الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

روزاليوسف تقود معركة 1948

تحقيق صحفى هذه هى فلسطين.. للأستاذ إحسان عبدالقدوس  



القدس فى 3 مايو

الساعة الثالثة صباحا

كان أول ما أثار اهتمامى لغة عجيبة طنت فى أذنى منذ أن دخل القطار أراضى فلسطين.. لغة لم أتعود سماعها من قبل رغم كثرة اللغات واللهجات التى سمعتها، بل لا أعتقد أن بلدا من بلدان العالم تعودت سماعها مثل ما تعودتها فلسطين : 

اللغة العبرية 

إن شيال المحطة يتكلم العبرية، وبائع البرتقال – فى بعض المحطات - ينادى على برتقال بالعبرية، والمستقبلون والمودعون والمسافرون والقادمون (أغلبهم) يتحدثون وينشدون ويبكون باللغة العبرية، وكلمة (شالوم) تنطلق من كل فم وتلح على أذنى حتى تعلمتها. 

بل إن بعض المسلمين والمسيحيين العرب الذين التقيت بهم سمعتهم يتحدثون العبرية، وقد علمت فيما يبدو أنهم اضطروا إلى تعلم هذه اللغة واستعمالها لأن بنات إسرائيل لا يرضين بغيرها!

واللغة العبرية هنا تتمتع بصفة رسمية بجانب اللغتين العربية والإنجليزية، فأسماء المحطات والتترسات الرسمية المعلقة على الجدران والنقوض الفضية والورقية.. إلخ كلها تحمل الثلاث لغات.

وتكاد تنوء بحملها!!

والعبرية لغة قريبة جدا من العربية وبعض كلمات اللغتين تكاد تكون واحدة فكلمة (شالوم) تعنى (سلام) وكلمة (بيتا) بالعبرية هى (بيت) بالعربية و(كوس ميم) وهى (كاس ميه) بالعربية العامية.. وقد تعلمت بعض هذه الكلمات لأستعملها عند الحاجة!

وقد ذكرنى هذا التشابه بين اللغتين برأى سمعته من أنطون الجميل بك قبل سفرى هو أن (الصهيونية) التى يتمسك بها اليهود الآن فى حقيقتها شعب فلسطين كله بما فيهم العرب واليهود، ولا تعنى لليهود وحدهم أو العرب وحدهم. ومر القطار على مزارع فلسطين.. 

 كما نمر على مزارع هى أقرب فى نظامها ونظافتها وطريقة تخطيطها وآلاتها وعلم الحياة التى ينطق بها كل غصن من أغصان شجيراتها. 

أقرب إلى مزارع الغرب، وكنت أسأل عنها فأعلم أنها مستعمرات يهودية !

وكنا نمر على مزارع مهملة تحمل الطابع الفطرى الذى طبعت به مزارعنا فى مصر وأسال عنها فأعلم أنها مزارع العرب !

وبعد ربع ساعة فى نافذة القطار استطعت أن أميز بين المزارع اليهودية والمزارع العربية دون حاجة إلى سؤال ! وهذا الفرق بين المزارع اليهودية والعربية -كما علمت هنا – لا يرجع إلى عبقرية الفلاح اليهودى أو تكاسل الفلاح العربى وتأخره، بل يرجع إلى هذه المبالغ الجنونية التى تتدفق من الصندوق اليهودى العالمى على مزارع اليهود فى فلسطين، وقد علمت أيضا – من جهات محايدة! أن المزارع اليهودية لا تفى بتكاليفها وأن دخلها فى العام – رغم طول مدة استغلالها – مازالت لا تكفى لسداد ما يصرف عليها وإنما هى مدينة باستمرار لصندوق اليهودى العام.. فاليهود يقيمون فى مزارعهم منازل على أحدث طراز ويستعملون أحدث الآلات ويطبقون أحدث النظم فى حين أن مقدرة الأرض محدودة. 

وقد أنشأ العرب هنا مزرعة نموذجية كالمزارع اليهودية جمعوا تكاليفها من تبرعات العرب وشغلوا فيها أيتام فلسطين الذين مات أبناؤهم فى ثوراتها، وهذه المزرعة – كالمزارع اليهودية – لم تصل بعد إلى حد تغطية تكاليفها. وأسعار الأراضى بلغت فى فلسطين حدا جنونيا (فالدونم) – ومساحته حوالى ربع فدان – الذى كان يباع بحوالى خمسة جنيهات أصبح الآن يباع بخمسين جنيها بل إن بعض الأراضى فى القدس ارتفع سعر (الدونم) فيها إلى مائتى جنيه. 

والعرب يقاومون مقاومة حماسية محاولة اليهود شراء أراضيهم، ولكن هناك مساحات واسعة بيعت ومساحات أخرى تباع حتى اليوم.

وأسباب بيع العرب أراضيهم ليهود ترجع إلى : 

1 - معظم كبار الملاك العرب ليسوا من أصل فلسطينى فبعضهم لبنانى أو سورى كعائلة (مرسل) وعائلة (سلام) وعائلة (قباني)ممن أقطعهم الترك مقاطعات واسعة فى فلسطين أيام الحكم العثمانى، وهؤلاء فضلوا بيع أملاكهم بهذه الأثمان الباهظة عن تحمل الجهاد فى سبيل الاحتفاظ بها.. 

2 - كثرة الضرائب على الأراضى وقد قيل لى إن اليهود استطاعوا بنفوذهم العالمى أن يؤثروا على حكومة فلسطين لكى تزيد فى الضرائب حتى ولو شملتهم – أى اليهود – فهناك مثلا ضريبة تبلغ أربعين قرشا فى السنة على كل رأس من البقر والبغال وبقية البهائم التى يعتمد عليها الفلاح فى زراعته، ولا أعتقد أن مثل هذه الضريبة موجود مثلها فى مصر، وقد يبلغ إيراد (الدونم) الواحد جنيها فى العام والضريبة المفروضة عليه جنيهان فى العام، وحدث أن فرضت ضريبة على قنطار البرتقال قدرها جنيهان فى حين أنه يباع بجنيه واحد حتى اضطر اصحاب الملاك إلى إخفاء البرتقال فى باطن الأرض هربا من الضريبة.

وإذا كان الفلاح اليهودى يستطيع أن يتحمل كل هذه الضرائب اعتمادا على الصندوق اليهودى العالمى الذى يمده بالمال، فليس هناك صندوق عربى يساعد الفلاح العربى على تحمل هذه الضرائب ولذا يضطر إلى بيع أرضه والخلاص بجلده. 

3 - الخلاف الدائم بين الملاك العرب وفلاحيهم : وينسب من قابلتهم هنا هذا الخلاف إلى اليهود أيضا، فهم الذين يثيرون الفلاحين ويوغرون إليهم بالمطالبة بمطالب يعجز المالك عن تنفيذها ويطلع دينه منهم – على حد تعبير محدثى - فيضطر إلى بيع أرضه لليهود.. وعلى وعلى أعدائى يا رب.

4 - أعراف (بعض) الأهالى العرب وكثرة مغامراتهم الغرامية، وكل مغامرة غرامية تبدأ فى تل أبيب وتنتهى فى قلم سجل عقود بيع الأراضى!

وقد حرم الكتاب الأبيض بيع الأراضى إلى اليهود فى بعض المناطق، ولكن الكتاب الأبيض لم ينفذ بدقة، وفى الحالات التى نفذ بدقة تحايل عليه اليهود واستطاعوا أن يضعوا أيديهم على أراضى المناطق المحرم عليهم الشراء فيها باستئجارها لمدة 99 عاما.

ويحاول زعماء فلسطين التغلب على كل هذه الأسباب التى قد تنتهى بتملك اليهود لفلسطين كلها فأنشأوا صندوق الأمة العربى لشراء الأراضى العربية، وأنشأوا شركة أخرى لنفس السبب. 

 ولم أتمكن بعد من دراسة نظامها – الصندوق والشركة - فقد وصلت أمس فقط.

ولكنى أعتقد أن فلسطين مهما قاومت ومهما جمعت من أموالها لإنقاذ أراضيها، فلا يمكن أن تقف وحدها أمام هذا السيل المالى الجارف بل يجب أن تتجمع أموال الأمم العربية كلها لإنقاذها وإن كان اليهود قد خصصوا لشراء أراضى فلسطين مائة وخمسين مليونا من الجنيهات الاسترلينية – كما علمت – فإن العرب يجب أن يجمعوا ثلاثمائة مليون حتى يوقفوا البيع. 

وبعد وصولى إلى القدس بساعات طلبت أن التقى بزعماء الأحزاب العربية الفلسطينية 

 وفى فلسطين خمسة أحزاب رغم أن تعداد أهلها العربى لا يتجاوز مليونا !! وهذه الأحزاب هى:

1 - الحزب العربى، وكان رئيسه الرسمى السيد جمال الدينى الحسينى وقد نفى إلى روديسا عام 1938 ويتولى إدارة الحزب لأن نائب رئيس وهو السيد توفيق صالح الحسينى.

2 - حزب الدفاع الوطنى، ورئيسه راغب الشباشى بك

3 - حزب الإصلاح ورئيسه الدكتور حسين الخالدى

4 - حزب الاستقلال وعميده السيد عبداللطيف صلاح 

5 - مؤتمر الشباب ورئيسه السيد يعقوب الشمؤتمر الشباب ورئيسه السيد يعقوب النصين

ومشكلة الأحزاب فى فلسطين هى نفس مشكلة الأحزاب فى مصر، فليس لها برامج وليس بينها خلاف فى المبدأ وإنما كلها أحزاب تقوم على شخصية رؤسائها، وكلها خلافات شخصية تنحصر فى التنافس على لقب (منقذ فلسطين).

وأهم حزبين بين هذه الأحزاب الستة هى الحزب العربى، وحزب الدفاع الوطنى، أما بقية الأحزاب فمن عينة حزب الاتحاد الشعبى عندنا !!

