الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ثلاثة أسئلة على ألسنة الناس: ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ وماذا يجب أن نفعل الآن..؟

على ألسنة الناس فى هذه الأيام ثلاثة أسئلة، لا رابع لها، ماذا حدث؟ وكيف حدث؟ وماذا يجب أن نفعل الآن؟ وفى أيام القتال لم تكن لدى الناس أسئلة، لأن الرصاص كان يجيب عنها قبل أن تولد، ولأن الكلام كان آخر ما يهم فى المعركة.



ولكن الرصاص الآن سكت وأصبح الكلام أول ما يحتاج إليه الناس، وأول ما ينتظرونه وأول ما يلحون فى طلبه.

 

سؤالان.. والثالث

ماذا حدث؟ هكذا يسألون جميعًا.. وستجيب عن سؤالهم فى المستقبل عشرات من الكتب والدراسات والأبحاث.. ولكن من الممكن تلخيص ذلك كله من الآن فى جملة صغيرة واحدة تغنى عن كل بيان، لقد هزمنا عسكريًا فى معركة سيناء.

وكيف حدث ذلك؟ هذا هو السؤال الثانى.. وستجيب عنه فى المستقبل أيضا عشرات الكتب والدراسات والأبحاث.. ولكننا من الآن يمكن أن نلخصها فى كلمات: قوى الاستعمار تحالفت علينا، وقوانا وقعت فى بعض أخطاء.

أما - ماذا يجب أن نفعل الآن.. فهو السؤال الذى لن تصدر كتب تجيب عنه، ومع ذلك فهو السؤال الأهم لأنه لا يتعلق بالماضى، كالسؤالين السابقين وإنما يتعلق بالمستقبل.

إعادة النظر

إن الإجابة عن هذا السؤال يمكن تلخيصها فى كلمات تقول باختصار:

- علينا اليوم أن نعيد النظر فى كثير من جوانب عملنا.. لكى يحقق هدفين أساسيين، هما: إدراك درس النكسة، وإزالة آثار العدوان..

وليست هذه الكلمات طبعًا من عندى، وإنما هى مأخوذة من رسالة جمال عبدالناصر إلى مجلس الأمة.. وعن البيان الذى ألقاه على الشعب ليلة قرر أن يتنحى عن القيادة.

ولكن كلمات عبدالناصر الموجزة هذه تتسع لتفصيلات كثيرة، يجب أن تقال اليوم لكى يكون الجواب شافيًا بالنسبة لجماهير الناس.

ولننظر الآن فى بعض هذه التفصيلات تحت نفس العناوين التى اختاها جمال عبدالناصر.

1 - خرافة «العطف» الأمريكى

تحت عنوان «إدراك دروس النكسة».. وضع عبدالناصر فى المقدمة: إن القضاء على الاستعمار فى العالم العربى يترك إسرائيل بقواها الذاتية.

فما الذى يجب أن نعيد فيه النظر لكى ندرك هذا الدرس؟

إنه باختصار، تصورنا للعلاقة بين إسرائيل وأمريكا، فنحن قد عملنا بأوائل أعوام الثورة على أساس أن إسرائيل بلد له نفوذ فى أمريكا.. ومن الممكن أن نحارب هذا النفوذ، وأن نجبر أمريكا على إعادة النظر فى تأييدها لإسرائيل وليس علينا لكى نحقق ذلك إلا أن نتفق على الدعاية للعرب فى أمريكا.. وفى بلدان الغرب الخاضعة لها.. وأن نجرد «الأمريكيين المساكين» من سلطان الفكر الصهيونى عليهم.. إلى آخر هذا الكلام الذى احترفت ترديده كثير من الأقلام، حتى جعلته يرسخ فى الأذهان كحقيقة واقعة.

ولكننا طوال هذا الوقت كنا نعمل فى طريق مسدود.. وكنا ننفق فى بالوعة، لأن الحقيقة أن أمريكا ليست خاضعة لنفوذ إسرائيل، وإنما إسرائيل هى الخاضعة لنفوذ أمريكا، فهى قاعدة كقاعدة «هوبلس» فى ليبيا.. لا تختلف إلا فى أن موظفيها من اليهود وأنها تتخذ صفة الدولة وتتمتع بهذه الصفة فى هيئة الأمم.

نعم، كان يهود العالم يحلمون بإقامة إسرائيل هذه منذ وقت بعيد.. ولكن اليهود الذين أقاموها فعلا أصحاب ملايين لم يذهبوا فى حياتهم إليها، ومازالوا حتى هذه اللحظة يقيمون فى أوطانهم الأصلية، فهى بناء أقاموه فقط لكى يستثمروا فيه نقودهم، ويستخدموه لضرب حركات التحرر وهم يضعون على هذا البناء لافتة يهودية، لمجرد أن يستروا حقيقته الأمريكية، وأن يتخذوا من «المشكلة اليهودية» مبررًا لإقامته والمحافظة عليه.

وهكذا.. عندما شرعنا نجابه إسرائيل وجدنا أنفسنا نجابه أمريكا.

