الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

110 أعوام مرت على ميلاد «أبو الرواية العربية» «روزاليوسف» تنشر أخطر مواجهة بين العالمى «نجيب محفوظ» و«نزار قبانى»

فى هذه الأيام تمر 110 أعوام على ذكرى ميلاد «صاحب نوبل» فى الأدب العالمى «نجيب محفوظ» والذى ولد فى 11 ديسمبر عام 1911  فى حى الجمالية أحد أقدم أحياء القاهرة والذى أثرى تاريخنا الأدبى بالكثير من الأعمال الأدبية الروائية, وعلى عكس كل ما ينشر فى هذه المناسبة من كل عام بعرض أعماله الأدبية وحياته المهنية وحتى الحديث عن جوانب من حياته الإنسانية.



سنقوم هذا العام بتقديم جانب آخر من آراء «نجيب محفوظ» وتفاعلاته مع أحداث عصره والتى أحدثت صخبًا وجدلاً كبيرًا فى وقتها.

 

ففى منتصف «التسعينيات» من القرن الماضى قام الشاعر الكبير «نزار قبانى» بنشر قصيدته الشهيرة «المهرولون»، وكان ذلك بعد قيام المباحثات الفلسطينية – الإسرائيلية.

وهاجم فيها «نزار قبانى» العرب والفلسطينيين وقتها واتهمهم بالهرولة وتقبيل الأحذية للحصول على حقهم المشروع فى أرضهم.

هذا الصخب الكبير الذى أحدثته القصيدة دفع «نجيب محفوظ» إلى التفاعل معها، وليس ذلك فحسب، بل قام بالرد على «نزار قبانى» على صفحات جريدة «الحياة اللندنية» وقتها.

حيث اختلف «نجيب محفوظ» مع «نزار قبانى» سياسيًا.

«نجيب محفوظ» كان يرى أن المفاوضات العربية – الإسرائيلية لا بديل لها وخصوصًا إذا كان خيار الحرب واستعادة الأرض بالقوة غير متاح.

واتهم «نجيب» «نزار» بأنه هاجم المفاوضات دون أن يطرح بديلاً لها واتهم العرب بالهرولة دون أن يستند على دوافع مقنعة.

ذلك الرد دفع أيضًا «نزار قبانى» لتبرير عقيدته الشعرية وأن «دولة الشعر لا سلطان فيها إلا للجمال والعدل». ذلك النقاش الراقى الجميل بين قطبى الأدب والثقافة فى الوطن العربى دفعنا لأن نعيد نشر هذا الحوار والذى جرى على صفحات الجرائد والذى نؤكد به أن الاختلاف فى الرأى مع هؤلاء العمالقة كان فى إطار الاحترام الشديد بعيدًا عن الإساءة، ومن رقى وجمال الحوار يصلح أن يكون أشبه بقصة قصيرة.

 

حوار الأسبوع معركة ستنفجر هذا الأسبوع فى القاهرة ولن تهدأ قبل فترة المهرولون بين الشاعر والروائى نجيب محفوظ: إنهم يقبلون الأحذية ولكن ماذا فعل نزار قبانى؟

 

وصف نجيب محفوظ قصيدة نزار قبانى «المهرولون» بأنها قصيدة قوية جدا، وقنابل تفرقع فى عملية السلام من دون أن تقدم بديلا عنها، وأضاف فى تصريح لجريدة «الحياة» الصادرة فى لندن بعد أن نشرت القصيدة: «لقد أعجبتنى رغم اختلافى السياسى معها».

«إننى لا أنفى إعجابى بها، ومن يشارك نزار قبانى موقفه، سيجد فيها تعبيرا قويا عن هذا الموقف، لكنه موقف يبدو أضعف من القصيدة بكثير، قصيدة قوية، وموقف ضعيف».

وأبدى محفوظ تقديره لما حوته القصيدة ضمنا من نداء للعرب بأن يهبوا، واعتبر ذلك أملا نتطلع إليه جميعا، لكنه رأى أن هذا لا يكفى من دون طرح بديل لما يجرى فى عملية السلام، وأعرب عن عدم اقتناعه بأن يكون البديل هو أن نوقف هذه العملية. و«نقعد ساكتين»، ملاحظا أن نزار قبانى لم يقل إنه مع الحرب، ولم يقدم أى بديل.