والخلاف بين الحزبين كان ينحصر فى تولى رئاسة بلدية القدس ورئاسة المجلس الإسلامى الأعلى، كما ينحصر عندنا فى مصر على تولى رئاسة الوزارة، إلى أن وضع نظام البلدية الجديد الذى يقضى بأن يتولى رئاسة البلدية بالتناوب رئيس عربى ورئيس يهودى ورئيس مسيحى، فاتفق الحزبان على رفض هذا النظام ومعارضته. 

ولا أريد أن أشرح لكم تفصيلات النظم الحزبية فى فلسطين إلا بعد أن أقابل زعماء الأحزاب والتحدث إليهم.

يبقى الوجه الثالث من فلسطين.. الوجه الإنجليزى، ويعد الوجه المعقد المقطب الذى تحتاج لرؤية تعابيره إلى نظارات يجب أن تمسح زجاجها بين دقيقة وأخرى!

ويتولى الإنجليز هنا جميع نواحى السلطة التنفيذية، فالرئيس الأعلى هو فخامة اللورد «جورت» المندوب السامى، ويليه السكرتير العام أى رئيس الوزراء وهو إنجليزى، ثم نائب الرئيس العام وهو إنجليزى أيضا، ثم مساعدو السكرتير العام وعددهم أكثر من عشرة مساعدين بينهم اثنان من العرب والباقى إما يهود أو إنجليز. 

 وتسمى الوزارات هنا دوائر يتولى كل منها مدير إنجليزى يليه مساعد إنجليزى ثم نائب مدير إنجليزى أيضا ثم مساعد نائب المدير وهو إما عربى أو يهودى أو إنجليزى.. 

وتنقسم فلسطين إلى سبعة ألوية(مديريات) معرضة دائما للتبديل والتغيير ويرأس كل لواء منها حاكم إنجليزى يليه نائب إنجليزى ثم مساعد إنجليزى ثم قائمقام عربى أو يهودى.. وقد تتسع سلطة القائمقام فتتساوى وسلطة الحاكم وقد تتقلص فلا تتعدى سلطة تحصيل ضرائب..

هذا هو مجمل نظام الحكم فى فلسطين.

أما من الناحية السياسية الذى فهمته أن كلا من العرب واليهود ويحاول اليوم التودد إلى الدولة المنتدبة أى الإنجليز أملا فى مساعدة أحدهم على الآخر. 

ولم يقرر الإنجليز بعد أى الفريقين يرجحون ولكن الذى فهمته أيضا أنهم يحاولون التودد أيضا إلى الجهتين.. وهذا هو يومى الأول فى مدينة القدس عاصمة فلسطين..

 

 

تحقيق صحفى فى الدوائر اليهودية بفلسطين للأستاذ إحسان محمد عبدالقدوس

القدس فى 6 مايو

كان يجب كى أستطيع فهم القضية الفلسطينية أن أدرس آراء اليهود ومطالبهم والنظم التى استحدثوها لجعل فلسطين وطنًا قوميًا لهم، وكنت كلما تعلمت فى الدرس ووقفت على معلومات جديدة ازددت إيمانًا بأن فلسطين لا يمكن أن تقف وحدها، وأننا يجب أن نقيم تمثالاً من ذهب لفلسطين التى استطاعت أن تقاوم حتى اليوم.

وتتكون الهيئات اليهودية فى فلسطين من:

1 - الوكالة اليهودية ويرأسها الدكتور ويزمان وهى تمثل يهود العالم كلهم، وهؤلاء يعقدون مؤتمرًا كل عام وينتخبون ثمانية مندوبين يمثلونهم فى فلسطين.

ويهود العالم ينقسمون إلى أحزاب، كحزب العالم وكحزب الصهيونى وحزب المتدينين.. إلخ.

وحزب العمال- وهو أقوى الأحزاب اليهودية- ينقسم أيضًا إلى أحزاب، فهناك حزب «فلسطين!» وحزب «الحارس الصغير» وحزب «الوطن المتدين».. إلخ.

وهذه الأحزاب كلها هى التى تجتمع فى المؤتمر اليهودى العام وتلتها فيه ليكون لها أكبر عدد من الممثلين فى فلسطين، وممثلو حزب العمال والأغلبية فى الوكالة الحالية.

وتنقسم الوكالة اليهودية هنا إلى إدارات، فهناك الإدارة السياسية وإدارة العمال وإدارة الهجرة وإدارة الزراعة.. إلخ.

أى أنها حكومة لها وزارات ووزير الخارجية بها هو «مستر شرتوك» وهو رئيس الإدارة السياسية.

2 - المجلس الوطنى اليهودى،وهو يقوم مقام الجمعيات التشريعية، ويضم ممثلى ثلاثين جمعية يهودية لا تعدى نشاطها فلسطين.

 

 

 

وإذا جمعنا الوكالة اليهودية على المجلس الوطنى اليهودى، وجدنا أن لليهود فى فلسطين حكومة كاملة بوزاراتها ووزرائها ونوابها، تدير شئونهم وتشرف على مصالحهم إشرافًا مباشرًا.

وقد علمت أن الإنجليز عرضوا على العرب أن تكون لهم فى فلسطين وكالة مثل الوكالة اليهودية ولكن العرب رفضوا لأن الاقتراح الإنجليزى كان يرمى إلى تعيين أعضاء الوكالة بواسطة حكومة الانتداب لا بانتخابهم بواسطة الشعب.

وقد قابلت «المستر» شرتوك، وقبل أن أبدأ فى سؤاله بدأ هو يسألنى أسئلة دهشت لها ولم أجد لها أية مناسبة فقد سألني: هل أنا متزوج؟ وهل أنا الابن الوحيد للسيدة روزاليوسف؟ وهل لى أخوة ليسوا بأشقاء؟ وأين تعلمت؟ وما صناعة والدي؟!

ثم بدأ يحدثنى عن الجو ومدينة القدس مدة ربع ساعة إلى أن استطعت أخيرًا أن أوجه إليه أسئلتى.. وقد أحالنى فى الإجابة من بعضها إلى مدير مكتبه، كما طلب من مدير مكتبه أن يحيلنى إلى بعض الأخصائيين، وطلب منى الأخصائيون أن يصحبونى لزيارة مستعمراتهم ومصانعهم ولكنى اعتذرت لضيق الوقت.

وأنى أسجل هنا كل ما قلته وما قيل لى فى الوكالة اليهودية وأترك للقراء مهمة التعليق عليه:

 

ألا تعتقد أن فتح باب الهجرة اليهودية على مصراعيه سيجعلكم يومًا ما أغلبية فى فلسطين تتحكم فى العرب وتحرمهم من حقهم الطبيعي؟

- إن من حقنا الطبيعى نحن أيضًا أن يكون لنا وطن يضم اليهود الذين تضطهدهم بلاد العالم، ثم إننا لا يمكن أن نكون أغلبية فى ظل نظام الهجرة الحالى لأن تعداد العرب يزداد زيادة مضطردة لا نجد لها مثيلاً فى العالم، وذلك لكثرة توالدهم بعد أن تحسنت الحالة الصحية والاقتصادية والاجتماعية بفضل مجهوداتنا.

 ولكن لماذا لم يتزايد توالد اليهود ونفس الأسباب الصحية والاقتصادية والاجتماعية تنطبق عليهم.. وإذا كان عددهم قد تزايد فلا لزوم إذن لإعادة فتح باب الهجرة لأنهم سيظلون محتفظين باللغة بينهم وبين العرب.

- إن اليهود لم يتزايدوا لأن فى طبيعتهم تحديد النسل ولأن هذه الأسباب ليست حقيقية عليهم حتى تحدث بينهم زيادة جديدة فى النسل يتساوون بها مع العرب.. ثم لا ننسى أن العرب لهم أقطار كثيرة كمصر والعراق نسبتهم فيها مائة فى المائة فيجب أن يتنازلوا ولو قليلاً عن هذه النسبة فى فلسطين!

 إنكم تحاولون شراء أراضى العرب بطرق لا يستطيعون مقاومتها.. فهل معنى هذا أنكم تحاولون طرد العرب من فلسطين؟

- أبدًا.. إننا لا نشترى إلا جزءًا من الأرض ونترك الباقى لصاحبها العربى،هذا كان يملك مائة «دونم»- مثلاً- اشترينا جزءًا وتركنا له الباقى، وأعتقد أن هذا فى صالح صاحب الأرض لأنه غالبًا ما يكون فى حالة مالية مرتبكة لا يستطيع معها تحمل نفقات زراعة لمائة «دونم» فإذا باع منها خمسين وركز جهوده فى الخمسين الباقية استعان بثمن ما باعه على تحسين حالة زراعته، ثم إن الحكومة هنا لا تسمح لنا بشراء أرض عربى إلا إذا كان له أرض أخرى، ولا تنسى أن مجموع الأراضى التى يملكها اليهود لا تزيد على 7 ونصف فى المائة من مجموع أراضى فلسطين.

- ولكن هذا الـ7 ونصف فى المائة هى الأراضى الخصبة فى فلسطين والباقى كله تقريبًا مجدب لا يصلح للزراعة. - إننا لا نعترف أن هناك أرضًا صالحة وأخرى غير صالحة، فمادام هناك المال والعقل والأيدى العاملة استطعت أن تأخذ من الأرض- مهما كانت طبيعتها- ما تشاء، وهناك أراض اعترف جميع الخبراء أنها موات فجعلنا منها جنات.. ونؤكد أننا لا نريد طرد العرب وأن فلسطين تسعنا وتسعهم.

 على أن تكونوا فيها أغلبية؟!

- ولم لا؟

 ما رأيك فى الكتاب الأبيض؟

- أننا لا نعترف به.

 ما رأيك فى موقف الإنجليز من فلسطين؟

- إن إنجلترا ستبقى فى فلسطين مدة طويلة وستجد لنفسها دائمًا سببًا للبقاء.

