بدون من يعولها فى وقت انتشرت فيه المجاعة والأمراض والأوبئة.

تقديرات ليس أكثر، هى ما تتعلق بأعداد المغتربين سواء من الأجيال الأولى وحتى الجيل الحالى ونفس الأمر لمن سيظلون فى المستقبل منحدرين من أصل لبنانى حول العالم لاسيما فى دول «الأمريكتين»، وذلك يعود لمشكلتين، الأولى هى التوزيع الديمغرافى الطائفى فى لبنان، والذى يمنع حصول المغترب الذى خرج دون أوراق ثبوتية وقت الهجرة على الجنسية مدللا على ذلك، بلوائح الشطب الخاصة بالانتخابات التى تجرى كل 4 سنوات، حيث يكون عدد المواطنين على مر العقود 4.5 مليون نسمة فى الوقت الذى يزداد كل 8 سنوات عدد السكان 1.5 مليون نسمة، أما المشكلة الثانية هى أن نظام الأرشفة والسجلات تأسس فى لبنان عام 1932، فى حين أن من أكبر الموجات وأولها موجة هجرة من 1900 إلى 1916، التى خرج فيها نسبة كبيرة من اللبنانيين إلى المكسيك والبرازيل والأرجنتين وتشيلى وفنزويلا، وكان السبب الاعتراض على ظلم وافتراء الحكم العثمانى، وكانت تخرج بانتظام على دول، ولكن لم يكونوا على علم بالواجهة الأخيرة، بالهروب عبر بواخر، فلم يكن هناك تذاكر سفر أو تأشيرات حتى يكون هناك نوع من الرصد والإحصاء، وذلك حسب ما قاله أستاذ العلاقات الدولية اللبنانى د. خالد العزى.

لا يوجد أرقام رسمية أو موثقة لأعداد الملايين من الاغتراب اللبنانى خارج الحدود، وتتراوح الأرقام ما بين 20 إلى 30 مليون بحسب إحصائيات غير رسمية كان آخر نشر لها قبل 10 سنوات، فيكفى ما جاءت به تقديرات أن عدد البرازيليين المنحدرين من أصول لبنانية ترجع هجرتهم إلى 100 عام سابقة، ما بين 10 إلى 17 مليون شخص ينحدرون من أصل لبنانى، والولايات المتحدة 4 ملايين، ومليونان فى الأرجنتين، وما يقارب المليون بشكل منفرد فى كل من كولومبيا وأستراليا وكندا ونصف مليون فى كل من المكسيك وفنزويلا و400 ألف فى فرنسا وأكثر من 100 ألف فى كل من تشيلى، بريطانيا، الأروجواى، ألمانيا،نيوزيلندا، وما يزيد عن 2 مليون فى دول غرب إفريقيا، فضلا عن دول الخليج والدول الاسكندنافية.

نبدأ مع «عدنان نقول»، وهو باحث ومحلل سياسى مقيم بالأرجنتين، وله دراسة حول هجرة العرب من سوريا ولبنان وفلسطين فى الموجة التاريخية فى الفترة من 1900 حتى 1916 والتى جاءت فى محاولة للهرب من «سفر برلك»، إذ يشير إلى أن تلك الموجات البشرية نتيجة لما كان يعانيه الأهالى من جوع ومرض وحاجة وأخذ الرجال إلى التجنيد الإجبارى «الإنكشارى» للحرب فى صفوف العثمانيين فى الحرب العالمية الأولى كـ«سخرة» ليلقوا حتفهم فى أراض بعيدة فى شرق أوروبا والقوقاز وروسيا، عبر معارك للجيش العثمانى فى وقت أفول الدولة التى سميت بـ«رجل أوروبا المريض»، الأمر الذى ترك ضغينة فى قلوب الجاليات العربية فى المهجر حتى الآن، تم تناقل حكايتها المريرة من الجيل الأول الذى عانى حتى الأجيال الشابة حاليا، حيث كان يهرب الرجال بشكل غير شرعى أو دون أوراق ثبوتية من سواحل لبنان وسوريا وفلسطين فى بواخر ومراكب، لاسيما ميناء بيروت الذى كان نشطا، متوجهين فى العادة كمحطة أولى إلى ميناء جنوه الإيطالى، لتبدأ رحلة الاغتراب التى كانت الأفضلية فيها فى هذا التوقيت للدول اللاتينية الناشئة وقتئذ مثل الأرجنتين، المكسيك، فنزويلا، كوبا، تشيلى، الكثير منهم توجهوا فى البداية إلى البرازيل، لينتقلوا تدريجيا إلى الأرجنتين وتشيلى حيث كانت ظروف المعيشة بهما أفضل.

