الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

‎ملحمة الوداع

فجأة.. كف عن النبض قلب مصر!



كف فى السادسة والربع من مساء الاثنين الحزين - 28 سبتمبر 1970.

وعاشت القاهرة.. والعالم.. ساعات من القلق والتوجس والتساؤل.. عندما ظلت جميع موجات الإذاعة تذيع القرآن الكريم فقط.

ثم أخيرًا أعلن النبأ:

مات جمال عبدالناصر.

كانت المفاجأة أول الانفعالات، فمنذ ساعات قليلة، وفى الثالثة والنصف بعد ظهر نفس اليوم كان الرئيس يودع آخر أعضاء مؤتمر القمة العربية أمير الكويت، وذلك بعد عشرة أيام كاملة ومضنية استغرقها المؤتمر للوصول إلى تسوية للأزمة الدامية التى نشبت فى الأردن بين المقاومة الفلسطينية والحكومة الأردنية.

وبعد صرخة المفاجأة صمت هائل، وتحولت مصر فى دقائق إلى مأتم كبير لا يسمع فيه سوى صوت القرآن ونشيج البكاء وزفرات الألم وكلمات العزاء والمواساة.. وعدم التصديق.

ونزلت الجماهير إلى الشارع تستطلع النبأ وتسعى إلى مزيد من التفاصيل.. والاتجاه نحو كوبرى القبة.. منزل عبدالناصر.. وكان ذلك بداية لموكب تشييع جنازة جمال عبدالناصر الذى استمر فى شوارع القاهرة والأقاليم.. وكذلك فى العواصم العرابية ثلاثة أيام كاملة انتهت بدفن الجثمان الطاهر ظهر الخميس أول أكتوبر 1970.

لم يستطع أى إنسان أن يحبس الدموع أو يقاوم الانهيار والبكاء.. فكلما انحسر ألم المفاجأة كانت تزداد آلام الإحساس بالمصيبة المروعة التى أصابت المصريين والعرب والعالم أجمع.

وفى القاهرة.. كان الجميع يحاولون بسرعة ومن خلال الدموع والألم التنبه إلى أن خير ما يقدمه الجميع للقائد والزعيم هو الاستمرار.. والاستمرار على مبادئه من أجل مصر.

وكانت الإجراءات الرسمية.. إعلان تولى أنور السادات منصب الرئيس المؤقت للجمهورية طبقا للدستور.. وبدأت الاجتماعات المستمرة للجنة التنفيذية العليا ومجلس الوزراء.. وإعلان الحداد 40 يومًا والاستعداد لاستقبال وفود رؤساء الدول وملوكها والوفود الشعبية التى أعلنت عن مشاركتها لمصر فى تشييع جنازة قائد العرب وزعيمهم.

وبدأت تتضح ردود الفعل فى عواصم العالم أجمع، فأصدرت موسكو قرارا بتشكيل وفدها لتقديم العزاء بعد ساعات قلائل من إعلان النبأ.. وعلى رأس الوفد كوسيجين رئيس الوزراء.. وأعلن نيكسون من على ظهر «ساراتوجا» حاملة الطائرات الأمريكية فى البحر الأبيض المتوسط أن العالم فقد زعيمًا بارزًا.

وفى الأردن كانت الجهود تبذل لتنفيذ اتفاق القاهرة آخر أعمال جمال عبدالناصر.. وبدأت اللجنة العليا للإشراف على اتفاق القاهرة أعمالها. ولم تتورع إسرائيل عن مهاجمة الاتفاق والتشكيك فى إمكانية تنفيذه.. وأيضًا تقدم الشكوى التاسعة عشرة ضد مصر.

الأربعاء 30 سبتمبر: كان يوم المواكب الباكية.. فقد واصلت الجماهير مسيرتها، ولم يتوقف البكاء، وخرجت صحف العالم كله تتحدث عن جمال عبدالناصر، وفتحت السفارات المصرية فى الخارج أبوابها لتلقى العزاء، وأصبح العالم العربى من الخليج إلى المحيط لا تسمع فيه إلا صوت القرآن الكريم وأعلنت الدول الصديقة مراسم الحداد وكذلك شكلت وفود العزاء.