 

 

 

 لو عرض عليكم تأليف حكومة مركزية مستقلة بالاشتراك مع العرب.. هل تقبلون؟

- طبعًا لا.. فإن أى حكومة ديمقراطية فى فلسطين سنمثل فيها بنسبة الأقلية فيستطيع العرب- وسيكونون أغلبية فى هذه الحكومة- أن يقرروا قفل باب الهجرة فى وجوهنا.

- إذن فمن رأيكم بقاء الانتداب الإنجليزى على فلسطين، لأن العرب لن يرضوا أيضًا بحكومة تكونون فيها أغلبية. - نستطيع أن نتفق مع العرب على شكل حكومة لا يحرمنا من حق الهجرة.

  سمعت أن هناك يهود يهربون إلى داخل البلاد.. فهل هذا حقيقي؟

- أبدًا.. بل إننا نقاوم الهجرة المهربة بكل قوانا لأنها تفسد نظامًا.. نحن نقبل قبول المهاجرين  إلى كثير من مراكزنا المنتشرة فى جميع أنحاء العالم وهى تعد المهاجرين وتعلم كل منهم هناك ما سيقوم به فى فلسطين ويتمرن عليه ثم يأتون إلى فلسطين أفواجًا يضم كل فوج أطباء ومهندسين وعمالة 

ورؤساء، ثم يقودهم بمجرد وصولهم إلى المستعمرة التى سيقيمون فيها وهى غالبًا أرض فى الصحراء لم تستغل من قبل، فيبدأون فى عملهم منذ الدقيقة الأولى وكل منهم يعرف ما عليه.. وبعد أربع وعشرين ساعة تستطيع أن ترى مدينة جديدة لم تسمع عنها من قبل!

 هل عندكم مستعمرات تطبقون فيها النظام الشيوعى أو الاشتراكي؟

- إننا لا نسيمه نظامًا شيوعيًا أو اشتراكيًا «ملحوظة: فى يوم أول مايو سارت مظاهرة فى تل أبيب من الشبان والشابات اليهود رافعين الأعلام الحمراء الروسية وتهتف: افتحوا أبواب الهجرة».

- كم يبلغ ما صرفه الصندوق اليهودى العام على أراضى فلسطين؟

- حوالى مائة وخمسين مليونًا من الجنيهات.

هل استطاعت المستعمرات اليهودية أن ترد هذا  المبلغ إلى الصندوق العام؟

- إننا سنظل دائمًا مدينين للصندوق العام!

 ما رأيك فى الوحدة العربية؟

- إن العرب من حقهم أن يتحدوا ولو أنهم لم يتعرضوا لنا لما كان لنا بهم شأن، أما وأن تعرضوا لنا فعلاً فى الميثاق الذى أصدروه فإننا نقف منهم موقف الحذر.

 هل حلت جمعياتكم الإرهابية مثل جمعية «شنرن» و«المنظمة العسكرية»؟

- إننا نستنكر هذه الجمعيات أشد الاستنكار، وليس معنى هذا أن نقوم بمهمة التجسس عليها لصالح البوليس بل إننا سنقضى عليها بأنفسنا دون أن يتدخل بيننا أحد  وينشأ بيننا الخلاف.

 

وما رأيكم فى الحكم الذى صدر على قاتل اللورد  موين؟

- إننا لم نشك أبدًا فى عدالة القضاء المصرى.

وأكتفى بذكر هذا الحديث عسى أن تعرف مصر وبقية الأمم العربية واجبها حيال فلسطين.

 

 

 

تحقيق صحفى دمشق.. العاصمة الجبارة بقلم الأستاذ إحسان محمد عبدالقدوس

 

غادرت «شتوره» فى لبنان إلى دمشق عاصمة سوريا والمسافة بينهما لا تتعدى ساعة ونصف ساعة بالسيارة. وقبل أن نصل إلى حدود العاصمة الثائرة أوقف السائق سيارته ثم نزل وغطى الأرقام الأفرنجية من «نمرة» السيارة بغطاء من القماش الأسود فقد كانت دمشق- ولازالت- ثائرة على كل ما هو «أفرنجي» حتى أرقام السيارات، وكان المتظاهرون يهجمون على كل سيارة ويحطمون أرقامها الأفرنجية إن لم يسبقهم صاحب السيارة ويحطمها بنفسه.

ويستوى فى الثورة على «الأفرنجي» الكبير والصغير فى سوريا، وقد قال لى سعد الله الجابرى بك أنه كان أول من حطم أرقام سيارته بنفسه، وشهدت سيارة نائب رئيس الوزراء معالى جميل مردم بك وقد دهنت أرقامها الأفرنجية بدهان أسود كثيف حتى لم تعد تظهر.

وكان أول ما استقبلت به فى دمشق أن هجم أهلها على السيارة التى أركبها- وكانت سيارة لبنانية لا سورية- وحاولوا أن يوقفوها، فإضراب دمشق كان عامِا شمل كل شىء، وكان كل من يخرج عن هذا الإضراب يعتبر خائنًا.

وقد اعتبر السوريون سائق سيارتى خائنًا.

واستطاع سائق السيارة أن «يزوغ» بسيارته من الأهالى والتفت إلى وقال إنه لن يستطيع الوقوف حتى أنزل، فإما أن يعود بى ثانية إلى لبنان، وإما أن أقفز من السيارة أثناء سيرها.

وأخذت بالاقتراح الثانى وقفزت من السيارة بعد أن دفعت للسائق أجرته وهى ثلاثة أضعاف الأجرة العادية.. نظير تعرضى للموت!

وتلفت حولى فى شوارع دمشق.

إن دمشق ليست فى ثورة إنما هى فى حرب، فليس فى شوارعها الأرجل الجندرمة أو البوليس السورى حاملين سلاحهم ويتولون المحافظة على الأرواح.. أرواح من؟ أرواح الفرنسيين!

 

 

 

وقد أحبط الحى الأفرنجى الذى تقع فيه دار ممثل فرنسا ويسكنه معظم الفرنسيين بفرق من البوليس المسلح يمنعون الأهالى من التجول فيه أو الاقترب منه.. وكل ذلك قبل أن غادر العائلات الفرنسية دمشق كلها وتقيم فى ثكنات الجيش الفرنسى.

وكانت العاصمة حين دخلتها هادئة هدوءًا مخيفًا فليس فيها حانوت واحد فاتح أبوابه أو بائع متجول ينادى على بضاعته أو شخص واحد يتسكع فى الطريق.

وقد علمت أن جماعة الفدائيين السوريين- وهى جمعية سرية وطنية- أصدرت حكمًا بالإعدام على كل من يشذ عن الإضراب أو يذيع أقوالاً من شأنها أن تزعزع الروح المعنوية فى نفوس الشعب أو يتعاون مع العدو.

وكان الأهالى يضطرون لشراء حاجاتهم اليومية إلى الاستيقاظ فى الساعة الرابعة صباحًا حيث يفتح حاويتين اثنتين فى دمشق كلها أبوابهما بأمر جماعة الفدائيين ويعودان إلى الإضراب فى الساعة الخامسة من الصباح.. الإضراب الإجماعى الجبار.

وعندما أتكلم عن الإجماع فى سوريا أعنى الإجماع التام بكل معنى الكلمة، فليس فى سوريا- اليوم- أحزاب ولا طوائف ولا أديان والأرمن والمسيحيين يجاهدون فى سبيل الاستقلال بنفس الحماسة التى يجاهد بها المسلمون.. حتى طائفة العلويين وهى طائفة دينية تخضع لزعامة رجل يدعى سليمان المرشد وكانت إلى عهد قريب تتعاون مع الفرنسيين تعاونًا تامًا، وسلح الفرنسيون رجالها وزودوهم بالذخيرة ليقفوا فى وجه أنصار الاستقلال.. حتى هذه الطائفة أعلنت الحرب على الفرنسيين ووقف زعيمها فى مجلس النواب السورى يضع نفسه ورجاله تحت أمر الحكومة ثم أتى اليوم الذى استعمل فيه العلويون الأسلحة الفرنسية ضد الفرنسيين أنفسهم!!

ويخيل إلى أن كل شخص فى سوريا يملك سلاحًا وكنت أرى رجالاً لا هم من المتطوعين ولا من رجال البوليس يسيرون فى شوارع دمشق وتحت أبطهم بندقية أو متراليوز أو «تومى جن» تمامًا كما نسير نحن فى شوارع القاهرة وفى يدنا عصاة أو منشه أو شمسية!

أما من أين أتت هذه الأسلحة، فهذا هو السر الذى اختلفت فى تعليله جميع الجهات! ولكن الثابت أن قبائل الدروز هى القبائل الوحيدة المسلحة تسليحًا تامًا حديثًا وأن هذه الأسلحة بقيت عندهم منذ اليوم الذى اشتركت فيه مع الحلفاء فى حربهم ضد رجال حكومة فيشى الذين كانوا يقيمون فى سوريا ولبنان.

 

 

 

أما الحكومة السورية فتعترف بأنها لا تملك الأسلحة الكافية وقد قال لى سعد الله الجابرى بك رئيس مجلس النواب السورى وهو يعترف لى بقلة الأسلحة التى تملكها الحكومة:

- إن الضعف ليس سببًا كافيًا للاعتداء على حق الأمم!

وفى الحفلة التى أقامها وزير مصر المفوض فى سوريا لتكريم سعادة الكفراوى باشا طبيب خاص جلالة الملك بمناسبة عنايته لرئيس الجمهورية فى مرضه، سألت سعادة جميل مردم بك نائب رئيس الوزراء:

- هل قيام الحكومة بفتح باب التطوع يعتبر مقدمة لإعلان الحرب على فرنسا؟

والسؤال كما ترى صريح أكثر من اللازم، وقد تولى الإجابة عنه سادة سعد الله الجابرى بك نيابة عن نائب رئيس الوزراء، فقال: إن الحكومة السورية لا تريد وليس فى نيتها أن تعلن الحرب على أحد، ولكنها- أى الحكومة السورية- طلبت من فرنسا أن تعيد إليها الجيش السورى لتضعه تحت إمرتها، فرفضت فرنسا ولازالت مصرة على الرفض رغم طول المفاوضات التى جرت بشأنه، فلم تجد الحكومة بدًا من تأليف جيش جديد وترك الجيش القديم تفعل به فرنسا ما تشاء.. ولذلك فتحت باب التطوع.

