الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

ثلاث فتيات من مصر.. 

الأولى:



كان ذلك فى خريف 1942، يوم جئت مصر للمرة الأولى..

أما المكان فزاوية من زوايا فندق «شبرد» المظلمة المضيئة..

أما الآنسة.. فمصرية تنحدر من صلب الفراعنة تحمل على وجهها خطوط جمال بعيد الأثر قوى التعبير، وعلى فمها عبوس يبتسم عن اللؤلؤ الأبيض المنضود.

وأترك لمذكراتى الخاصة كيفية تعرفى بها، وإقبالى عليها، وحبى لها الذى لم يطل أكثر من ساعات.

كان الحديث بالفرنسية.. وعبثًا حاولت إقناعها بالتحدث بلهجتها المصرية.. لأن اللهجة المصرية على شفة امرأة غناء وشجو وهوى وفرحة وأوركسترا موفقة بارعة.

وابتدأ الحديث..

أنا - تقولين إن مصر تضيق بك.. إنك تودين لو كنت الساعة فى أمريكا مثلا.

هى - كل شىء يبعث الضجر فى هذا الشرق النائم، الحديث هو هو، والأشخاص لا يجددون فى حياتهم وطرق كلامهم، أريد الحياة فى أمة تتقدم كل يوم.

أنا - أنت يا آنسة من أمة تتقدم كل يوم كان لهذه الأمة مجد بلغ عنان السماء، لقد كافحت الفناء، أو ضمنت الخلود، وساهمت فى بناء الإنسانية وهى اليوم تستعد وتعمل لوثبة جديدة تجعلها قبلة أنظار الدنيا.

هى - تصور أن ثمن جوارب «نيلون» هو اليوم أربعة جنيهات أترى فى هذا تقدمًا؟

أنا - اتركى «النيلون»، فلقد تركته نساء باريس ونيويوك ولندن، ليس «النيلون» مقياسًا للتقدم.

هى - والروج أصبح نادرًا.. دلنى على إصبع واحد أوروبى.. وليس فى استطاعتى أن أخرج مع شاب، دون أن تمتلئ الدنيا بالشائعات.

أنا - إن طريقة ظهورك فى المجتمع كفيلة بالحكم لك أو عليك.. أما الشائعات فتموت.. ويصمد فقط إيمانك بنفسك.

هى - والويسكى.. أى بأس فى شرب بضعة كئوس منه.. ومع ذلك ألقى معارضة شديدة.

أنا - الويسكى طريق الرجل إلى المرأة.. طريق موحل.. ظلى نظيفة.

هى - آه.. أنت مثلهم إذن.. اكتفينا.

أنا - تعنين أن المقابلة انتهت.

هى - أجل.. انتهت.

وقامت.. بينما كانت عيناى تودعها بإشفاق ورجاء..

هذه الفتاة صورة لجيل من الفتيات فقدن شخصيتهن، وهن اليوم حائرات بين الشرق والغرب.

الثانية:

وكان ذلك فى فبراير.. الجو ممطر.. بارد.. قدمنى إليها صديق من أصدقاء «الكونتننتال» لا أذكر الساعة له اسما.. فمظهرها يدل على الثراء المفرط.. أقراط ماسية فى الأذنين.. فرو جميل عدة خواتم فى أصابع اليد تحار بين الذهب والماس.

اسمها: فيفى.. أو هكذا قال لى صديقى.. كانت تجرع الكأس بعد الكأس، وتتحدث عن الشقة التى استأجرتها أخيرًا.. وعن تكاليف المفروشات الباهظة فى هذه الأيام، وتسألنى فى اهتمام:

- أريد شراء سيارة بثلاثة آلاف جنيه.. الفلوس عندى زى الفاصوليا.. حاعمل بيهم إيه.

وكنت أجيبها بظرف وأدب، وينتقل الحديث حول كل شىء إلا حول الغلاء.. هذه الفتاة لا تعرف الغلاء، ولا تعترف به.. أسارير حزن قاتم تختفى وراء ابتسامتها المصطنعة.. ما هذا اللغز.. ألا أستطيع حله؟!

وكانت الساعة قد قاربت التاسعة والنصف عندما ودعتنا الآنسة فيفى معتذرة لارتباطها فى موعد. ومشى صديقى، بل صديقها.. وتواريا.

وغادرت الفندق إلى مرقص كبير من مراقص القاهرة، وكانت دهشتى تفوق الوصف.. لقد وجدت فيفى تجرع الكأس بعد الكأس مع أحد الرجال.. فى ابتذال ظاهر.. وسألت عنها وعما تصنع هناك.. فأجابنى أحدهم: - إنها من راقصات هذا المكان، وسترى رقصتها قريبًا.

الثانية دون شرح طويل: أرتيست حرب..

الثالثة:

وكان ذلك منذ أسبوع على وجه التقريب.. وعلى مائدة زميل صحفى كريم، وكانت زجاجات الويسكى تطغى على ألوان الطعام، وكانت هى على جمال بارع.

ودار الحديث دورته حول كل شىء إلى أن بلغ مصر.

وأساءت فهم كلمة قلتها عن عدم اهتمام المصريين بجغرافية البلاد العربية.. أساءت فهمى وحسبت أننى أتهم مصر والمصريين بالجهل، وأنا من أصدق أصدقاء مصر.

ثارت وأخذت تتحدث بإيمان وحماس، تدافع عن كل ما هو مصرى، وكان مصدر حديثها إيمانها بمصريتها واعتزازها بمصر، كان الكلام ينطلق من فمها كالحمم.. لقد تحولت هذه المرأة اللطيفة إلى أسد جسور يرد العدوان.. ورضيت أن أكون الفريسة.

فريسة وطنية هذه المصرية التى ترى مصر كل شىء.. مصر بكل ما فيها.

وعبثًا حاولت إقناعها وأخذت أقيم الدليل على سوء فهمها لكلامى.. وهدأت ثورتها ساعة أخذت أحدثها عما أحمل لمصر من الحب والتقدير والإعجاب.

الثالثة: فتاة من مصر.. فتاة تفخر بها مصر والشرق كله.