الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فتنةٌ على طبقٍ من ذهب

لا تزال الذكريات الأليمة للفتنة الكبرى التى حدثت بسبب التعصب الأعمى عالقة بأذهان جميع المصريين، وساهم بعض المنتمين للإعلام الرياضى فى مصر والجزائر آنذاك بتأجيج نار تلك الفتنة من دون الانتباه إلى الهاوية التى يقودون شعبيهما إليها بسرعة فائقة قبل وبعد «موقعة أم درمان» الشهيرة. هذه الفتنة التى تعتبر الأشد فى تاريخ الشعبين الشقيقين كادت أن تُنسى أصحاب الذاكرة قصيرة الأمد المواقف العظيمة بين مصر والجزائر فى أوقات الحرب والسلم وعلى جميع الأصعدة. ولولا الحكمة التى تحلت بها القيادات السياسية للشعبين، وسرعة اتخاذ الإجراءات الفورية لاحتواء الموقف، لحدث ما لا يحمد عقباه. وعلى الرغم من كل تلك الجهود, دفع شعبا البلدين العربيين الثمن باهظا سنوات طوالًا حتى تم رأب الصدع وتجاوز حالة الغضب والكره الذى ملأ القلوب زمنا حتى عادت المياه أخيرا إلى مجاريها.



 

واليوم، وعلى ما يبدو، يحاول البعض إعادة كتابة نفس السيناريو من جديد ولكن ببطلين مختلفين هذه المرة وهما جمهورا الكرة المصرية والكاميرونية فى النسخة الحالية لكأس الأمم الإفريقية المقامة على أرض الكاميرون، البلد الإفريقى الصديق، صاحب الأرض وبطبيعة الحال صاحب الحضور الجماهيرى الأكبر. جمهور كاميرونى يملؤه الشغف والحماس لتشجيع الفريق لحصد اللقب. هذا الطموح المشروع الذى نما وتعاظم بسبب الحادث الأليم الذى أسفرعن وفاة ثمانية من المشجعين أثناء التدافع المأسوى يوم المباراة التى جمعت منتخبى الكاميرون وجزر القمر أمام ملعب «أوليمبى». تلك الواقعة تسببت فى زيادة الضغط النفسى على لاعبى منتخب الكاميرون وجهازهم الفنى والاتحاد الكاميرونى لكرة القدم، وجعلت إحساسهم بضرورة حصد الكأس القارية يتضاعف، ليتجاوز مرحلة إسعاد الجماهير إلى ما هو أشبه بالمسئولية القومية لإهداء اللقب لروح المشجعين الثمانية.

محاولات الوقيعة بين الشعوب باستغلال الشعبية الكبيرة لكرة القدم بدأت مجددا بشحن الجماهير المصرية ضد أسطورة كرة القدم الإفريقية ورئيس الاتحاد الكاميرونى لكرة القدم الحالى: صامويل إيتو. ولغير متابعى كرة القدم، فدعونى أخبركم أن اختيار إيتو لم يأتِ من فراغ، فهو واحد من أفضل ثلاثة لاعبين فى تاريخ القارة الإفريقية، وصاحب مسيرة حافلة مع الأندية الأوروبية المختلفة وكذلك مع منتخب بلاده حيث توج بألقاب وكؤوس عديدة رفيعة المستوى. أما على صعيد الجوائز والألقاب الفردية؛ فيكفينا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر حصوله على جائزة أفضل لاعب إفريقى أربعَ سنوات فى العقد الماضى، كما لا يزال هو الهداف التاريخى حتى الآن لكأس الأمم الإفريقية، بالإضافة للعديد والعديد من الألقاب والجوائز الأوروبية والأفريقية. تجنبا للإطالة، يمكننا القول إن حجم وقيمة صامويل إيتو فى القارة الإفريقية وفى قلوب الكاميرونيين يماثل قيمة ومكانة ومحبة محمد صلاح فى قلوب المصريين.

شاهد أغلبنا منذ أيام قليلة على مواقع التواصل الاجتماعى فيديو مجتزأ مصورا بهاتف محمول لصامويل إيتو أثناء توجهه بالحديث إلى لاعبى منتخب بلاده على الأرجح فى غرفة تغيير الملابس قبل أو عشية إحدى المباريات بالبطولة، ولا يعلم أحد عن أى مباراة كان يتحدث، ولكنه لم يكن حديثا رسميا، لا فى مؤتمر صحفى ولا حتى أمام كاميرات إحدى الوسائل الإعلامية. تم تداول الفيديو لأيتو وهو يشرح للاعبين أن كل ما حققوه من انتصارات فى البطولة لن يعنى شيئا إذا لم يحققوا الفوز من جديد. وفى محاولة لتحفيزهم قال: «إن الأمر كبير، وإنها الحرب». هذا الحديث الذى ليس به إساءة أو تطاول على شخص أو منتخب بعينه، والذى يندرج تحت بند الحديث التحفيزى الذى يلجأ إليه أغلب المدربين قبل المباريات الصعبة كى يبذل اللاعبون قصارى جهدهم لتحقيق الفوز، انتشر انتشار النار فى الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعى بعناوين تثير حفيظة الجماهير المصرية، ناهيك عن التلاعب بالألفاظ كى يصور للمشاهد أن المقطع يتناول وصف إيتو للمبارة المرتقبة والحاسمة أمام المنتخب المصرى، وأنها ليست مباراة كرة، بل موقعة حربية. ومع الأسف الشديد، التقط المتعصبون الطعم، وبدأت مواقع التواصل الاجتماعى للمصريين تعج بالردود التهكمية على الفيديو المتداول، ملحقة بمرحلة الكوميكس الساخرة من إيتو مع تداول فيديو قديم له وهو يذرف الدموع حزنا على هزيمة سابقة أثناء قيادته منتخبَ بلاده، وصولا إلى خلط السم بالعسل فى أغنية «هنعدى الكاميرون». 