 

 

 

وبمناسبة تولى سعادة سعد الله الجابرى بك الإجابة عن سؤالى نيابة عن سعادة جميل مردم بك، أذكر أن مهمة الصحفى فى سوريا من السهولة بمكان فالسؤال الواحد تستطيع أن تلقيه على رجل الشارع أو على نائب من النواب أو على رئيس الوزراء فتتلقى دائمًا نفس الجواب فليس فى سوريا إلا رأى واحد وجواب واحد.

وليس فى سوريا ما نسميه عندنا سياسة عليا أو أسرار حكومية أنما ما يعلمه هناك رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء يعلمه سائق السيارة وبائع البقلاوة وخادم المسجد.

 

 

 

وفى الحفلة التى أقامها جميل مردم بك لتكريم الكفراوى باشا اختلى بى سعادته وطلب منى أن ألقى عليه أسئلتى فقلت له إنى أعتقد أنى سأتلقى منه نفس الأجوبة التى تلقيتها من سعد الله الجابرى بك فقال: «صدقت».

واتفقنا على أن أكتفى بحديثى مع سعد الله الجابرى بك.

وقد كان سعد الله الجابرى وجميل مردم على طرفى نقيض فى يوم ما فأصبحا اليوم شخصًا واحدًا ويدًا واحدة ورأيًا واحدًا.

 

 

نعود ثانية إلى الجيش.. 

وأفراد الجيش السورى الخاضع للقياة الفرنسية فى موقف غريب، فقد سنت لهم القيادة الفرنسية قانونًا يقضى بإعدام من يهرب منهم من الجيش وينضم للقوات الوطنية، وفى الوقت نفسه أصدرت جماعة الفدائيين الوطنيين قرارًا باعتبار كل جندى سورى يبقى تحت القيادة الفرنسية خائنًا يستحق الإعدام، كما طالب بعض النواب من الحكومة أن تطبق مواد الدستور التى تعتبر خائنًا كل من يتعاون مع العدو على أفراد الجيش السورى.

فأفراد الجيش السورى محكوم عليهم بالإعدام فى كلتا الحالتين سواء قتلوا مع الفرنسيين أم تركوهم وانضموا إلى الوطنيين، ولكنى أعتقد أن أغلبهم كان يفضل أن يعدم بيد الفرنسيين كخائن لهم على أن يعدم بيد الوطنيين كخائن لوطنه.

وقد بذلت الحكومة السورية جهدًا كبيرًا حتى تملك أعصابها وأعصاب الشعب، فاقتصرت مهمة قواتها المسلحة على حفظ النظام والأمن ولم يحدث يومًا أن بدأت القوات الوطنية بالاعتداء.

وقد شاهدت بعينى مظاهرة تضم حوالى أربعة آلاف شخص من الدروز ومن أهل الميدان يتقدمها سلطان الأطرش والشيخ الأشمر- والأخير بطل من أبطال ثورة 1926 اشتهر عنه أنه كان يحارب الفرنسيين وسلاحه فى يمينه والمصحف الكريم فى يساره- وكان أفراد المظاهرة كلهم مسلمين بأسلحة نارية حديثة وكان فى إمكانهم أن يهجموا على أى ثكنة فرنسية ويضمنوا الانتصار عليها أو كان يمكنهم أن يتحكموا بأى شىء فرنسى، ولكنهم لم يفعلوا شيئًا من هذا إنما ساروا فى طريقهم يهتفون باستقلال بلادهم حتى وصلوا إلى دار الحكومة حيث أطل عليهم جميل مردم بك فصاح الجميع يهتفون «نبايعكم حتى الموت» ثم ارتفعت أربعة آلاف بندقية ومترليوز وأطلقت طلقاتها فى الهواء تحية لنائب رئيس الوزراء.

وهنا طلب منهم جميل مردم بك أن يلقوا سلاحهم على الأرض فانصاعوا لأمره وألقوا سلاحهم فى هدوء.

وعلى العكس من ذلك لم تترك القوات الفرنسية طريقة من طرق الاستفزاز والإثارة إلا ولجأت إليها، وكان الجنود السود السنغاليون يتعرضون للأهالى ويشهرون السلاح فى وجوههم ويأمرونهم أن يهتفوا «تحيا فرنسا Vivele france» وكان الجميع يفضلون الموت على أن يرددوا هذا الهتاف.

وكنت واقفًا أمام باب فندق أوريان حينما لمحت ضابطًا فرنسيًا يخرج من منحنى فى الطريق ثم يصوب مسدسه على أحد رجال الدرك- وكان واقفًا فى أمان أمام دار البوليس المجاورة للفندق- ويطلقه عليه.

ولم يصب رجل البوليس، ولكن الأهالى تجمعوا على صوت الطلق النارى وهجموا على الضابط الفرنسى قبل أن يتمكن من الهرب.

وجاءت فرقة من البوليس النظامى لا لتساعد الأهالى فى قتل الضابط المعتدى بل لتنقذه من أيدهم، وفعلاً أنقذته. ومن الأسلحة التى يتسلح بها الشاب السورى زجاجات معبأة بالبترول محكمة السداد وفى سدادها فتيل يشعلونه، ثم يلقوا بالزجاجة كلها على السيارات المصفحة أو الدبابات فتنفجر وتكفى لتعطيلها وهلاك من فيها.. وهو نفس السلاح الذى استعمل فى الحرب الإسبانية!

ومن طرق الاستفزاز التى كان يستعملها الفرنسيون الإشاعات التى كانوا يشيعونها وكلها كانت تصدر من جهات فرنسية مسئولة.

وقد حدث أن أشاع الفرنسيون أنهم سيقبضون على رجال الحكومة والنواب ويعتقلونهم كما حدث أيام ثورة لبنان فى تشرين عام 1943، وقدموا لهذه الإشاعة بأن تصدوا فى الليل لدورية من رجال البوليس الوطنى وتبادلوا معها إطلاق النار.

وفى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل سمعت فى طرقات فندق أوريان- وكنت مقيمًا فيه- ضجة تصحبها صوت أقدام تجرى وصيحات تتجاوب فخرجت من غرفتى وشاهدت سعد الله الجابرى بك- وهو مقيم فى الفندق بصفة دائمة- وكان بالبيجاما والروب وحوله فريق من النواب ونزلاء الفندق والجميع يحملون فى أيديهم مسدساتهم.

وقالوا لى أن فرنسا ستقبض الآن على الزعماء والنواب، وخرجت معهم إلى دار الحكومة لنتحصن فيها ووجدنا هناك جميل مردم بك وباقى الوزراء متحصنين وراء أكياس الرمل ومن حولهم «المترليوزات» والحرس المسلح.

وانتظرنا وراء أكياس الرمل حتى الساعة الرابعة صباحًا، ولم تظهر طلائع الجيش الفرنسى، ولم تكن تمضى ساعة فى دمشق دون أن يسمع صوت طلق نارى أو انفجار قنبلة وكان فندق أوريان محل هجمات كثيرة حتى اضطر أصحابه إلى إخلاء جميع غرفه المطلة على الميدان حتى لا يتعرض من فيها للموت.

هذه هى دمشق كما تركتها.. وهذه هى المقدمات التى سبقت الانفجار الهائل، وكلها مقدمات من قبل فرنسا رتبتها وحسبت حساب كل خطوة منها واستعددت لها.

وقد زرت مطار دمشق الحربى فى يوم ما فلم أجد فيه إلا طيارة فرنسية مدنية واحدة، وزرته فى اليوم التالى مرة ثانية فوجدت فيه سرب كامل من الطيارات الحربية تحمل شارة صليب اللورين ولم يكن هناك ما يدعو إلى استدعاء هذا السرب الحربى إلى سوريا ولولا أن فرنسا كانت تضع المقدمات بنفسها وتعمل حساباً لنتائجها.

وقد قال لى سعد الله الجابرى بك أن الحكومة السورية كانت تعمل دائمًا على ألا تعطل المجهود الحربى للحلفاء، وأنها تعمدت أن تخمد القلاقل وتحافظ على الأمن حتى لا تضار وتتعطل طرق المواصلات الحربية التى تمر بالأراضى السورية.

ولكن فرنسا لم تفكر فى المجهود الحربى للحلفاء- وهى إحدى الدول الخمس العظام- بقدر ما اهتمت بوضع يدها على سوريا ولبنان ولو كان فى وضع يدها خرقًا لجميع العهود والمواثيق التى تعهدت بها مع بقية دول العالم. وقد سألت سعد الله الجابرى بك لماذا لم تشتد الأزمة إلا فى هذه الأيام؟ ولماذا لم تحاول سوريا تصفية العلاقات بينها وبين فرنسا فى الفترة التى تلت الاعتراف باستقلالها؟

وأجاب سعادته، إن الحكومة السورية لم يمضى عليها يوم واحد دون أن تحاول تصفية العلاقات وأنه حينما كان على رأس الحكومة استطاع أن يحصل من فرنسا على وعد صريح بتسليم الجيش ولكن فرنسا عادت وأخلت بعهدها- كما هى العادة- ورفضت تسليم الجيش.

وقال سعادته إن الحكومة السورية مستعدة أن تسلم جميع المصالح الاقتصادية الفرنسية إلى فرنسا لتشرف عليها بنفسها، وليس لفرنسا فى سوريا- رغم كل هذه الضجة- سوى ثلاث أو أربع امتيازات محددة الأجل.

وقال إن سوريا مستعدة أيضًا أن تسلم بنقط استراتيجية للدولة أو للدول التى يقرر مجلس الأمن العالمى تسليمها إليها.

ولكن فرنسا لا تريد أن تتناقش بالمنطق أو تؤمن بأى ميثاق أو نظام عالمى.

وسألته عن رأيه فى ميثاق الدول العربية.

فقال إن روح الميثاق تحمل أكثر مما تحمله نصوصه.

