السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

كنوز آمال العمدة.. إحسان عبدالقدوس: أختلف مع والدتى سياسيًا! "الحلقة 2"

استكمالا للحوار المنشور فى الأول من يناير الحالى الذى صادف عيد ميلاد الراحل إحسان عبدالقدوس 103 ننشر فى هذا العدد الجزء الثانى من الحوار والذى يصادف أيضا ذكرى وفاته.



 

آمال: إذا قابلك شاب وقال لك إنك مثله الأعلى ويريد أن يكون مثلك فى المستقبل.. فيم تنصحه؟ 

إحسان عبدالقدوس: أقول له إنى بذلت مجهوداً رهيباً لكى أنجح، وإنه لو أراد أن ينجح فيجب أن يبذل مجهوداً كبيراً، وكلما عمل الإنسان واجتهد كلما نجح، وعليه ألا يعتمد على الظروف، فهناك من يعتقدون أنى أصبحت صحفياً لأن أمى كان عندها مجلة وهذا غير صحيح، فهناك الكثيرون كان آباؤهم يملكون مجلات وجرائد ولكنهم فشلوا فى أن يكونوا صحفيين، وأنا نجحت فى الصحافة لأنى بذلت مجهوداً كبيراً جداً وتعبت جداً حتى نجحت فى إثبات نفسى كصحفى وكاتب.

وأكثر شىء أوصى به الجيل الصاعد من الشباب هى القراءة، وأنا أعتبر أن من أهم الأسباب التى كونت عقليتى وأنضجتها بما يكفى للعمل هى القراءة.

أعتبر نفسى طفلاً كبيراً

 

آمال: ماذا تبقى فيك من طفولتك؟ 

إحسان عبدالقدوس: أنا أعتبر نفسى طفلاً كبيراً، فأنا – كما قلت – أعتبر حياتى خطاً واحداً من طفولتى حتى الآن، حتى أن عاداتى وأنا طفل لا تزال متحكمة فيَّ حتى الآن.

آمال: وما هى هذه العادات؟ 

إحسان عبدالقدوس: مازلت مثلاً أحب الخرشوف، والليمون الحلو الذى أفرط فى تناوله جداً، ولكن فى نفس الوقت هناك عادات أدمنتها فى صغرى وأندم حتى الآن مثل تدخين السجائر.

لم أتحمل الفن الذى أحبوه

آمال: هل نموك وأنت بين قطبين الأب والأم، وكل واحد منهما يريد لك مستقبلاً مختلفاً.. هل جار على عود طفولتك الأخضر؟ 

إحسان عبدالقدوس: والدتى كانت فنانة وأبى أيضاً كان فناناً، وكانا معاً يقدران أن أكون فناناً، لكنى لم أتحمل الفن الذى أحبوه وهو فن التمثيل وأنا لم أر والدتى وهى تمثل فهى اعتزلت التمثيل مبكراً، لكن والدى كان يصطحبنى معه، وكنت أجلس معه فى حجرته بالمسرح وأرى معاناته التى يعانيها قبل صعوده على المسرح لكى يتقمص الشخصية التى سيقوم بتمثيلها ويحفظ دوره، فكان يعانى بشدة لدرجة أنى كنت أشفق عليه، وكنت أقف بين الكواليس فأرى مثلاً نجيب الريحانى يخرج من المسرح وسط تصفيق وضحك الجمهور بينما هو لا يستطيع الوقوف من فرط تعبه لدرجة أنه يرتمى على أقرب كرسى من التعب، وكل هذا جعلنى أرهب التمثيل، وحدث فى صغرى أن كتبت مسرحية وجمعت أصدقائى فى الحارة وقمنا بتمثيلها، وقمت أنا بدور البطل وكان فى الدور أن يبكى الطفل، وحينما جاء هذا المشهد بكيت بالفعل لدرجة أنهم فشلوا فى إسكاتى فزاد هذا الموقف من ابتعادى نفسياً عن التمثيل.

