الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

أسطورة عمرها أكثر من نصف قرن: يحيى خليل.. حكاية ناسك فى محراب موسيقى الجاز

حسنًا فعلت الإعلامية «رشا الجمال» حينما قررت إعادة إحياء برنامج (حكاوى القهاوى) الذى سبق أن قدّمته فى مطلع التسعينيات والدتها الإعلامية الراحلة «سامية الإتربى»؛ حيث عُرض خلال شهر رمضان المبارك على قناة الحياة، محققًا نجاحًا كبيرًا، لا سيما أنها أعادت من خلاله البحث فى أصول المهن، والتركيز على العادات والتقاليد، والحوارات الدافئة التى لطالما فقدناها وسط كم لا حصر له من برامج الفضائح والمقالب وتأجيج الفتن.



جزء كبير من نجاح البرنامج فى شكله العصرى يرجع إلى احتفاظ صُنّاعه بالتتر نفسه الذى أبدعه رائد فن الجاز، الموسيقار «يحيى خليل» قبل أكثر من ربع قرن، فالتتر المميز الذى كان واحدًا من أهم مسببات نجاح البرنامج فى عرضه الأول أثبت وبَعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا أنه لا يزال قادرًا على أن يُطرب الآذان، ويثير شجون أجيال عديدة كان البرنامج وشارة البداية الخاصة به مكونًا أساسيًا لسنوات طفولتهم وشبابهم، بينما تساءلت الأجيال الأحدث عن سر النغمة التى امتزجت فيها موسيقى الجاز بالإيقاع الشرقى ليُكَوّنا سويًا هذه المقطوعة الموسيقية الخالدة.

وما لا يعرفه الكثيرون أن تلك المقطوعة اسمها الأصلى (قمر) أطلقها «خليل» ضمن ألبوم يحمل الاسم نفسه، قبل أن يهديها إلى التليفزيون المصرى عندما طلب منه رئيس تحرير البرنامج «يحيى تادرس» التنازل عنها لتكون تتر البرنامج، فقد شعر «تادرس» أنها الموسيقى الأنسب لبرنامجه، وبالفعل تنازل الموسيقار «يحيى خليل» عن المقطوعة، وأصبح تتر البرنامج علامة مميزة له لا ينساها المُشاهد.

لكن ذكر «يحيى خليل» فى الموسم الرمضانى الحالى لم يقتصر فقط على ذلك الشجن الذى صنعه تتر (حكاوى القهاوى) ففى مسلسل (راجعين يا هوى) أحد أهم مسلسلات الشهر الفضيل، والذى يفوح منه عَبَق زعيم دولة الدراما المصرية «أسامة أنور عكاشة» ورد اسم «يحيى خليل» فى إحدى حلقاته على لسان «طارق أبو الهنا» حفيد عائلة «أبو الهنا» وأحد أبرز شخصيات المسلسل المدافعة عن الحق والفضيلة، والمنتصرة لقيم الخير والجَمال، والذى يلعب دوره الفنان الشاب «نور خالد النبوى»؛ حيث قال مداعبًا لوالدته «وفاء عامر»عندما وجدها تجلس على مقعد الدرامز الخاص به (ولا يحيى خليل فى زمانه).