وأنه كان من رأيه دائمًا أن تصبح الأمم العربية كلها دولة واحدة لها عاصمة واحدة وحكومة واحدة وتصبح سوريا ولبنان والعربية السعودية والعراق .. إلخ محافظات أو مديريات فى هذه الدولة الواحدة وأن ما تم إلى الآن يعتبر خطوة- لا بأس بها- فى سبيل تحقيق رأيه.

وقد أقنعنى هذا السؤال أن نتحدث طويلاً عن مشروع سوريا الكبرى وهو حديث لا أعتقد أن هذه هى مناسبة نشره.

وقد لمست فى جولتى فى سوريا ولبنان كرهًا شخصيًا نحو الجنرال ديجول، وقال لى أكثر من زعيم إن المسئولية لا تقع على عاق فرنسا بقدر ما تقع على عاتق ديجول نفسه، وأنه لولا طريقة تفكيره وعقليته العسكرية التى لا تقبل التفاهم لما حدث شىء من هذا.

وهم يذكرون كل يوم كان ديجول يعيش خارج بلاده عندما كان الألمان يحتلونها وكيف احتفوا به فى ذلك الوقت عند زيارته لسوريا ولبنان وكيف مدوا له ولجيشه يد المساعدة باعتباره أحد المجاهدين فى جيش الحلفاء وأحد الذين اعترفوا باستقلال الدولتين.. فكانت نتيجة كل هذا إخلافه بوعده ومحاولته الاعتداء على حق الشعب الطبيعى فى استقلاله.

وقد قال لى كبير ذو صفة رسمية فى القاهرة أن الشعب الفرنسى ليس راضيًا عن سياسة ديجول، ولكن عدم رضاء الشعب الفرنسى لا يكفى لحل المشاكل.

 

 

 

حافظ رمضان باشا يقول: بريطانيا تسلمنا الذخيرة على طريقة البطاقات!

 

سألنا سعادة حافظ رمضان باشا عن رأيه فى الهدنة فقال:

يتحدث بعض الناس عن الوسيط ومراقبيه ويتساءلون: هل يستطيعون إحكام المراقبة حتى لا تتكرر مسألة نقض الهدنة؟ أما أنا فأعتقد أن الكونت برنادوت قد تمكن فعلا من إيجاد مراقبين فحسب، ولكنه تمكن من إيجاد البوليس الدولى الذى تشدق به طويلا المسيو «آرن» رئيس هيئة الأمم المتحدة، فقد أصبح لدى الكونت عدد كبير من الضباط والمدرعات والسفن الحربية والطائرات المقاتلة، ولا ينقص هذا البوليس إلا عدد من الجنود ليصبح للهيئة الدولية البوليس الدولى الذى فشلت فى تأليفه هيئة الأمم المتحدة، وأظن أن الامتيازات التى يغرى بها المتطوعون ستزيد من عدد المتقدمين للانضمام إلى البوليس الدولى فعددهم الآن نحو خمسة آلاف، وسيزداد عددهم بسبب هذه الامتيازات، وعندئذ يمكن القول بأن البوليس الدولى قد وجد فعلا.

 

وفى فترة الهدنة، يمكن لبريطانيا وأمريكا أن تتفقا على حل لمشكلة فلسطين، وحينئذ يستطيع الكونت، أو أى رجل غيره، أن يفرض إرادته على الطرفين بالصورة التى يرتضيها الإنجليز والأمريكيون، فالوسيط فى هذه الحالة سيكون تحت تصرف بوليس دولى أشبه بالهيئة التنفيذية.

ومن الطريف أن يذاع أن إنجلترا قد وعدت بإرسال سفن للوسيط، ولكنها اعتذرت عن تعيين مراقبين لها فى فلسطين!

 

 

 

ويخيل إلىّ أن كل ما ترمى إليه بريطانيا من هذه المناورة، أن تبعد روسيا عن أن يكون لها نصيب من الاشتراك فى البوليس الدولى، إذ إن رغبة بريطانيا فى أن ترسل سفنا حربية دون أن يكون لها مراقبون، أمر غير مفهوم، اللهم إلا إذا كانت تقبل أن ينتزع من سفنها الجنود الإنجليز والضباط، وهذا أمر غير معقول، لأن جنود السفن الحربية وضباطها هم أهم من السفن الحربية نفسها!

وعلى هذا يكون لبريطانيا قوة مسلحة فى البوليس الدولى مهما حاولت تغطية هذا الاشتراك بالمناورات.

وسألنا سعادة حافظ باشا عن رأيه فى اشتراك مصر فى حرب فلسطين،  فأجابنا على الفور:

- لقد قرأت وسمعت آراء لبعض الناس تتضارب حول اشتراك مصر فى هذه الحرب، ولا أظن أن مصر كانت تستطيع أن تتخلى عن الدول العربية فى هذه الظروف، فإن اتجاه الرأى العام العربى كان واضحا وضوح الشمس، وكان يجب إذا كان ما تدعيه بريطانيا من صداقة صحيحا أن تضع تحت تصرفنا كل ما نحتاج إليه من ذخائر طول مدة الحرب، كما يقرر الخبراء العسكريون المصريون لا أن تمدنا بالذخائر على طريقة البطاقات!

وقد بينت هذه الحرب أهمية إنشاء مصانع للذخيرة ومصانع لإنتاج السلاح ومنذ أن وعدت الحكومة عام 1936 بإنشاء مصانع للذخيرة وأنا أحاول عبثا وبشتى الوسائل أن أدفع الحكومة إلى تنفيذ وعدها، وإنى أذكر بنوع خاص أننى تقدمت إلى وزارة الدفاع الوطنى قبل الحرب العالمية الأخيرة بمذكرة بينت فيها ضرورة إنشاء مصانع للذخيرة - وقدمت لها لجنة من بولونيا كان يرأسها المسيو «آرن» - وهو الذى أنشأ لتركيا مصانع الطائرات والذخيرة.

ومن العبث أن أعود لهذا الماضى، فأبين شتى الأسباب التى دعت لإغفال هذه المسائل الخطيرة طوال هذه المدة كما أعتقد أنه من العبث فى هذه الظروف أن نخوض فى مثل هذه الموضوعات التى يجب أن تكون محل بحث ودراسة وخطة تضعها الحكومة، وتكون غير قابلة للتغيير أو التحويل أو الإبطاء فى التنفيذ مهما تغيرت أشخاص الحاكمين، إذ لا يصح أن نحل مسائلنا - ومركز مصر كما هو معروف - على أساس الارتجال!

ولولا هذا الارتجال لكانت مصر اليوم فى وضع غير وضعها الحالى، ولكانت مشاكلها - بما فيها مشكلة فلسطين - حلت من زمن بعيد!

 

 

 

استفتاءات روزاليوسف الشعب يطالب بإنشاء مصانع للذخيرة

قام قسم الاستفتاء بجريدة «روزاليوسف» باستفتاء عام وجهت فيه ثلاثة أسئلة إلى خريجى الجامعة  وطلابها وطالباتها وطلبة وطالبات المدارس الثانوية، وأعضاء النوادى الثقافية والرياضية المختلفة كالنادى الزراعى ونادى خريجى الجامعة ونادى التجارة الملكى وساهم فى عمل الاستفتاء الأساتذة: عبدالمنعم سرى الدين وحسن فخرى وأبوكارم بدر الدين وأحمد الأزهرى ومحاسن محجوب وفاطمة أبوالمكارم.

أما الأسئلة الثلاثة فهى:

1- ما هو المشروع الذى ترى أن تبدأ به الحكومة فورا بعد مشروع خزان أسوان؟

2 - هل ترى أن تنشأ وزارة جديدة بجانب الوزارات القائمة؟

3 - ما هو القانون الجديد الذى يتحتم إصداره الآن؟

وقد جاءت نتيجة الاستفتاء كالآتى:

 

وقد تضمن الاستفتاء بعض الإجابات الطريفة، نجملها فيما يلى:

 

طالب بالطب البيطرى يقترح إنشاء وزارة الصحة البيطرية.

طالب آخر بنفس الكلية يطالب بإباحة الحشيش والأفيون.

موظف بالحكومة يرى إنشاء وزارة عليا تشرف على جميع الوزارات والوزراء بمن فيهم رئيس مجلس الوزراء!

عامل يرى أن أحسن مشروع تقوم به الدولة هو تحسين الإذاعة، وأن أحسن قانون تصدره هو تحريم إصدار المجلات الأسبوعية!

موظف فى الدرجة الرابعة يرى إصدار قانون يحتم احترام القوانين التى فقدت هيبتها للتقصير فى تنفيذها!

موظف يرى إنشاء وزارة لتنفيذ المشروعات النافعة بعد البحث عنها فى ملفات الوزارة التائهة.

طالب بكلية الهندسة يرى إنشاء وزارة جديدة مهمتها اغتيال جميع الزعماء!

طالب بالأزهر يرى إنشاء وزارة مهمتها محاربة الميوعة والتخنث فى الشباب على أن تسمى «وزارة تقويم أخلاق الشباب الفاسد».

طالبة بالسنية تطالب بإلغاء الامتحانات نهائيا، وآخر يطالب بفتح ملاجئ للطلبة التعبانين الذين  يرسبون فى الامتحان.

فتاة جامعية ترى إصدار قانون بإعدام كل من يتكلم أكثر من مرة واحدة فى اليوم، لكى يرتاح العالم من جميع النساء والرجال!  

 

 

قائد الفالوجا يتحدث إلى “روزاليوسف”: الجندى المصرى محارب مثالى إذا زود بالسلاح

أوفدت «روزاليوسف» مندوبها الحربى إلى العريش لمقابلة الضبع الأسود.. أو الأميرالاى السيد طه بك، قائد القوات المصرية فى الفالوجا.

وقد قابله مندوبنا فى غرفته الخاصة، التى لا يزيد طولها على مترين، وعرضها عن متر ونصف المتر، وقد أثثت بأثاث بسيط، يتكون من «فراش» سفرى وكرسيين.