وكان الدرس بليغًا.. وكان يقول: ليست إسرائيل إلا لافتة لأمريكا، علقتها على قاعدة لها فى الشرق الأوسط، ولن تقتلع اللافتة من الشرق العربى إلا يوم يقتلع صاحبها.. وكل تصور غير هذا وهم، أو خديعة مقصودة.

2 - الاستعمار قوى.. بنا نحن!

وتحت عنوان «دروس النكسة» أيضا لخص عبدالناصر الدرس الثانى بقوله إن من الضمانات الأولية إعادة توجيه المصالح العربية فى خدمة الحق العربى.

والدرس هنا لا يفرض علينا نحن إعادة النظر، وإنما يفرضها على إخواننا العرب، يفرضها على ملاك البترول.. فهم أثناء المحنة قطعوه عن العدو، ولكنه لم يكترث.. استخدموه سلاحا ولكن المؤامرة كانت أكبر منه، وكان الاستعمار قادرًا على أن يستغنى عنه فترة من الوقت، فمن أين للاستعمار هذه القدرة؟ من أين له هذا الثراء الذى يتحمل خسارة البترول عدة أسابيع أو عدة أشهر؟ إنه من هذا البترول نفسه! فالاستعمار قوى بما اختزن من هذا البترول وما باع منه.. وطائراته التى ذبحت العرب كانت تطير بهذا البترول، وقنابله وصواريخه حصل على تكاليفها من ثمن هذا البترول.. والدرس هنا واضح يشرح نفسه.

إذا كان العرب يريدون حقًا أن يجابهوا الاستعمار، وأن يتحرروا منه، فالخطوة الأولى هى إضعافه وأضعف الإيمان فى هذا السبيل هو حرمانه على الأقل من «الفيتامينات البترولية» التى يلتهمها من أرض العرب، ويتقوى بها ضدهم، ويزداد ثراءً على حسابهم، وينمى بها أنيابا يستخدمها فى تمزيق لحومهم!

ولكن هذا ليس كما قلت إلا «أضعف الإيمان».

فالثراء الذى يمتصه الاستعمار من دم العرب ليس بترولاً كله.. وإنما للاستعمار شركات أخرى، تمتص العمل العربى وتحوله إلى ذهب فى خزائن لندن وواشنطن، وله على أرض العرب أسواق يبيع فيها كميات هائلة من منتجاته.. ويجنى منها مزيدا من الذهب الذى ينفقه على ضربنا.

ولا مفر من الاعتراف بأننا.. نحن العرب، قد سهلنا للاستعمار كثيرًا أن يواصل هذا النهب لنا، فكثير من البلاد العربية لا تبيع إلا له.. ولا نشترى إلا منه.. ومازال لدينا - حتى فى الجمهورية، العربية - فنيون احترفوا تفضيل السلع الغربية على مثيلاتها فى البلاد الاشتراكية ووضع التقارير التى تبرر ذلك.. وإذن فنحن فى الواقع نزود الاستعمار بأضعاف ما يكسبه من البترول.. وهذه القوة التى يتمتع بها يمكن أن تصاب بضربة قاصمة إذا نحن لم نجرده من البترول فقط، وإنما إذا فرضنا عليه أيضا مقاطعة اقتصادية شاملة. 

3 - قضية العرب الواحدة

أما الدرس الثالث من دروس النكسة فلا يحتاج فوق ما قاله عبدالناصر إلى شرح كثير.

قال عبدالناصر: إن الأمر الآن يقتضى كلمة موحدة تسمع من الأمة العربية كلها.. ولا يحتاج أى مواطن عربى إلى أية إضافة على هذا الكلام.. فالواقع الآن يقول إن إسرائيل توسعت وتحت سلطانها أراض عربية كثيرة.. وإسرائيل لا تنوى أن تتوقف عن التوسع والاستعمار لا ينوى أن يتوقف عن مساعدتها على تحقيقه.. والمشكلة الآن ليست حول «أى نظم الحكم أنفع للعرب».. وإنما هى حول سؤال آخر: هل يكون العرب أم لا يكونون؟ هل تبقى للعرب دول، أم تختفى كلها وتمتد إسرائيل من النيل إلى الفرات؟

وكل خلاف يصرف العرب اليوم عن هذا السؤال ويؤخر إعلان كلمة موحدة لهم.. إنما يمهد لنفس ما حدث لأهالى بيزنطة.. الذين ظلوا يجادلون بعضهم بعضًا إلى أن دخل العدو عليهم وأعفاهم من الجدل.. ومن البقاء!

4 - إزالة آثار العدوان

تبقى بعد ذلك المهمة الثانية، التى أجاب بها عبدالناصر عن سؤال: «ماذا نفعل الآن»؟

والمهمة - كما حددها بكلماته - هى إزالة آثار العدوان.

وهنا لا مفر من أن نفصل بين الآثار النفسية، والآثار المادية، ولا مفر من كلمة تقال عن كل من هذين الجانبين.

فمن الناحية النفسية: كان واضحًا أن جماهيرنا دربت طوال الخمسة عشر عاما الماضية على الانتصارات، ولم تدرب على الهزائم.