والحقيقة أن ورود اسم «يحيى خليل» فى الدراما على  لسان واحد من الشباب الذين يُعبرون عن الجيل المتهم دائمًا بالجنوح نحو المهرجانات والأغانى الهابطة هو أمرٌ لا يمكن أن يكون من قبيل الصدفة، فالموسيقى التى أبدعها هذا الرجل عابرة للأجيال، وتأثيرها تجاوز فكرة الزمن إلى ما هو أبعد من ذلك، ولعل مَشهد الجمهور داخل قاعات دار الأوبرا المصرية بالقاهرة والإسكندرية فى الحفلات المعدودة التى يأتى من الولايات المتحدة الأمريكية سنويًا لتقديمها هو خير شاهد على عظمة فنه، ومقدار ما يحمله من صدق، وكلاهما يسريان إلى الجمهور بانسيابية كما يسرى الدم فى شرايين القلب فينعشه، ويخلقان بينه وبينهم رابطا مقدسًا، يظهر فى مداومتهم على حضور الحفلات؛ حيث يأتى عشاقه إلى الأوبرا من كل حدب وصوب فى طقس سنوى بديع تاركين همومهم وأحزانهم خارج القاعة ليعيشوا مع إيقاعاته حالة من التماهى، ويحلقون مع نغماته التى لطالما سمعوها فوجدت من وجدانهم مستقرًا لها، ويستمدون منه طاقة جبارة، لا يمتلكها فنان فى ريعان شبابه، وفى ظنّى أنه هو الآخر يستمد من حماسهم واندماجهم مع عزفه طاقة أكبر تدفعه إلى مواصلة المشوار.

وإذا اعتبرنا أن سر قوة «يحيى خليل» هو قدرته على تطويع الآلات الموسيقية الغربية لعزف الألحان الشرقية؛ فإن سر بقائه على القمة يكمن فى قدرته على التعبير عن مَشاعر وأفكار المصريين، وترجمتها بإخلاص شديد، لم يحد عنه يومًا.

فى حياة «يحيى خليل» محطات عديدة، لحّن خلالها، ووزّع، وصنع نجومًا لولاه ما كانوا، قبل أن يتوقف عن ذلك، ويغلق ما أسماه هو ساخرًا بـ(الجمعية الخيرية لاكتشاف المطربين) ليتفرغ بعدها لموسيقى الجاز التى هى عشقه، والتى جاب من أجلها العالم، بحفلات تجاوز عددها الخمسة آلاف حفلة، بعد أن تمكن من تكوين فرقة راسخة الأقدام، نجحت فى تقديم الموسيقى المصرية متجاورة مع موسيقى «شوبان وبيتهوفن» فى أعرق المسارح، ومع هذا فلا تزال فى حلقه غصة، ولا يزال فى قلبه جرح لم يندمل رُغم مرور الزمن؛ خصوصًا بعد محاولات الفنان «محمد منير» الاستحواذ على النجاح الذى حققاه سويًا فى بداياته، ونسبه إلى نفسه، ولا سيما بعدما أزاح اسم «يحيى خليل» من الإصدارات التالية لألبوم (شبابيك) كنتيجة لخلاف دب بينهما أدى إلى فراق دائم كان الجمهور هو أول الخاسرين منه، ومع هذا كله؛ فلا يزال «يحيى خليل» يحلم بقلب طفل وبحماس ثائر، وبضمير فنان قابضًا على جمر موهبته، ورافضًا الخضوع لمنطق السوق مَهما كانت المغريات؛ بل راغبا دون كلل أو مَلل فى أن يحقق أمنيته التى لطالما أعلنها بأن يجوب بموسيقاه قرى ونجوع مصر؛ ليصنع جيلاً جديدًا من عشاق هذا الفن الذى أسره، وسيطر على كيانه منذ صباه، وهو ما سيسرده بالتفصيل فى مذكرات ينوى إصدارها قريبًا؛ ليقف من خلالها فى محطات عديدة فى مشواره الفنى.

وإذا كانت ألقاب مثل (أسطورة الجاز، رائد موسيقى الجاز) وغيرهما هى ألقاب اشتهر بها على مدار عمره؛ فإن اللقب الذى لا بُد أن يضاف إلى باقى ألقابه هو (الحالم)، وهو لقب استوحيته من رباعية كتبها له رفيق مشواره «عبدالرحيم منصور» بوصفها رباعية تجسّد شخصيته، وتقول كلماتها (بحلم وفى الحلم راحة بحلم فى عالم غريب.. بحلم ومش لاقى راحة.. لا م القريب ولا م الغريب).