 

قال مندوبنا:

- ما هى أدق لحظة مرت بكم إبان الحصار؟

فأجاب:

- هى اللحظة التى ساءت فيها حالة الجرحى، وكانت الأدوية والأطعمة قد فرغت.. ورفض الجرحى ترحيلهم إلى مستشفى يافا العسكرى، فعندئذ وجدت نفسى أمام أبطال يفضلون الموت على الأسر.. وهطلت الدموع من عينى لأول مرة فى حياتى!

وسأله مندوبنا عن رأيه فى اليهود كمحاربين.. فأجاب:

- إنهم فى الواقع قد حاربوا كجنود مدربين تمام التدريب، فضلا عن امتيازهم بالغدر والخداع، ولكن ذلك كله يذوب ويتلاشى إذا كان خصمهم شجاعا، صبورا، يقظا.

وعاد مندوبنا يسأل:

- وما رأيكم فى الجندى المصرى كمحارب، وهل يمكن اعتباره جنديا مثاليا؟

فأجاب سعادته:

- لا يستطيع أحد أن يتجاهل شجاعة الجندى المصرى وعظمته وقوته.. هذه المميزات التى مكنته من المحافظة على تاريخه المجيد وتقاليده السابقة وتراثه الخالد.. ولكنه مع ذلك تنقصه الأسلحة ولو توافرت له الأسلحة، والرعاية الحكومية واحترام الشعب، لأصبح بغير جدال الجندى المثالى الكامل.

وسأل مندوبنا «الضبع الأسود» سؤالا فنيا عسكريا فقال له:

- هل يجوز أن يستسلم القائد لإنقاذ قواته من الإبادة والفناء، أم يتعين عليه أن يدافع حتى آخر طلقة وآخر رجل.. مع اقتناعه بفشل المقاومة؟

فأجاب:

- يجوز أن يستسلم القائد إذا كانت الظروف تستدعى ذلك، ولا عار عليه إطلاقا طالما هو قد أدى واجبه وبذل الدماء.. ولكن المهم فى الإجابة عن هذا السؤال هو أن ذلك يتوقف كثيرا على الروح المعنوية للجنود من مختلف الرتب.

ومن الأخبار التى تواردت عن القوات المصرية فى الفالوجا، أنهم كانوا يدخنون «التتن» وهو نوع ردىء من الدخان ينبت محليا فى أرض الفالوجا ويمتاز برائحة ثقيلة تزهق الصدور.

وقد قال مندوبنا للضبع الأسود:

- ما رأى سعادتكم فى «التتن»؟

وهنا ضحك البطل بملء صدره، وتنفس الصعداء وهو يقول:

- هذا سؤال يضحكنى، ويذكرنى بمأساة «التتن»! لقد كنت أفضل وكان الجميع يفضلون أن نحارب تحت أى ظروف، ولا ندخن «التتن» ولكن المزاج - كالحب - أعمى.

والمضطر يشرب التتن!

 

 

 

500 رصاصة.. قبل الهدنة!

 

كان كل شىء فى قرية عصلوج يوحى بالهدوء، كانت الحامية المصرية الصغيرة التى تحتل هذه القرية تقف على قدم الاستعداد لصد أى هجوم مفاجئ بالرغم من أن أحدا لم يكن يقدر أن اليهود سيهاجمون القرية.

 

وفى تمام الساعة السادسة من صباح الخميس 10 يونية - أى قبيل إعلان الهدنة بساعتين - قام اليهود بهجوم مفاجئ واسع استخدموا فيه مدافع الميداز والدبابات وطابورا كاملا من المشاة المزودين بالبنادق السريعة والرشاشات، وكان الهجوم قويا لدرجة أن قائد الحامية المصرية أمر بالانسحاب، وترك جاويشا مصريا واحدا وبيده مدفع رشاش ليحمى مؤخرة الحامية أثناء الانسحاب.

ووقف الجاويش البطل فوق برج القرية، يقذف رصاصه فى وجه القوات الكبيرة الزاحفة، فسقط من القوات اليهودية المتقدمة عشرات القتلى.. واضطر المهاجمون إلى الوقوف فى أماكنهم، وحاولوا مهاجمة الجاويش من الجهة الخلفية للبرج، ولكن الجاويش كان يلف حوله كأنه مارد جبار، يحصد المهاجمين برصاصه.

 

 

 

والتجأ المهاجمون إلى المدافع الثقيلة، ولكن الجاويش لم يصب، وبقيت رصاصاته تحصد المهاجمين.

فأمر قائد القوات اليهودية جنوده بالتوقف عن الزحف حتى تنتهى المدفعية من دك البرج.

وحانت ساعة وقف القتال، والجاويش المصرى لايزال يقاوم والبرج لايزال يطاول السماء، ولم يوقف اليهود القتال احتراما لشروط الهدنة، بل ظلوا يطلقون مدافعهم حتى بعد الساعة العاشرة، أى بعد موعد الهدنة بساعتين!

وفى الساعة العاشرة انهار البرج واستشهد الجاويش البطل، ولكن بعد أن أخر دخول اليهود إلى القرية واستيلاءهم عليها إلى ما بعد موعد الهدنة!

وبفضل مقاومة البطل أصبح من حق مصر أن تطالب لجنة المراقبة برد قرية عصلوج إلى قوات الجيش المصرى لأن اليهود استولوا عليها بعد موعد إعلان الهدنة.

 

 

 

 

روزاليوسف تطارد مهربى السلاح إلى الصهيونيين!

 

صمت رهيب يغلب عليه صمت الصحراء وسكون الرمال.. لا همس ولا ضجيج.. فليس هناك متسع للكلام أو الثرثرة.. ويرسل جهاز اللاسلكى صفيره المتقطع.. وعلى الفور يترجم صفيره إلى كلام ويتبين أنه أمر إلى الدوريات بالانتباه.. فالصيد قريب!

على العيون أن تفتح جيدًا.. وعلى الآذان أن ترهف السمع.. وإلا سيطر «عزرائيل» على الموقف، فمهربو السلاح قوم غدارون!

ولا يطول الصمت أو السكون، فتنطلق رصاصة من النوع الألمانى وتصيب حامل المدفع الأول.. فيخر صريعًا ويسرع الجنود وينبطحون على بطونهم.. ويأخذ كل منهم فى الاحتماء بما يتراءى له.. إن كومة بسيطة من الرمال تحميه فلا ينفذ منها الرصاص!

وتأتى طلقة ثانية وثالثة. ويعقبها أمر الضابط الثانى.. وفى لمح البصر تصير الصحراء جحيمًا.. فلقد ضغط رجال الحدود كل على زناد مدفعه أو بندقيته هكذا تبدأ المعركة عادة بين عربان الصحراء من مهربى السلاح ودوريات رجال سلاح الحدود الملكى المصرى.. وكان الأستاذ عبدالمنعم سرى الدين مندوب روزاليوسف بين جنود المعركة الأخيرة التى دارت فى الأسبوع الماضى فى مكان ما من الصحراء الغربية.

 

 

 

ذهب الصحراء

 

ما إن انتهت معركة الصحراء الغربية حتى بدأت جهود الحلفاء تتحول إلى الميدان الأوروبى، فانكمش عدد الجنود وأصبحت الصحراء شبه خاوية ولم يبق فيها إلا ما خلفت الحرب من مخازن متناثرة فى الصحراء حول كميات هائلة من السلاح والذخيرة مما تركه الألمان والإيطاليون وراءهم ومما أبقاه الحلفاء تحت الحراسة تمهيدا لنقله!

وانتهز الأعراب من ساكنى الصحراء هذه الفرصة وشنوا هجماتهم المتوالية على هذه المخازن مستعينين تارة بالظلام وتارة بالمال يقذفونه فى وجه حراس المعسكرات من جنود الحليفة الأوفياء!

وغزا السلاح الأسواق.. وصارت له بورصات.. وكثر المعروض منه وتنوعت أصنافه وبلغ ثمن البندقية الألمانية 150 قرشا والإيطالية 100 قرش!

وأصبحت طلقات البنادق فى الأفراح والأعياد والمعارك أكثر من طرقعة البمب فى شم النسيم!

وعز على اللصوص والأشقياء أن يتسلحوا بأقل مما تسلح به ويفل وجرازيانى!.. وتلفتت الحكومة فإذا بالأطفال فى الصعيد يحملون المتروليوز!

وشددت العقوبات وشنت الحملات لمقاومة هذا التيار الجارف من الأسلحة فى أيدى الأهالى، ولكن الجهود كلها ذهبت هباء وأدركت الحكومة أنها لكى تخمد النار لا بد أن تطفئها من منبعها.. فعهدت إلى سلاح الحدود الملكى المصرى بمهمة إطفاء النار من منبعها.

وما هو إلا قليل حتى اختفى السلاح.. اختفى من المعسكرات والمخازن ومن الصحراء ومن بورصاته أيضًا!

وكان العربان يدفنون ما يفوزون به من طلقات وبنادق ومسدسات ومدافع فى الرمال كلما شعروا أن رجال الحدود متيقظون منتبهون لهم!

وما إن بدت فى الفلك علامات الحرب الفلسطينية حتى أخذت بعض الهيئات والجمعيات تبحث عن السلاح وتنقب عليه فى أسواقه وبورصاته.. هيئات عربية وأخرى صهيونية.. هيئات تشترى بقروض المتبرعين وأخرى تشترى بملايين أمريكا.

زاد طلب السلاح.. وقل المعروض منه. فاشتعلت الأسعار وبلغ ثمن البندقية الواحدة من 25 إلى 30 جنيها وصار سعر الطلقة الواحدة 20 مليماً!

وعاد العربان إلى ما خبأوه تحت الرمال من ذخيرة وأسلحة.

عادوا إليها والأحلام الجميلة تلعب برءوسهم.

 

 

 

الطابور الخامس

وكان أتفه هذه الأحلام هو استمرار استخراج الذهب من جوف الرمال.. وبقاء ذلك السعر المرتفع فى بورصات السلاح!