قال: «نعم.. فى مثل هذه المواقف، لا بد أن يقدم البديل، لا يكفى أن يهاجمهم لأنهم يهرولون ويلهثون، ويقبلون حذاء القتلة، ويفرطون فى كل شىء، فالأهم هو أن يقول لهم ماذا يفعلون»، وقال: «أعرف أن هناك من يرفضون السلام فيما لا ينادون بالحرب، ولا يقدمون خيارا ثالثا، فماذا يفعل هؤلاء المتهمون بأنهم يهرولون، هل يجلسون ساكنين بلا فعل، وإذا كان البديل هو الانتظار السلبى، فإن الطرف الآخر لا ينتظر أحدا، وإنما يمضى فى ابتلاع الأرض».

وقال: «لا يوجد سلام بغير تفاوض، ومادام خيار الحرب غير وارد، فلا مبرر لهذا الهجوم على المفاوضين العرب الواقعيين والعمليين»، وأضاف: «إنهم يريدون الوصول إلى حل، ولو كان بإمكانهم الحصول على ما هو أفضل مما أتوا به ما كانوا قد فرطوا، إنهم يفاوضون فى ظروف صعبة، وموقفهم فى المفاوضات انعكاس للوضع العربى العام».

وتمنى نجيب محفوظ لو كان الوضع العربى الراهن أقوى مما هو عليه، وقال: «فى هذه الحالة، فإن نتائج المفاوضات تختلف، لكن من أين نأتى بوضع عربى أفضل الآن، وليس من مصلحتنا التوقف، لأن الطرف الآخر لن ينتظر، فلسنا فى مباراة للكرة، حتى نحصل على استراحة ثم نعاود اللعب من جديد، فإذا أخذنا استراحة سيباغتنا الطرف الآخر بتسجيل أهداف فى مرمانا».

وذكَّر نجيب محفوظ بمبادرة الرئيس المصرى الراحل أنور السادات فى آخر عقد السبعينيات، والتى كان رحب بها فى حينها رغم رفض معظم المثقفين المصريين والعرب عموما لها، وأضاف: «قل فى السادات ما شئت.. لكنه أخذ المبادرة واستعاد الأرض المصرية المحتلة، ورفع علم فلسطين فى مواجهة إسرائيل، وقال للفلسطينيين: تعالوا..: لكن «ماجوش وما حاربوش»، وكانت الشروط المطروحة عليهم آنذاك أفضل منها الآن عشر مرات.

فقد قبلت إسرائيل وقتها بالحكم الذاتى، إلى جانب إعادة سيناء لمصر».

لكنه رأى أن هذا لا يبرر الهجوم على القيادة الفلسطينية الآن، عندما أدركت أنه لا بديل عن التفاوض، ولا الهجوم على القادة العرب الذين يساندونها، وقال:

«إنهم يسعون لحل المشكلة بقدر ما يستطيعون وفى حدود ما تسمح به ظروف الواقع، ولا جدوى من أن نشبعهم تقريعًا، ونقول لهم: أضعتم الحياء.. أضعتم غرناطة وأشبيلية وأنطاكية.. وفرطتم فى كل شىء.. وأوضح أن هؤلاء الموصوفين بالمهرولين يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأننا إخصائيون فى إضاعة الفرص.

ومع ذلك كرر محفوظ إعجابه بالقصيدة، باعتبارها تعبيرا عن موقف صادق يحترمه على الرغم من اختلافه معه. وقال: «إن نزار قبانى مخلص فى موقفه، ولا يقول هذا الكلام تزييفا، إنه رأيه.. وهو مقتنع به، وله كل الحق فى ذلك، وهناك من يؤيدون هذا الرأى فى كل البلاد العربية. ومن يرفضون السلام على طول الخط حتى إذا حققنا منه مكسبا وهذا حقهم.

الأستاذ نجيب محفوظ إنسان رقيق كنسمة الصيف، وحريرى فى صياغة كلماته، ورسولى فى سلوكه على الورق، وسلوكه فى الحياة

إنه رجل اللا عنف الذى يمسك العصا من وسطها.. ولا يسمح لنفسه بأن يجرح حمامة، أو يدوس على نملة أو يغامر أو يسافر.. أو يغادر زاويته التاريخية فى حى سيدنا الحسين.

هو رجل السلام والسلامة، ولا يُعرف عنه.. أنه تشاجر ذات يوم مع أحد أو تعارك مع رجل بوليس أو وقف فى وجه حاكم أو أمير أو صاحب سلطة.. إنه دائمًا يلبس قفازات الحرير فى خطابه الاجتماعى، والسياسى، ويتصرف «كحكومة الظل» فى النظام البريطانى.

هذا الموقف السكونى الكلاسيكى فى طبيعة أستاذنا الكبير.. هو الذى جعله ينتفض كعصفور.. عندما قرأ قصيدتى الأخيرة «المهرولون».