ويقول «عدنان» إن بداية عمل المغتربين فى بلاد المهجر اللاتينى، تركزت على «الكشة» وهى حقيبة تحمل على الظهر أو على البغال ويتم التنقل بين المدن والأرياف البعيدة فى دول أمريكا الجنوبية مشيا على الأقدام، ولقد تعرض الكثير منهم للاعتداء والنهب والسرقة من قبل قطاع الطرق مما أدى إلى وفاة بعضهم، وقتلهم فى الحقول والبرارى من قبل اللصوص والعصابات المنظمة، من دون أن يدرى بهم أحد، وذلك للاستيلاء على الحقيبة التى كان يوجد فيها كل شيء من حاجات وأغراض وسلع منزلية، وذلك قبل الانتقال إلى تجارة الجملة والمفرق، ثم يدخلون فى مرحلة الاستقرار المادى والمعنوى والاجتماعى، ويتمركزون فى المدن الكبرى والأرياف يمتهنون الزراعة ويقيمون البنايات التى تكون مسكنا لهم ولعائلاتهم وأسفلها المحلات التجارية التى يعمل فيها معهم أبناؤهم وأقاربهم وذووهم، ليصبحوا أصحاب ماركات تجارية ذات شهرة، وشيدوا المؤسسات الأهلية والجمعيات الخيرية والنوادى والمشافى المجانية والمكتبات، التى ضمت عيون الكتب، والأدب، والتاريخ العربى، وأسسوا الصحف والمجلات، الناطقة بالعربية والإسبانية والبرتغالية.

أستاذ العلاقات الدولية والمتخصص فى التاريخ اللبنانى، د.خالد العزى، يقول إن لدينا فى البرازيل 17 مليون منحدرين من أصل لبنانى هم أجيال متكونة منذ بداية القرن الماضى حتى منتصفه، استعاد منهم الجنسية اللبنانية مليون أو أقل.

ويوضح «العزى» أن أكثر نسبة هاجرت فى هذه المرحلة، كانت عام 1916 عندما حاول العثمانيون القيام بحملة تأديب على جبل لبنان بأخذ الشباب والرجال للحرب عنوة فى معارك لا ناقة ولا جمل لهم بها سميت بـ«سفر برلك» للقتال ضمن صفوف الأتراك فى البلقان، وهذه الهجمة استمرت بالتزامن مع إعدام العثمانيين لـ 18 كاتبا ومفكرا لبنانيا شنقا فى قلب بيروت فى 4 مايو من نفس العام، لهم تأثير على الرأى العام كانوا معترضين على تلك الحملة وسمى مكان «الشنق» بساحة الشهداء بقلب العاصمة بيروت،وحدثت نفس الواقعة مع أدباء وكتاب سوريين فى ساحة المرجة بدمشق.

وتابع: «فى فترة الاحتلال الفرنسى بلبنان حتى 1946 كانت الهجرات اللبنانية بسيطة وكان هناك شبه تمركز فى لبنان، لتكون الهجرة إلى أوروبا فى حقبة سبعينات القرن الماضى مع بداية الحرب العربية فى 1967 حتى الحرب الأهلية بشكل كثيف إلى ألمانيا والبلاد الاسكندفانية أما فرنسا ليس هناك هجرة منظمة إلى هناك ولكن يوجد ارتباط ثقافى وتعليمى وتجارى وروحى ومذهبى عند البعض، بدأ مع الانتداب حيث ذهب لبنانيون إلى هناك حيث كانوا تحت الحكم الفرنسى، وكان من لهم جوازات سفر فرنسية ويقدم لهم حوافز للعيش، فضلا عن وجود ارتباط باللغة والثقافة وتوجه بعثات لبنانية تعليمية إلى فرنسا، مما سمح بعد ذلك للكثيرين، التواجد والتبوؤ فى مناصب بالمجتمع الفرنسى فى ظل وجود عوامل جذابة للاستقرار هناك.