ولكن الواقع بدد هذه الأحلام فالذهب لا بد أن ينفد فى يوم من الأيام.. ولا يبقى غير التراب والحكومة بدأت تفتح عيونها جيدا لعملاء الصهيونية ولم يبق إلا القليل من الوقت للغنى والثراء عندئذ دبت الفرقة بين المهربين، كل يريد أن يفوز بنصيب الأسد.

وكان الخلاف بينهم هو الضوء الذى أنار الطريق لرجال الحدود فاتخذوا منهم أدلاء ومرشدين يخبرونهم بالمواعيد التى تتحرك فيها القوافل.. وخطوط سيرها.

ولم يكتف رجال الحدود بهذا، وإنما اتبع نظام الدوريات التى تخترق الصحراء لمقاومتهم.

وقد يخون هؤلاء المرشدون أحيانًا.. فيضللون رجال الحدود والقاعدة التى يسير عليها رجال الحدود هى أن من يكذب مرة لا يصدق أبدًا!

وقد تغوص كتيبة الحدود فى الصحراء مئات الأميال إلى أن تعثر على «الجرة».. وهنا يبدأ العمل.. تفتح العيون جيدا فالمعركة وشيكة الوقوع!

سر «الجرة»

والجرة هى الأثر الذى تتركه أقدام المهربين وأقدام إبلهم المحملة بالذخائر والأسلحة على الرمال.. يميز رجال الحدود جرة المهربين من سواها بسهولة.. فجرة الإبل التى تحمل السلاح تكون أكثر انغماسا فى الرمال من التى تحمل بضائع عادية كالبلح مثلا.. كما تكون أقدام الرجال ظاهرة من الخف الذى يرتدونه بدل الحذاء وجرة المهربين لا تسير فى خط مستقيم ولا تظهر فى الطرق العامة التى يسير فيها تجار الواحات.. بل فى طرق خاصة يراعى فيها صعوبة سير السيارات عليها!

الحيلة

وكلما ضيق رجال الحدود الخناق على المهربين كلما تفننوا فى طرق التهريب.

فهم يعملون فى الليالى المظلمة التى يصعب على رجال الحدود تعقبهم، ويلجأون إلى بحور الرمال فيخترقونها.. وهذه البحور هى كثبان من الرمال الناعمة تغوص فيها السيارات ولا يستطيع السير فيها سوى الجمال.. وهم يحتمون بالغرود.. والغرود هى الأمكنة التى يكثر فيها نبات الحلفاء.. حلفاء المهربين المنبثين فى الصحراء.

ومن حيل المهربين، أنهم إذا أحسوا بخطر قريب جزأوا قافلتهم إلى عدة فرق.. ثم تركوا إحدى هذه الفرق تسير فى طريق الدورية حتى إذا ما عثرت عليها سلمت!

والقصد من ذلك هو أن يقتنع رجال الحدود بما ضبطوه ويعودوا.. بينما تكون بقية الفرق قد سربت إلى أسواق التوزيع.

حدث مرة أن تعطلت سيارات إحدى الدوريات العائدة من الواحات البحرية إلى بلدة البهنسا - بمديرية المنيا - ولم يكن مع الداورية جهاز سلاكى للاتصال بإحدى النقط المجاورة أو بالمركز الرئيسى لطلب النجدة وتشاور الجنود مع الضابط فى الأمر، وقد أوشكت مؤنتهم أن تنفد كما أوشك الماء أن ينفد.

وكان أن أمر ضابط الفريق أحمد أبوطالب جنوده بعدم التحرك من المكان.. وعاد هو ومعه أحد الجنود إلى البهنسا سيرا على الأقدام 150 كيلومترا فقط لا غير قطعها ماشيا ليرسل النجدة للباقين.

25 ألف طلقة بالصدفة!

 

وتدخلت الصدفة فى إحدى المرات.. فلقد تعطلت إحدى العربات وانغرست فى الرمال الناعمة.. ونزل أفراد الدورية ليرفعوا السيارة ويمهدوا لها الطريق بإزالة ما تحتها من الرمال.

ولشد ما كانت دهشتهم حينما وجدوا بين أصابعهم المغروسة فى الرمال طلقات من النوعين الألمانى والإيطالى.. وجمعوا هذه الطلقات وعدوها وكانت 25 ألف طلقة فقط!

والكميات التى قام سلاح الحدود الملكى بضبطها وحال دون تسربها إلى أيدى الأشقياء أو أيدى الصهيونيين من الكثرة بحيث يصعب حصرها.

فى ظرف أسبوع واحد - استطاعت الكتيبة الرابعة سيارات - برئاسة اليوزباشى محمد محمد شنب أن تضبط 60 ألف طلقة!

60 ألف طلقة فى ظرف أسبوع، والسنة بها 525 أسبوعا، ولقد انتهت الحرب بالصحراء الغربية منذ أربع سنوات، فهل تسمح أن تتولى أنت عملية الحساب؟!

إنك لن تملك إلا أن تصفق معى إعجابًا برجال الحدود.. بل بأسود الحدود الذين يحاربون فى جبهتين، الحشيش والمخدرات فى الصحراء الشرقية، والأسلحة والذخائر فى الصحراء الغربية!

 

 

 

كيف صدر الأمر رقم واحد الذين يتولون القيادة العامة

 

 تتولى القيادة العامة للجيوش المصرية – ومركزها القاهرة – اللواء عثمان المهدى باشا مفتش عام الجيش المصرى ورئيس هيئة أركان حرب الجيش المصرى واللواء موسى باشا لطفى قائد العمليات الحربية..

عثمان المهدى 

 ولد فى 21 فبراير 1893فعمره الآن 55 سنة تخرج فى الكلية الحربية فى أول يناير 1913وكان ترتيبه الأول وعين بسلاح الفرسان الملكى بشندى بالسودان ثم نقل إلى مصر فى الحرب العظمى واشترك فى عمليات القتتال على القتال وفى الصحراء الغربية داخل الأراضى الفلسطينية، ثم نقل إلى الحرس السلطانى، وانتدب للاشتراك فى حرب الحجاز بين العرب والأتراك وعاد بعد أن اشترك فى موقعة الطائف التى استسلم فيها الأتراك، وظل بالحرس حتى عام 1925 للملك فاروق وكان مدربا لجلالته على ركوب الخيل، وظل حتى 15 نوفمبر عام 1945، واجتاز امتحان المعهد العالى للدراسات العليا للضباط العظام بتفوق، فعين قائدا لقسم القاهرة واجتاز الفرقة التى شكلت لدراسة التنظيم الحديث للجيش فعين مفتشا عاما للجيش.

عرف بين ضباط الجيش وجنوده باسم (المحقق المدقق) لما امتاز به من دقة بحث وسعة اطلاع.

 موسى لطفي

 ولد فى أول يناير عام 1892 فعمره الآن 56 سنة وتخرج فى المدرسة الحربية فى أول يوليو 1913 واجتاز امتحان المعهد العالى للدراسات العليا للضباط العظام، وعين أخيرا مديرا للمخابرات الحربية للجيش أظهر كفاءة ممتازة مما أوحى إلى اختياره مديرا للعمليات الحربية، وهو الرجل المسئول عن الخطة العامة التى يدور بمقتضاها القتال.. 

ولم تصدم المدينة باعتراف السيد ترومان المحترم بالدولة اليهودية فسيادته معروف بأنه رجل بلا مبدأ وبلا سياسة وبلا ضمير، وأن الكرامة الأمريكية انتحرت على يديه أكثر من مرة.. وفى كل مرة كانت أمريكا هى الخاسرة.. 

 وقد اعترف مندوبو بعض الدول عندما عرض مشروع التقسيم على هيئة الأمم أن اليهود قد اجتذبوا مندوبى الدول إلى صفوفهم بالرشوة.. وتتساءل المدينة : هل استعمل اليهود الرشوة للحصول على اعتراف أمريكا بدولتهم ؟!

ولن يكون لاعتراف أمريكا بدولة اليهود تأثير على سياسة البلدان العربية وقد سبق أن هددت أمريكا الدول العربية إذا دخلت جيوشها إلى فلسطين. 

 

 وأعلن النقراشى باشا خبر هذا التهديد فى الجلسة السرية التى عقدها مجلس النواب.

ورغم ذلك فإن سياسة الدول العربية لم تتأثر ودخلت الجيوش العربية فلسطين.

وقد شاء بعض ضعاف النفوس من أهل المدينة أن يتحدثوا عن أن هذه الحرب إنما هى لحساب إنجلترا وبأسلحة إنجليزية وهذا كلام يضع صاحبه فى قائمة الخونة، فإن دخول الجيوش العربية إلى فلسطين إن كان يتمشى مع السياسة الإنجليزية هذه الأيام،  فليس معنى ذلك أنها دخلت لحساب الإنجليز، وإذا كانت الجيوش العربية قد حصلت على أسلحة إنجليزية فقد حصلت عليها بموجب معاهدات عقدت قبل أن يدور فى خلد العرب إعلان الحرب على الصهيونية.

 

 

 

 

 

 

 

روزاليوسف تقود معركة 1948 الرصاصة الأولى بعد مؤتمر أريحا!

 

فى يوم الثلاثاء الماضى، وبعد انقضاء خمسة أيام على مؤتمر أريحا، انطلقت الرصاصة الأولى فى مدينة الخليل لتستقر فى صدر السيد عبدالرحمن العزة، أحد الزعماء الفلسطينيين الثلاثة الذين دعوا لمؤتمر أريحا ونادوا بالملك عبدالله ملكا على فلسطين وشرق الأردن.. 

 وقد قتل السيد العزة لساعته، فقد استقرت الرصاصة فى قلبه !.. 

 ولكن.. من هو القاتل؟!

 هذه القصة التى تثير اليوم عرب فلسطين أكثر مما يثيرها مقتل الزعيم الخليل !

