الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ديمقراطية السدّ العالى

يقولون عنا أننا من البلاد المتخلفة اقتصاديًا، ولكننا فى نفس الوقت من أرقى البلاد المتخلفة إن صح هذا التعبير! مستوى دخل الفرد عندنا أعلى منه فى الهند وبورما والصين ودول وسط وشمال غرب أمريكا الجنوبية، وهو أعلى أيضًا من مستوى دخل الفرد فى أغلب دول أفريقيا.



ومع ذلك فنحن نواجه مشكلة معقدة، فالصعوبات التى تقف أمامنا أخطر بكثير من الصعوبات التى تواجه أى بلد آخر.

ومشكلتنا بسيطة لا يستعصى على أحد فهمها، ولكنها فى بساطتها أعقد من أن تحل!

فالموارد الأساسية للإقليم الجنوبى هى الأرض الزراعية، وهى أرض محدودة، ويقابلها تضخم فى عدد السكان، ومن هنا نشأت المشكلة أو الأزمة.

الأفواه التى تريد أن تأكل تتزايد وكمية الطعام لا تزيد، الأيدى العاملة تتكاثر، والأرض التى تحرثها هذه الأيدى لا تزيد، أننا أشبه بأسرة تعيش فى شقة ضيقة، وكل عام يمر، يضيف إلى هذه الأسرة أعضاء جددًا ولا يضيف موارد جديدة.. فنتساءل فى قلق، كيف يأكل ويلبس ويعمل هؤلاء الضيوف الجدد.. بل نتساءل كيف يسكنون وكيف يتحركون فى هذه الرقعة المحدودة من الأرض التى نعيش فيها.

إن كل فرد له حوالى ربع فدان من الأرض المزروعة، وهى نسبة ضئيلة جدًا، لا تقارن بنسبة توزيع الأرض المزروعة على السكان فى أفقر مناطق آسيا، حيث لكل فرد حوالى ثلث أو نصف فدان، وهى نسبة لا تقارن بتوزيع الأرض المزروعة فى أوروبا حيث لكل فرد حوالى فدان، أو فى روسيا حيث لكل فرد حوالى ثلاثة أفدنة، أو فى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لكل فرد حوالى أربعة أفدنة.

إن 70 فى المائة من سكان الإقليم الجنوبى يعيشون على الزراعة، ويحصلون على دخلهم منها، وعلى الرغم من ذلك فنحن فى حاجة إلى استيراد الطعام من الخارج.. نحن فى حاجة إلى استيراد القوت الضرورى،وهو القمح الذى نصنع منه الخبز!

ونحن لا نستطيع أن نزيد من كفاية إنتاج أراضينا الزراعية بنفس نسبة تزايد السكان، فالأرض الزراعية تستغل إلى أقصى حد، ووسائل الرى والصرف فيها على مستوى عال، وقد تعودنا استخدام الأسمدة بكثرة، فاحتمال زيادة المحصول بالتحسينات العلمية محدود، وفى الوقت نفسه نسبة إنتاج المحاصيل تقل بصورة مزعجة إذا قارناها بنسبة تزايد السكان.

لقد تضاعف عدد السكان من عام 1897 إلى عام 1952، وفى هذه الفترة زادت الأرض المزروعة بنسبة 16فى المائة فقط، وزاد إنتاج المحاصيل بنسبة 37 فى المائة فقط.

وليس هناك ما يدل على أن نسبة تزايد السكان فى المستقبل ستنخفض.. بالعكس، هناك احتمال فى ارتفاع نسبة تزايد السكان، نتيجة تقدم الرعاية الصحية، التى تؤدى إلى تقليل الوفيات بين الأطفال، وإطالة عمر الكهول.

وكل ما يأمله خبراء الزراعة، هو زيادة الإنتاج الزراعى من الأرض المزروعة حاليًا بنسبة 25 أو 30 فى المائة، وذلك باتباع أحدث الوسائل، وبذل الجهود الجبارة لتحسين الرى والصرف والاعتماد بصورة أكبر على الأسمدة ومقاومة الآفات الزراعية، والعناية بتخزين المحاصيل واختيار أحسن أصناف التقاوى.