هذه مواقف لا أنساها

آمال: حدثنى عن موقف لوالدك لا تنساه أبداً؟ 

إحسان عبدالقدوس: كان والدى كبير الثقة فيَّ، وكان يدافع عنى لو اختلفت مع والدتى أو مع أى شخص من العائلة، ويؤكد لهم أنى سأكون شخصاً رائعاً فى المستقبل، وكان يصارحنى دائماً ويتقرب منى، وكان يحرص على أن يصطحبنى معه فى عمله وفى جلساته، وكأنه يريد أن يطلعنى على الحياة كلها. وهناك موقف لا يمكن أن أنساه أبداً، فقد دخلت المدرسة الثانوية وكان لا بد أن أسدد المصروفات، ولم يكن والدى غنياً، فنصحه أصحابه بأن يطلب لى المجانية، فأعد الأوراق، وذهبنا إلى مقهى فى الفجالة وظل يملأ بيانات الطلب، وكان الطلب يشبه التسول فعلى من يملأه أن يثبت أنه فقير ويحتاج للمعونة، فملأ عدة أسطر ثم قام فجأة ومزق الأوراق وصرخ قائلاً إننا لسنا فقراء، وإنه سيجعلنى أتعلم حتى لو عانى الجوع، وبالفعل تكفل هو بدفع مصاريفى كاملة، وذلك حتى لا يشعرنى بالنقص فقد كان عاطفياً جداً ولا يمكن أن أنسى موقفه هذا معى أبداً.

 

آمال: وماذا عن والدتك؟ 

إحسان عبدالقدوس: والدتى كانت عملية جداً عكس والدى الذى ترك عمله الحكومى وتخصص فى الهندسة وتفرغ للتمثيل دون أن يهتم بأى مال أو جاه، لكن والدتى كانت واقعية وعملية، وتسعى للنجاح، وكنت أعتمد عليها فى الهدايا والأشياء التى تحتاج لمصاريف باهظة، وكنت فى كل مرة أستغرق وقتاً طويلاً فى إقناعها لكن فى النهاية كان حبها يتغلب عليها وتمنحنى ما أريد.

آمال: هل تأثرت حياتك برفض المجتمع لمهن والديك؟ 

إحسان عبدالقدوس: الحقيقة أنا أصبت بالحيرة، فالمجتمع يرفض أمى وأبى وأنا أحبهما، فكيف أوفق بينهما وبين المجتمع داخل نفسى، فحدث تناقض شديد تسبب فى معركة فى الرأى دارت داخل نفسى، فأنا أرى أن والديّ هما أفضل الناس ولا بد للمجتمع ليس أن يعترف بهما فقط، بل يجب أن يخضع لهما، لأنى أعتبر أمى أعظم سيدة وأبى أعظم رجل، وهكذا فقد دارت معركة بينى وبين نفسى فى صغرى، وهذه المعركة لا تزال مستمرة حتى اليوم، لكنها تطورت لدرجة أنى لا أستسلم أبداً لرأى، بل يجب أن أدرس كل رأى وأقتله بحثاً حتى أقتنع به.

لم أحتمل رؤية أمى تمثل بعد 11 عاماً من الاعتزال

آمال: رأيت والدتك مرة واحدة فقط وهى تمثل.. فماذا كان شعوك وقتها؟ 

إحسان عبدالقدوس: والدتى اعتزلت التمثيل وأنا عمرى خمس سنوات ولكنى شاهدتها مرة واحدة وهى تمثل فى عام 1936، ولم أحتمل أن آراها فى هذا الوقت، لأنى لم أعتد أن آراها وهى تمثل؟ وخاصة أنها كانت قد لمعت كصحفية وكاتبة فحينما رأيتها كانت تمثل فى مسرحية خيرية تبرعت بدخلها لضحايا حريق كان قد حدث فى قرية من القرى، وأحدث هذا ضجة لأن عودتها جاءت بعد 11 عاماً من اعتزالها وكانت قد وصلت لقمة العمل الصحفى. وحينما عادت قامت بالتمثيل فى عرضين فقط لكى تجمع أكبر قدر ممكن من المال لضحايا الحريق ولاقى العرضان إقبالاً رهيباً وغير مسبوق.