والقصة تبتدى عام 1936، عندما اندلت الثورة الفلسطينية الكبرى، كان بقلب عرب فلسطين، يحملون السلاح ضد الإنجليز وضد الصهيونيين وكان بين أبطال هذه الثورة، المجاهد عيسى البطاط، واسمه كان كافيا ليلقى الرعب بين صفوف القوات الإنجليزية.. وكان المعروف عن عيسى البطاط تشبثه ببندقيته، فقد كان يكتفى دائما، بإطلاق رصاصة واحدة.. وكانت الرصاصة لا تخطئ هدفها، بل تتجه إلى القلب لتودى بحياة كل إنجليزى أو صهيونى يوقعه القدر فى طريق عيسى البطاط!.. 

وضاق الإنجليز بهذا التأثر، وحاولوا اغتياله، ولكن جميع مؤامراتهم ذهبت مع الريح.. فلم يجد بدًا من الاتفاق مع بعض الخونة لاعتقال البطاط..

ونجح الإنجليز هذه المرة. واستشهد البطاط بعشر رصاصات أطلقت فى ظهره فى مدينة الخليل.. 

ولكن من الذى وشى بالشهيد؟!

هذه هى الحلقة المفقودة التى لا تزال حتى اليوم سرا من أسرار الخيانات التى ارتبكت فى الثورة الفلسطينية..  ولكن القصة لم تنته.. فقد كان للبطاط ولد صغير، وكان فى الثانية عشرة من عمره عندما استشهد أبوه.. وعندما بدأت الاشتباكات الأخيرة، كان الولد الصغير قد اصبح شابا، فحمل بندقية أبيه، وأخذ على نفسه أن يطلق رصاصة واحدة فى قلب كل عربى يخون القضية العربية..

 

 

 

وكانت الرصاصة الأولى هى التى أصابت قلب السيد عبدالرحمن العزة يوم الثلاثاء الماضى.

 والسيد عبدالرحمن العزة هو من كبار أثرياء الخليل، وقد اتهم أكثر من مرة أنه باع بعض أراضيه لليهود، وهو من أكبر أنصار صاحب الجلالة الملك عبدالله.. 

 وكان هذا كافيا فى رأى البطاط الصغير، ليعتبر عبدالرحمن العزة من الخونة!!

 

 

 

 

روزاليوسف نشرت خطة اليهود لحرب 67 قبلها بعشرين عاما اليهود

كتبت جريدة «لاريبوست» الصهيونية التى تصدر باللغة الفرنسية بباريس تقول: إن الأيدى العاملة ناقصة فى دولة إسرائيل المزعومة وتزيح الستار بهذا عن حقيقة يجب أن يعرفها العرب وهى أن معظم اليهود الذين أرسلوا من جميع أنحاد العالم إلى الدولة المزعومة هم من الشبان الأقوياء الذين يصلحون للخدمة العسكرية وقد سافروا إلى دولتهم المزعومة للاشتراك فى الحرب لا للاشتراك فى الأعمال العمرانية كالزراعة والصناعة والتجارة.

وتقول لاريبوست إن هؤلاء الشبان إذا سرحوا من الجيش سيصبحون عالة على الحكومة الصهيونية لأنهم يرفضون العمل فى الزراعة والصناعة وغيرهما.

وتضيف لاريبوست إلى هذا أن دولة إسرائيل المزعومة ستواجه أزمة شديدة بسبب هؤلاء الشبان فإذا احتفظت بهم جنودًا فى الجيش كان هذا عبثًا ثقيلاً يكلفها ملايين الجنيهات فى الشهر، وإذا سرحتهم فستضطر إما إلى الإنفاق عليهم وإما أن تعيدهم إلى بلادهم وهذا مالا يمكنها أن تفعله.

وتتساءل الجريدة ماذا ينوى المسئولون أن يصنعوا بهؤلاء الشبان الذين يقولون:

لقد جئنا إلى فلسطين لكى نفتحها ونحتل جميع أراضيها ونضم إليها شرق الأردن وجزءًا من سيناء وسوريا ولبنان وها أنتم اليوم تطلبون منا أن نلقى السلاح قبل أن تتحقق هذه الأغراض؟

 

 

 

عبدالمنعم السباعى إلى اللقاء.. فى تل أبيب!

عزيزتى درية!!

إنه الخطاب الأول الذى ستخلو سطوره إليك من تأوهات الغرام وصرير القبلات، لن أحدثك  عن حبى فهو أنبل من أن أجعله مشاعًا تلتهمه أعين كل قارئ يدفع ثمن المجلة بل سوف أحدثك عن السياسة أو فن الدجل كما سماها احذر عماء مصر المراهقين!!

لن أحدثك عن أسطورة الجلاء- فأنا أعرفك- كزعمائنا الدهاة.. لا تؤمنين بالأساطير ولن أحدثك عن الحالة الاقتصادية فى مصر لأنها بايخة ولا عن إضراب الطوائف لأنها مسألة تحركها يد مغرضة كما تقول الحكومة، ومسألة كافية جدًا لإقالة الوزارة الحاضرة كما تقول المعارضة.

إن كل هذا وأكثر منه قد يبدو تافهًا وضئيلاً لو وضع بجوار مأساة الشهيد فلسطين!

لقد اقتنعت أخيرًا بأننا شعب فاشل مخدوع يقصر جهاده فى أموره الحيوية على خطب تافهة تلقى من شرفات الفنادق المترفة، أو مقالات ملتهبة لصحفيين كل حماستهم حبر على ورق.

ومازلت أذكر ذلك اليوم الذى سارت فيه الجماهير غداة تقسيم فلسطين فى ثورة واستنكار، وقصدت فندق شبرد لتسأل زعماء الدول العربية عن حل معقول أو مجنون لمقاومة مطامع الصهيونية.. فكان الجواب خطب حماسية وولائم وحفلات!

ومرت أيام ومازال الجهاد فى فندق شبرد ولم ينتقل بعد إلى ميدان الشرق الأوسط!

ونظرت إلى الوزارة الحاضرة فاتهمتها بالفتور والتراخى فى قضية فلسطين، فاتجهت بأفكارى مضطرًا إلى حزب الوفد حزب الأغلبية كما يدعى، والمدير الفنى للأمة المصرية فماذا وجدت؟!

وجدت يا عزيزتى أن نشاط الوفد كله ينحصر فى بيانات من «منازلهم» ودعوة الشعب إلى الجهاد لإسقاط الحكومة لأن النقراشى صهيونى.

 

 

 

 

تركت الوفد ساخطًا وذهبت أفكارى إلى الأحرار الدستوريين الحزب الأرستقراطى المدلل، فوجدت نشاط الأحرار وجهادهم ينحصر فى إسقاط وزير سعدى، وإحراج رئيس الحكومة، وشقلبة رئيس الديوان.. إن أمكن!!

وتركت الأحرار العبيد والدموع فى عينى، وأسرعت أعدو إلى الحكيم مكرم فوجدته يقبل أحد أتباعه فلم اهتم بمسائله الشخصية ووقفت انتظر.

ومرت لحظات انتهى فيها مكرم من مشاكله القلبية، ثم دعا أفراد فرقته- أقصد أعضاء حزبه- فتفاءلت وأيقنت أن «الرجل» سيبحث معهم فى أفضل الطرق لإرسال العتاد والأسلحة إلى فلسطين، وخاب أملى عندما وجدت الاجتماع قد انتهى بكتابة «عريضة» لرفعها إلى السراى لإقالة الوزارة الحاضرة!

وشعرت بالأسى وبرغبة ملحة تدفعنى إلى أن أجهش بالبكاء.. أن كرسى الحكم هو المركز الوحيد الذى تدور حوله أفكار غير بريئة لزعمائنا الكرام!، أما فلسطين فلها رب اسمه الكريم!

أين الجيوش وأين الأسلحة وأين الرجال؟! إنها موجودة على صفحات الجرائد وفى التمنيات القلبية وذلك أضعف الإيمان!

وحتى الصحف والمجلات وجدت أن الكلام عن فلسطين أصبح نغمة قديمة فقدت لذتها عند القراء، وأصبحت عاملاً خطيرًا يهدد مقطوعية البيع، فتركتها مضطرة وأفسحت صفحاتها للصور العارية المثيرة، ولأفضل التجارب، فى عمل مربة الأرانب! وللمقالات التافهة من نوع «جمالك.. يا سيدتي!» وحمى فقد منى وليس على ديون لأحد!

ورأيت أن الحماسة التى أشعلها قرار التقسيم فى صدور الشعوب العربية، قد أطفأتها إلى حد ما فلسفة الزعماء والقادة ومطامعهم الشخصية وبعد نظر نورى السعيد باشا، وشرق الأردن!!

ومازلنا ننتظر، ننتظر انتهاء الزعماء من حفلاتهم وولائمهم، والصهيونية لا تنتظر! والدماء تسيل أنهارًا فى فلسطين، والسلاح يتدفق كالسيل على اليهود هناك، ونحن جلوس هنا نبحث عن الفرق بين كلمة يهودى وصهيونى،وهل هناك فرق.

ونظرت إلى أغنيائنا الكبار أمثال عبود وكوتسيكا والبدراوى الذين تبرعوا لنادى العلمين فلم أرهم لا عن ضعف فى نظري- لا قدر الله- بل لتفاهتهم وصغرهم! إن كل الذين تبرعوا هم الطبقة الفقيرة الكادحة، أما أصحاب العزب والتفاتيش فمازالوا ينتظرون الوحى من قصر الدوبارة!!

عزيزتى درية!!

لم يكن فى استطاعتى أن أنظم الكون، بل كان فى إمكانى أن أقوم بواجبى كرجل عربى يفخر بعروبته، واختمرت الفكرة فى رأسى فنفذتها فورًا، واتخذت طريقى إلى فلسطين!

لم أسافر بمفردى فمعى صفوة من شباب مصر الجاد الذين لا تنقصهم شجاعة الفكرة ونبل الغرض.

إنها رحلة خطرة لن تكلفنى سوى حياتى وما أتفهها، وكم أشعر بالأسى والخجل لأننى لا أملك غير حياة واحدة سوف أهديها إلى فلسطين!