على مدار عقود عديدة، اكتسب طارق نور ومؤسساته الدعائية والإعلامية خبرة عظيمة ومتابعة كبيرة من قبل الملايين، وأصبح أستاذا محترفا ونموذجا نادرا فى كيفية صناعة المحتوى الذى يلاقى رواجا وتداولا واسعا ويتحول لـ«ترند» بعد إذاعته على قناته الفضائية «القاهرة والناس» ثم طرحه على مواقع التواصل الاجتماعى بساعات قليلة. كيف لا، وهو واحد من رواد مجال الدعاية والإعلان فى مصر والمنطقة، ومن القلائل الذين يتمتعون بحس إبداعى عالٍ، وقدرة مميزة للغاية على المزج بين الموسيقى ذات الإيقاع الخفيف المحبوب عند الجميع وبين الكلمات البسيطة والمعبرة، فتخرج تلك الأخيرة مشحونة على متن سفينة اللحن الخلاب، متفادية الغوص فى أعماق بحر الضمير، لتمر من فوق سطحه بأمان من دون مراجعة، فتسبح بسلاسة عبر الأذن، وتلقى أخيرا بمرساها فى عقل المتلقى.

الفخ الذى وقعت فيه قناة بحجم وشأن «القاهرة والناس»، أنها ربما اعتبرت أنه لا مانع من تناول رمز قومى كبير لدى الجماهير الكاميرونية بالسخرية أو الإساءة، ظنا منها أن الأمر لن يخرج عن تداوله فى الأوساط المصرية باعتبارها أغنية خفيفة لتشجيع المنتخب، وأنه لن تكون هناك تداعيات أو تأثيرات سلبية من إثارة لحفيظة الجماهير الكاميرونية، خاصة وأن اللغة العربية غير متداولة فى الكاميرون التى يتحدث أغلب سكانها اللغة الفرنسية. أو ربما يكون القائمون على القناة اعتبروا الأغنية ردا مقبولا على ما صورته مواقع التواصل الاجتماعى «تطاولا» من قبل إيتو على المنتخب المصرى على غير الحقيقة. حيث رأينا جميعا صامويل إيتو الذى كان من أوائل المهنئين للمنتخب المصرى ولوزير الشباب والرياضة المصرى أشرف صبحى عقب المباراة، والذى قال له: «أنتم أمة عظيمة وتستحقون الفوز»، بل وقرأنا تدوينة إيتو على تويتر مهنئا المنتخب المصرى بالفوز, وهو ما يعنى أن ما تم نسبه إليه باعتباره إساءة للمنتخب المصرى لا أساس له من الصحة. أخشى ما أخشاه أن تتحول كلمات هذه الأغنية إلى رصاصة أولى فى حرب شحن النفوس، من خلال تبادل التراشق اللفظى وشحن فيديوات الإساءة من الجانبين من خلال الحواسيب الإلكترونية، ليتم ضربها فى ساحات الحروب الحديثة: مواقع التواصل الاجتماعى عند الشعبين الصديقين، إذا ما استخدمها «صناع الفتن».

ومع الأسف، كلمات مثل بعض الكلمات التى تم استخدامها فى أغنية «هنعدى الكاميرون» هى أداة نقدمها على طبق من ذهب لصانعى الفتن. هى وحدها كفيلة أن تُسيل لعاب واحد منهم – أو أكثر – كى يستخدمها فى صنع الفتنة بين الشعبين من دون كشف الغطاء عن وجهه القبيح، أو مغادرة مقعده المريح ولا مكتبه المكيف. كل ما عليه فعله هو ترجمة الكلمات للفرنسية، ثم إعادة نشرها من خلال حساب وهمى منسوب لأحد الكاميرونيين، ثم يقوم بتجهيز طبق كبير من الفيشار وآخر من التسالى، قبل أن يعود إلى مقعده فى الصف الأول ليشاهد باستمتاع وتلذذ الفتنة وهى تشتعل بين الجانبين! وما أسعده لو أتى هذا الأمر بالثمار التى يشتهيها قبل المباراة النهائية للمنتخب المصرى مع المنتخب السنغالى، وهى المباراة التى من المتوقع سفر الآلاف من المشجعين المصريين لحضورها مؤازرة للمنتخب الوطنى. ستكون حينها النتيجة الكارثية التى ندعو الله ألا تحدث، حتى لا تعود شعوبنا وحكوماتنا مرة أخرى لدفع ثمن اندفاع البعض وحماسهم التشجيعى، من خلال سنين عديدة أخرى ضائعة وجهود حثيثة لإزالة التوتر والاحتقان من جديد، متبوعة بسنوات أخرى لإعادة العلاقات قدر الإمكان لمستواها الحالى مع الكاميرون اليوم، ومع غيرها غدا، وغيرهما بعد غد... إلخ!

هناك فرق كبير بين التشجيع والإساءة، بين الحماس والتهور، بين التحفيز والاندفاع... دعونا لا نعطى أعداءنا سلاحا يصوبونه تجاه صدورنا، دعونا نتعلم من دروس الماضى قبل أن يطلق الحكم صفارة النهاية، معلنا هزيمة النخبة الواعية أمام صناع الفتن... وربنا يستر.