فهو لم يتعود خلال تاريخه الطويل.. على قراءة القصائد المجنونة التى تفرش عباءتها على الأرض.. وتصرخ كالقطط المتوحشة فى أول الانحطاط العربى غير مكترثة بالفضيحة، وبما يقوله الناس عن ظهورها فى الشارع عارية.. أو نصف عارية.

فليعذرنى عميد الرواية العربية.. إذا جرحت عذريته الثقافية، وكسرت عاداته اليومية، وقلبت فنجان القهوة على الطاولة التى يجلس عليها مع أصدقائه.

فالقصيدة ليس لها عادات يومية تحكمها.. أو نظام روتينى تخضع له.

إنها امرأة عصبية.. وشرسة.. تقول ما تريده بأظافرها.. وأسنانها..

القصيدة ذئب متحفز ليلا ونهارا، ومواجهة بالسلاح الأبيض مع كل اللصوص والمرتزقة وقراصنة السياسة.. وتجار الهيكل.

أستاذنا نجيب محفوظ قمة روائية لا يجادل فيها أحد، ولكن نظرته إلى الشعر، نظرة ساذجة، وملتبسة، وتحتاج إلى بعض التصحيح.

ففى تعليقه على قصيدتى، خلط الروائى الكبير خلطا عجيبا بين الشعرى وبين السياسى، بين القصيدة وبين الموقف، فامتدح القصيدة جماليا، وهجاها أيديولوجيا.

إننى لا أناقش الأستاذ نجيب محفوظ، فى عقيدته وقناعاته السياسية، ولكنى أقول له إن الشعر دولة ليبرالية، لا سلطان فيها إلا للجمال، والعدالة، والحرية، وليس من وظيفة للشعر سوى أن يكون شعرا، وأن يكون صادقا مع الناس ومع نفسه.. ومع الحقيقة.

هذا هو موقف الشعر مما يجرى على المسرح العربى.

فإذا كان الأستاذ نجيب محفوظ يرى موقفى «ضعيفا».. ويطالبنى بأن أصفق لمسرحية اللامعقول التى يعرضونها علينا بقوة السلاح، وقوة الدولار، فإننى أعتذر عن هذه المهمة المستحيلة.

ربما كنت فى قصيدتى حادا، وجارحا، ومتوحش الكلمات.. وربما جرحت عذرية كاتبنا الكبير، وكسرت زجاج نفسه الشفافة.

ولكن ماذا أفعل؟ إذا كان قدره أن يكون من «حزب الحمائم» وقدرى أن أكون من «حزب الصقور»؟

ماذا أفعل إذا كان أستاذنا نجيب محفوظ مصنوعا من القطيفة.. وكنت مصنوعا من النار.. والبارود؟!

ماذا أفعل إذا كانت الرواية عنده جلسة ثقافية هادئة فى «مقهى الفيشاوى».. وكانت القصيدة عندى، هجمة انتحارية على القبح والانحطاط، والظلام، والتلوث السياسى والقومى؟

ربما كان الخطاب الروائى يختلف فى طبيعته، وأدواته، وتقنيته، عن الخطاب الشعرى، فالروائى يجمع عناصر روايته، ويرتبها، ويدرس سيكولوجية أبطاله، كما يفعل الأكاديميون والباحثون الذين يشتغلون فى مختبراتهم بعقل بارد، دون أن يشعروا بضغط الزمن عليهم.

أما الشاعر فهو يشتغل بمادة سريعة الانفجار، لا يمكنه أن يؤجل التعامل معها إلى فترات طويلة، وإلا انفجرت بين يديه.

الشعر برق لا عمر له..

أما الرواية فورشة تفتح أبوابها لمدة 24 ساعة.

ولأن الشعر يتصرف بطفولة وتلقائية، لا يمكننا أن نطلب منه أن يكون حكيما، أو واعظا، أو خطيبا، أو معلم مدرسة.

ليس من وظيفة القصيدة أن تقترح الحلول، وتجد البدائل، وتكتب الروشيتات للمرضى والمعاقين.

الشعراء ليسوا جنرالات.. ولا يعطون التعليمات من غرفة العمليات، ولا يعلنون الحرب، ولا يوقفونها، ولو كان مسموحا للشعراء أن يكونوا فى مركز اتخاذ القرار لما امتلأ العالم بالمجازر العرقية والعنصرية، ولما حولت قنبلة هيروشيما 250 ألف يابانى فى ثانية واحدة إلى شوربة بشرية تتبخر.