هذه الإحصاءات التى ذكرتها، نقلتها عن كتاب «المصادر البشرية للمشروعات المصرية» الذى كتبه «فردريك هاريسون» الأستاذ بجامعة برنستون الأمريكية بالاشتراك مع إبراهيم عبدالقادر إبراهيم بوزارة التخطيط بالجمهورية العربية. وقد نشر الكتاب فى عام 1958.

إن هذه الإحصاءات تواجهنا بالحقائق السافرة، إن مشكلتنا الرئيسية اليوم، هى مشكلة البقاء، مشكلة العثور على لقمة العيش، مشكلة الملايين الذين نريد أن نحررهم من هذا الفقر الذى عانوا منه على مر القرون والأجيال.

إننا نكون حمقى،لو خدعتنا مظاهر المدن الكبيرة فى بلادنا، بما فيها من فنادق فاخرة، ومحلات فخمة فيها أزياء باريس، وشوارع واسعة تنطلق فيها أحدث موديلات السيارات الأمريكية، وإضاءة حديثة، ومحطات للبنزين، ومحلات لشرب الشاى وأكل الجاتوه.

فماذا نصنع؟.. ما هو العلاج؟

العلاج الحاسم.. العلاج الوحيد.. هو فى أن نحرر الملايين أولاً من حاجتهم الملحة إلى لقمة العيش، لا يمكن أن تتحقق لنا حرية، ولا ديمقراطية بغير هذا الطريق.. لابد أن نقف جميعًا متكاتفين فى مواجهة هذا الخطر الذى يزحف علينا يومًا بعد يوم.

الذى يطالب بالديمقراطية السليمة، عليه أن يطالب بمشروع يحصل منه الناس على حاجاتهم الضرورية. 

إن الديمقراطية لا يمكن أن تكون قاصرة على الطبقة التى تسكن العمارات والفيللات وتركب السيارات الخاصة أو حتى تركب الأتوبيس والترام.. الديمقراطية يجب أن تمتد إلى سكان الأكواخ الذين يمشون حفاة على الأقدام والذين لا يزيد دخلهم على عشرة جنيهات أو أقل فى العام!

إنه منظر مخجل، غير أخلاقى،أن يثور تاجر من أجل حريته فى أن يحصل على أكبر قدر من الأرباح، بينما مشكلتنا الأساسية هى كيف نحصل على القوت الضرورى لملايين الناس!

الشىء المنطقى الوحيد فى مثل ظروفنا، هو أن نتجه إلى الإنتاج، وأن نحاسب الدولة على مجهوداتها فى دفع عجلة الإنتاج، وأن نحاسب أنفسنا على ما نفعله من مجهود فى زيادة الإنتاج.

وأمامنا ميدانان كبيران للإنتاج.. الصناعة والزراعة.

أما الصناعة فهى ضرورية لضمان استقلالنا الاقتصادى حتى لا نعيش عالة على الغير خاضعين لمشيئته، وحتى نحمى استقلالنا السياسى.. ولكن الصناعة لن تعالج مشكلة تزايد السكان بطريقة حاسمة، لأن المفروض أن يكون التصنيع بأحدث الآلات، حتى يستطيع أن يقف على قدميه، والآلات الحديثة بطبيعتها توفر الكثير من الأيدى العاملة، إذ تقوم الآلة بما يقوم به عشرات العمال.

لذلك، التصنيع ليس هو كل شىء.. فلابد إلى جانبه من الاهتمام بزيادة مساحة الأرض الزراعية.

ومن هنا جاءت أهمية السد العالى.. كمشروع ضرورى.. مشروع من أجل البقاء والحياة، لأنه سيوفر طاقة ضخمة تستغل فى الصناعة، كما سيزيد فى نفس الوقت من مساحة الأرض المزروعة بحوالى 25 فى المائة.

وأول أمس رأينا منظرًا تاريخيًا نادرًا فى حياة أمتنا، أطلق الرئيس جمال عبدالناصر قوى العمل وأعلن البدء فى تنفيذ بناء السد العالى.

لقد أطلق الرئيس فى نفس الوقت قوى العمل لبناء دميقراطيتنا الحقيقية واشتراكيتنا السليمة، ومستقبلنا الذى تتحقق فيه كل المبادئ التى نعتز بها لكرامة الإنسان.

لأن وراء بناء السد العالى، أفواهًا ستأكل، وأيادى ستعمل.. وأهم من ذلك ستتحقق الحرية الحقيقية لملايين الناس.