وكنت أجلس فى لوج بداخل المسرح وحينما رأيتها اختبأت وراء سور اللوج حتى لا أراها وهى تمثل لأنى لم أحتمل رؤيتها، ويبدو أن أثر تربية جدى كانت السبب لأننا تربينا على أن السيدات لا يخرجن من البيت لدرجة أنهم أمرونى ذات مرة وأنا فى السادسة من عمرى بضرب ابنة عمتى لأنها وقفت فى الشباك وشعرها مكشوف، فكان من الصعب مع هذه البيئة المحافظة التى تربيت فيها أن أستسيغ هذا التحرر التام فى حياة كل من أمى وأبى. وقد لا يصدق الكثيرون أننى مع ما هو معروف عنى من التحرر فأنا متحفظ جداً فى بيتى، ورغم أن والدتى كانت تعمل وكان عملها هو كل حياتها، وحتى فى اليوم الوحيد الذى كنت أقضيه معها فى الأسبوع لم أكن أجلس معها أكثر من نصف ساعة ثم تختفى فى عملها، ولهذا فحينما أقبلت على الزواج ظهر أثر هذا الحرمان من والدتى، فوضعت شرطاً لم أقبل أبداً التغاضى عنه وهو أن تكون زوجتى لا تعمل. والحقيقة أن انشغال والدتى لم ينف أبداً أمومتها الرائعة، ففى أى أمور تخصنى كانت تساندنى مساندة الأم كاملة الإحساس وكانت تفعل كل ما تستطيع فعله من أجلى.

آمال: هل صرت كما تمنت والدتك أن تكون؟ 

إحسان عبدالقدوس: الكتابة عندى ليست احترافا بل هى هواية ومتعة، ووالدتى كان أملها أن أكون صحفياً فقط، لكنها لم تستطع تحريرى من حبى للأدب، وأنا لم أجد فرصة أن أبرز نفسى كأديب وكاتب قصة إلا بعد أن تمكنت من الصحافة، ونشرت قصصا فى روزاليوسف بعد أن أصبح لى نفوذى فيها، وبعد أن اطمأنت والدتى أننى قد أصبحت صحفياً، وهكذا فأنا أعتقد أنى حققت طموحات والدتى فيَّ كصحفى.

تحقيق الأسلحة الفاسدة سجنى خلف الأسوار

آمال: لك عدد من التحقيقات الصحفية التى تعد علامة بارزة من علاماتك مثل خبطتك الصحفية عن الأسلحة الفاسدة والتى دلخت بسببها السجن.. فما هى قصة هذا التحقيق؟ 

إحسان عبدالقدوس: كنت أختلف مع والدتى فى الاتجاه السياسى، لأنى بعد تجارب كثيرة انتهيت إلى أن أصبحت غير مقتنع بكل الوضع السياسى فى مصر قبل الثورة وبالتحديد عام 1942 لأنى جربت كل الأحزاب القائمة واتصلت بها بشكل كبير نظراً لطبيعة مهنتى كصحفى وككاتب، وقررت بينى وبين نفسى أن أدعو لتغيير كل الوضع السياسى فى مصر بدءاً بالإنجليز والملك والأحزاب، وكانت والدتى مؤمنة تماماً بالوضع القائم، فبدأت أنا الحملات المستقلة عن كل القوى السياسية فى مصر، وجذب هذا كل الشباب من سنى، فبدأت أعيش مع جيلى وليس مع الجيل السابق، ولكن رغم خلافاتنا فى المجلة إلا أننى كنت أعود للبيت وأرتمى فى أحضانها ثم نعود للمكتب لنختلف.

ويضيف: فى هذه المرحلة كتبت تحقيق الأسلحة الفاسدة، والحقيقة لم يكن يتناول موضوع الأسلحة الفاسدة فى حد ذاته، بل كانت حملة ضخمة جداً لأن بعد إيقاف الموضوع وحبسى لأول مرة فى حياتى وكان عمرى وقتها حوالى 25 سنة خرجت وبدأت حملة أوسع، لأنى لم أريد أن يثور الشعب فقط، بل كنت أريد أن يثور الجيش، فانتهيت من قضية الأسلحة الفاسدة لأبدأ فى تناول الأوضاع العامة للجيش والمهازل التى كانت تحدث فيه، وكانت هذه الحملة من العناصر العامة فى ثورة يوليو لأنها صنعت رأياً واتجاهاً سياسياً داخل الجيش.

آمال: وأخيراً وصلنا لنهاية الرحلة داخل قلب وعقل إحسان عبدالقدوس.. وأسألك مَن أنت فى كلمات؟ 

إحسان عبدالقدوس: أنا بالنسبة لكل شخص إنسان مختلف، أما بالنسبة لنفسى فأنا لا أحب أن أتحدث عن نفسى.