والذى يدعو إلى الدهشة فى كلام الأستاذ نجيب محفوظ هو مطالبتى بتقديم بديل لعملية السلام المتعثرة، كأننى السكرتير العام للأمم المتحدة، أو عضو دائم من أعضاء مجلس الأمن، أو كأننى المسئول عن صياغة النظام العالمى الجديد!

إن مطالبة الشاعر بتقديم البدائل تعطيه سلطة تتجاوز سلطته البشرية، وتجعله مركزا من مراكز القوى، وشريكا فى اتخاذ القرار السياسى.

وهذا يدخل فى باب المحرمات فى أنظمتنا السياسية الأوتوقراطية التى لا مكان فيها للشريك الآخر.. أو للفكر الآخر.. أو للرأى الآخر.

الشاعر فى بلادنا هو «صفارة إنذار» تنطلق فى ساعات الخطر.. وتطلب من الناس أن ينزلوا إلى الملاجئ.. ويلبسوا الأقنعة الواقية من الخوف والقمع، والديكتاتورية!

الشاعر فى تاريخنا هو «زرقاء اليمامة» التى حذرت قومها من الخطر الذى يقترب من خيامهم، وأخبرتهم بتفاصيل رؤيتها، ولكنهم لم يصدقوا.

ولو أن الرئيس أنور السادات قرأ قصيدة شاعر مصر الرائى والمستكشف أمل دنقل «لا تصالح» لما دخلنا فى ذلك النفق المظلم الذى لا نزال نتخبط فيه إلى اليوم.

لقد قدم الشاعر أمل دنقل إذن للرئيس المصرى نبوءته، واجتهد اجتهاده الشعرى والقومى، ولكن صوته ضاع فى ضجيج محركات الطائرة الرئاسية المسافرة إلى القدس.

هذه هى محنة القصيدة التى لا يريد أن يسمع أحد شهادتها.. ولو قدمت ألف دليل.. وألف بديل.

فهل يتذكر أستاذنا الكبير ضراعة أمل دنقل للرئيس أنور السادات كى «لا يصالح»!

ولكن صرخة الشاعر تناثرت فوق مياه النيل.. ومات أمل دنقل على سرير مرضه.. محبطا. ويائسا.. ومقهورا.

لا يحق للأستاذ نجيب محفوظ أن يعين نفسه قاضيا.. ويصدر حكما متسرعا على قصيدة.. تتعارض مع خطه السياسى.

فما يعتبره هو «موقفا ضعيفا» أعتبره أنا موقفا شجاعا.

وما أعتبره أنا موقفًا انبطاحيًا.. يعتبره هو موقفا واقعيا وبراغماتيا.

وهذا يستدعى العودة قليلا أواخر السبعينيات حين هبطت طائرة الرئيس السادات فى مطار بن جوريون فى تل أبيب.. وتقدم فاتحا ذراعيه للجنرالات الذين أهرقوا دم مصر وداسوا ترابها.

وابتداء من هذه اللحظة التى جعلت التاريخ يقف على رأسه فى طفح ثقافى على جلد بعض المثقفين المصريين اسمه «كامب ديفيد» وكان أستاذنا نجيب محفوظ أحد المبدعين الكبار الذين ظهرت على كتاباتهم أعراض هذا الطفح.

كان الأستاذ نجيب محفوظ معجبا بعبقرية أنور السادات، ومعتدا بكراماته، ونبوءاته ورؤيته الرسولية للمستقبل. لذلك، فإننى أعتبر تعليقه على قصيدتى نوعا من «عودة الروح لعصر السادات، وفكره، ونهجه السياسى».

وعلى ضوء ما تقدم، فإن المسافة الأيديولوجية التى تفصلنى عن الأستاذ نجيب محفوظ لا يمكن ردمها.

فهو تلميذ «المدرسة الساداتية التى كانت تريد نصرا سينمائيا، وتليفزيونيا، واستعراضيا، ولو كان هذا النصر على حساب تاريخ مصر العربى، وبطولات الجيش المصرى الخرافية فى حرب أكتوبر.

وأنا تلميذ «المدرسة الناصرية» بكل عنفوانها.. وجنونها.. واقتحاماتها القومية.. وانتصاراتها وهزائمها..

وأعراسها.. وأحزانها.

إنهما موقفان منفرجان.. ونقطتان لا تلتقيان أبدا.

فأصابع الأستاذ نجيب محفوظ منقوعة فى الماء.

وأصابعى تتقلب فوق النار.. ولكننى لا أصرخ.

لا يمكننى كشاعر أن أكون ضد السلام.