وتطرق إلى موجة الهجرة إلى أفريقيا، ذهب اللبنانى منذ عام 1960 كعامل وليس جالية، واستطاع أن يحصل على حوافز كبيرة، حيث كان تواجد الأجانب فى أسواق العمل الأفريقية مقبولة بعد حقبة الاستعمار الفرنسى التى تعاملت مع الأفارقة فى غرب القارة كعبيد، ونجحت هجرة اللبنانى الذى ارتكز عمله فى التنقيب بالمناجم عبر مجموعات عن الذهب والألماس، فأصبحوا أصحاب تواجد قوى هناك، وأسسوا مع بداية الثمانينات اقتصاد موازى فى افريقيا قائم على فتح مؤسسات تجارية ومستشفيات مما استدعى إلى جلب عقود عمل للبنانيين وتأسيس حالة عمل للبنانيين يذهبون بعائلاتهم.

وعن موجات الهجرة الحديثة، يشير «العزى» إلى هجرة 1975 مع اندلاع الحرب الأهلية، وهى موجات خرجت نحو كندا استراليا أوروبا، وكانت كثيفة ولا تقل عن 150 ألف عائلة تصل إلى 750 ألف شخص كان أغلبهم من المسيحيين، ثم هجرة 1982 مع الاجتياح الإسرائيلى للبنان، وكانت هجرة لبنانية سنية، توجهوا نحو دول الخليج وأوروبا وأمريكا، تقدر بـ 100 ألف عائلة أى ما يصل إلى 400 ألف شخص، ثم هجرة عمل بفترة الاحتلال الإسرائيلى نحو إفريقيا لتحسين ظروف المعيشة لاسيما من الجنوب، وبعد ذلك كانت الهجرة الكبيرة إلى أستراليا عام 1983 عندما كان هناك تدخل سورى فى طرابلس، وخرجت مجموعات كبيرة من العائلات لا تقل عن 250 ألف مهاجر نحو كندا، أستراليا، فرنسا، لتأتى هجرة 1992 التى كانت من عائلات مسيحية نحو أمريكا، كندا، فرنسا، بحوالى 200 ألف شخص منهم أعداد كبيرة عادت إلى لبنان وأصبحوا الآن نواب ووزراء، ومنذ 2005 خرج من لبنان 50 ألف مواطن حفاظا على حياتهم بعد الاعتراض على حكم طائفة معينة، والهجرة التى مازالت مستمرة من 2016، وهجرة مسيحية إسلامية إلى دول الخليج وأوروبا، نتيجة الانهيار الاقتصادى والاجتماعى، قد تكون هجرات مؤقتة وقد تكون دائمة، وهى هجرة «أدمغة» حيث خرج فى العامين الماضين 100 ألف طالب وطالبة.

ويؤكد الكاتب اللبنانى فادى عاكوم، أن من يتجاوز عددهم الـ20 مليون مغترب على أقل تقدير، ينحدرون من أصول لبنانية حول العالم، سجل منهم كمغتربين فى الانتخابات المنتهية مؤخرا، 244 ألف شخص على اللوائح الانتخابية فى حين أن من يحق لهم التسجيل 970 ألفًا، وحتى عام 2018 كان عدد سكان لبنان 4.4 مليون نسمة رسميا والتقديرات حاليا تشير إلى وصول عدد السكان إلى 4.8 مليون شخص.

وأوضح «عاكوم»، أن موجات الهجرة المتنوعة منذ 1900 حتى الآن، أخذت شكلا طائفيا، حسب من هم يتعرضون لنوع من أنواع المضايقات كطائفة، واصفا هذا الوضع على أنه حالة شاذة عندما يكون حوالى 80 % من أهل الشعب يعيشون فى اغتراب وأقل 20 % من الشعب بالداخل، مشيرا إلى أن الموجات نجحت كل منهم بميزان مختلف، حيث أن من ذهبوا إلى أفريقيا أصبحوا أباطرة الألماس والذهب بالعالم، ومن توجهوا قديما إلى دول أمريكا اللاتينية حققوا مراكز مالية وسياسية متقدمة للغاية، ومن ذهبوا إلى الولايات المتحدة الأمريكية حققوا نجاحات واسعة فى عالم البيزنس.