وقد جعلها توالى الانتصارات تدخل المعركة باستخفاف بالعدو، وتهوين من شأنه، وتساهل فى أداء المهام اللازمة للنصر، فلما جاءت الهزيمة العسكرية كانت الصدمة مفاجئة لها.

والذى يجب أن نعيد النظر فيه هنا،. هو بالتحديد:

خطنا فى التوعية

فالتركيز الأساسى فى معظم مواد التوعية، وفيما تذيعه أجهزة الإعلام لم يكن أبدا على المهام والمشاق التى يحتاج إليها البناء، أو على الأخطار التى تتهدده، أو على النار التى لا حلاوة بغيرها، وإنما كان التركيز دائمًا على النجاحات.

واليوم يجب أن يصوب هذا الخطأ.. يجب أن يكون الخط الأساسى للتوعية فى اتجاه إيقاظ عناد الشعب.. وإعداده للثمن الذى يجب أن يدفعه لقاء كل انتصار يسعى إليه.. لا أن يكون الخط - كما كان فى الماضى - فى اتجاه إرضائه فقط، وإعداده لتلقى أنباء الانتصارات وتهنئته عليها.

وبعبارة أخرى.. يجب أن تكون التوعية إيقاظا لنزعة البذل فى نفس المواطن، لا إشباعًا لنزعة الاستمتاع بالثمار! ومن الناحية المادية: لا يمكن أن تزال آثار العدوان إلا بإطلاق طاقات العمل على أشدها، دون قيود: فنحن فقدنا فى الحرب كثيرا من الأموال وليست هناك قوة يمكن أن تعوض هذه الخسارة، من الناحية الإنتاجية.. إلا حماس العاملين.

وحماس العاملين طاقة أقوى كثيرا من طاقة الآلات والخامات والعبقريات الإدارية.. وفى أيام المعركة ثبت أن بعض المصانع التى هبط عدد العاملين فيها لذهابهم إلى الجبهة استطاعت فى غيابهم أن ترفع مستوى الإنتاج، ولكن هذه المصانع «وعندى أسماؤها» كانت كلها من النوع الذى يجرى فى داخله عمل سياسى نشط.

فحماس العاملين طاقة لا يمكن أن يحركها إلا العمل السياسى.

وهذه الحقيقة تفرض علينا اليوم أن نعد النظر طويلاً - وطويلاً جدًا - فى العلاقة ما بين الإدارة والعمل السياسى. فقد تكرر الكلام كثيرًا عندنا عن ضرورة استقلال الإدارة عن التنظيمات السياسية، وعن «إطلاق يد المديرين بغير قيود» فى نظير محاسبتهم عن النتائج، وهو كلام سليم من الناحية النظرية، ولكنه لا يثمر عمليًا إلا إذا كان المديرون من الناحية السياسية يقفون مع الاشتراكية بنفس الإصرار والحماس والاستماتة التى تقف بها جماهير العاملين، فهل هذا هو الوضع عندنا؟

الواقع يقول إننا لفقرنا فى الكفاءات الإدارية - نستخدم كثيرين من الناس يقفون من الاشتراكية موقف الحياد.. أو يميلون إليها ولكن لا يشعرون بها كقضية حياة أو موت.

والواقع يقول إن من أكفأ هؤلاء الناس أشخاصا لا يحبون - من زاوية المصلحة الإدارية - أن يسمحوا فى مؤسساتهم بنشاط سياسى.. بل منهم من يعاقب بالسلطة الإدارية كل عامل له دور سياسى.. ويرفض أسماء اللجان القيادية ويضرب بقسوة على يد كل من تسول له نفسه أن «يتسلل بالعمل السياسى إلى حقل الإنتاج».

واليوم لا مفر من أن نقول بصراحة: إن أية زيادة جدية فى الإنتاج، لمواجهة خسائر العدوان، لن تتحقق إلا بعمل سياسى جدى فى جميع المؤسسات.. عمل إما أن يحترمه المدير، وإما أن يحمل محفظته تحت إبطه ويرحل!

فكفاءة المدير قد ترفع الإنتاج عشرين فى المائة، ولكن حماس العاملين يمكن أن يرفعه خمسين فى المائة، والمدير الذى لا يؤمن بالعمل السياسى ولا يستند إليه، ولا يستطيع أن يثير حماس العاملين من حوله.. إنما يحرمنا من الخمسين فى مقابل العشرين!

وعندما يكون هدف العمل إزالة آثار عدوان، واستعادة القوة للثأر من المعتدين.. فمن الصعب أن نتصور إمكان استثارة العاملين بغير طريق العدل السياسى، والعمل السياسى وحده.

هذه باختصار بعض الجوانب التى يجب أن نعيد فيها النظر إذا شئنا أن نلبى نداء عبدالناصر إلى استيعاب دروس النكسة، وإزالة آثار العدوان.

ولست أدعى أننى بالإشارة إلى هذه الجوانب ناقشت كل شىء، إنما هى مساهمة متواضعة.

والباب مفتوح للجميع.. يضيفون من كنز خبراتهم مساهمات أغنى.. وصفحات هذه المجلة على استعداد لأن تكون منبرًا لهم.. وناقلاً أمينًا عن خبراتهم.