فالشاعر بطبيعة تكوينه النفسى والفكرى والإنسانى عضو مؤسس فى حزب السلام، إذ لا شعر يكتب فى ظل الموت، والإبادة، والخراب.

لكن ما يطرحونه علينا ليس سلاما.. بل «مصاصة من الكاوتشوك».. لا حليب فيها.. زجاجة من النبيذ لا قعر لها.. رسالة حب مكتوبة بالحبر السرى.. ما يعرضونه علينا يأخذ ما فوقنا.. وما تحتنا.. ويتركنا على الحصيرة..

فالمستعمرات فى خاصرتنا.. والمسجونون فى سجونهم.. والمنفيون فى منافيهم.. وانتقال المواطنين من أرض فلسطينية إلى أرض فلسطينية تحت رحمتهم.. والخليل مؤجلة.. والقدس مؤجلة.. وحريتنا وأعمارنا.. وأحلامنا.. كلها مؤجلة.. فماذا بقى لنا من فلسطين فى ظل هذا السلام البائس؟ إذا كان أنبياؤنا ممنوعين من قراءة كتبهم المقدسة وشعراؤنا ممنوعين من تلاوة شعرهم على أرض فلسطين؟ وفلاحونا ممنوعين من الاقتراب من شجرة برتقال كانوا زرعوها قبل خمسين عاما.

ماذا بقى لنا من فلسطين؟!

إذا كان محمود درويش يقول فى أول حوار أجرى معه فى غزة «بأنه عاد ولم يعد.. ووصل ولم يصل.. وأن منفاه لم ينته بعد.. وأن على بلاغة اللغة أن تتواضع قليلا أمام هذا البؤس»!

هذه هى أحاسيسى أمام هذا الصلح الكاريكاتورى.. الذى يبشر به الأستاذ نجيب محفوظ، ويدعونا إلى القبض عليه قبل أن يفلت من يدنا!

وأنا لا أعتقد أننا سوف نخسر كثيرا، إذا قاومنا مثل هذا الصلح المعبأ بكل إمكانيات الحرب.

ومادمنا لن نأخذ شيئا من إسرائيل، لا بالحق ولا بالباطل، لأنها مصممة على أن تصالحنا وتستعمرنا فى الوقت ذاته، فماذا نخسر إذا كسرنا الدف.. وتوقفنا عن الغناء؟!

إن إسرائيل غير مبتهجة أساسا لمشروع سلام مع العرب إلا بشروطها هى.. وضمن مشروعها التوراتى القائم على «إسرائيل كبرى» تبتلع فيه كل غصن أخضر من النيل إلى الفرات.

وأريد أن أذكر أديبنا الكبير أن إسرائيل غير سعيدة بصلحها مع مصر، وهى نادمة كثيرا على إعادة سيناء إلى السيادة المصرية، لأن معدة إسرائيل لم تتعود على إرجاع أى طعام دخل إليها.. ولذلك فهى تسمى سلامها مع مصر «سلاما باردا».

فشكرا للرئيس العظيم جمال عبدالناصر الذى زرع فى جسد الشعب المصرى هذه المناعة القومية النادرة.

.. وبعد

فشكرا لأستاذنا الروائى الكبير نجيب محفوظ الذى قرأ قصيدتى «المهرولون» فأعجبته شعريًا.. ولم تعجبه أيديولوجيًا.. وموقفًا.

وإذا كان الخطاب الشعرى قد هز أعماقه، فهذا دليل على أن حساسيته الشعرية لاتزال بخير، وقلبه الكبير لايزال يفرح بالتماع البروق، وسقوط الأمطار.

أما مواقفنا الأيديولوجية المتصادمة فى قضية السلام، فهى بسيطة، وهامشية، ولا تفسد للود قضية.

هو له رؤيته واجتهاده، وأنا لى رؤيتى واجتهادى.

هو يرى خشبة المسرح بعين الروائى المهتم بالأضواء، والديكور، وحركة الممثلين، وأنا أرى المسرح بعين الشاعر الذى يريد أن يعرف ما يجرى خلف الكواليس.. ومن يدير الحوار.. ومن هو كاتب السيناريو.. وماذا يجرى بين صفوف المتفرجين الذين يشعرون بالإحباط والخديعة، وبأن التمثيلية كلها «أونطة.. بأونطة..».

هو على يقين بأن الرواية حقيقية وأنا على يقين بأن الرواية نوع من الفانتازيا السياسية التى لا تستهوى أحدًا.. برغم ضخامة التمويل.. وكثرة الإعلانات.. ووجاهة المدعوين إلى حديقة البيت الأبيض.

نزار قبانى