ومنذ الصباح الباكر كانت محطات الإذاعة فى أوروبا وأمريكا تعقد الندوات على الهواء حول حياة عبدالناصر، وأثر وفاته على مصر وعلى العالم العربى وعلى العلاقات بين الدول.. وسيطرت وفاة عبدالناصر على جميع برامج الإذاعة والتليفزيون ونشرات الأنباء والتعليقات فى جميع أنحاء العالم.

وكانت معظم التحليلات تسير إلى الفراغ الكبير بعد عبدالناصر.. وتضع سؤالاً محددًا تطلب الإجابة عنه.. ماذا بعد عبدالناصر؟!

وفى مصر كانت المظاهرات الباكية تطوف شوارع القاهرة وتتجه إلى قصر القبة، حيث نقل جثمان الزعيم من منزله إلى القصر الجمهورى استعدادًا لمراسم الدفن، واجتاحت العالم العربى مظاهرات العزاء والمواساة والتأييد لشعب مصر.

وكان حقًا اليوم الباكى.. فكلما استغرقت النفوس فى التفكير وتوقف البكاء لا تلبث أن تصل وفود الأشقاء المعزين فتهيج المشاعر ويتجدد البكاء أعنف وأغزر مما كان وتصدرت صحف القاهرة اليومية صورة وصول الوفد السودانى الشقيق وعلى رأسه جعفر نميرى الذى لم يستطع أن يوقف البكاء والألم، وكانت تسمع شهقات الوفد والمعزين فى لقطات التسجيل التليفزيونية والإذاعية.

الخميس أول أكتوبر: ملحمة الوداع.. بعد منتصف الليل بقليل بدأ هدير الجماهير فى شوارع القاهرة وهى تتجه لتأخذ مواقعها على طريق الجنازة لتشترك فى لحظات الوداع الأخيرة.

وأخذت الجماهير تنشد أهازيج الرثاء وهى تنتظر آخر موكب البطل، وترفع الشعارات التى تؤكد وعى الشعب وإدراكه لنضال الزعيم وتصميم هذا الشعب على مواصلة معركته:

يا صهيون يا صهيون عبدالناصر 100 مليون

وردت الجماهير على تساؤلات الإذاعات والصحف الغربية عن مصير مصر والعرب.. ومستقبلهم بعد عبدالناصر فقالت:

بالجيش، بالشعب، حنكمل المشوار.

وكانت هناك ترتيبات رسمية معدة لوداع البطل، ولكن الجماهير فرضت غيرها، فلم تستمر الجنازة الرسمية أكثر من عشرة أمتار، وبعدها تدفق طوفان الجماهير يبتلع الموكب، والجثمان الحبيب، والوفود التى جاءت من 53 دولة لتشارك فى الوداع الأخير.

واختلط فى الطوفان الجميع، وذابت كل الفوارق، وكل الترتيبات.. وترامى الناس على عربة المدفع التى تحمل الجثمان.. وتشبثت الأيدى بالعلم الذى يلفه، وتسلق البعض الأشجار، والبعض أسلاك الترام، وتحول الموكب إلى ملحمة دامت 4 ساعات.. قبل أن يصل الجثمان إلى مقره الأخير: مسجد عبدالناصر.. وطوال الموكب لم يخجل أحد من دموعه، ولم يستطع أحد أن يحبس صرخاته، ومات تسعة أشخاص.. وجرح خمسمائة.

وذهل العالم الذى شاهد الملحمة بعدسات المصورين، وسمعها بأصوات مراسلى الإذاعات المختلفة، فلم يسبق فى التاريخ أن بكى شعب بطله بمثل هذه اللوعة، ولم يسبق أن غطى الحزن وجه الأرض - فى أى مكان من العالم - كما غطاه فى ذلك اليوم الأسطورى الحزين.

ولكن ملحمة عبدالناصر لم تنته، فقد كان عبدالناصر هو مصر، ومصر باقية، وعلى طريقه تسير.