الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فى حوار له عام 1965 عن الفن والمرأة: نجيب محفوظ.. نبوءات الـ«نصف قرن»!

وكأن ميلاد الأديب العالمى نجيب محفوظ يتجدد فعليًا فى ذكراه الـ101، حيث ينتظر قراؤه فى العالم العربى إتاحة أعماله إلكترونيًا وبشكل مجانى عبر مؤسسة «هنداوى»، فضلا عن نقل حقوق أعماله الورقية والصوتية إلى ناشر جديد «ديوان».. بهذه الطريقة تتجدد حيوات أدب نجيب محفوظ ويستمر صدى أعماله مهما مر عليها الوقت؛ إذ اتخذ من الزمن صديقًا وراهن عليه، واستطاع بمهارة الحكاء أن يذيب الفلسفات العالمية فى حكاياته ببساطة وعمق شديدين.



 

القارئ والمتابع لـمحفوظ يعلم جيدًا أنه يمتلك «زاوية رؤية» تخصه وحده تجاه العالم، يفكر بهدوء ليخرج دائمًا بطريقة معالجة مختلفة لم تخطر على بالك من قبل، سواء كان ذلك فى رواياته وقصصه أو فى حواراته التليفزيونية والصحفية، وحتى فى نكاته الساخرة واللاذعة بمهارة شديدة.

وعند الحديث عن المستقبل دائمًا فى حواراته التليفزيونية، كان محفوظ يصمت دقائق قليلة وكأنه يقوم بحسب رياضية داخل رأسه ويمد خطوط المنطق على استقاماتها، ثم يتحدث وكأنه يقرأ الغيب!

بالرجوع إلى العام 1965، وتحديدًا يوم الاثنين 19 يوليو، أى قبل حصول صاحب الثلاثية على نوبل بـ23 عامًا، نجد عنوانا لحوار له مع الصحفية سعاد زهير فى مجلة روزاليوسف: «نجيب محفوظ يتحدث عن المستقبل».. فى هذه السنة أصدر نجيب محفوظ روايته «الشحاذ».. ووقتها كان المجتمع فى حالة من حالات الانتقال.. نحن الآن قبل النكسة بعامين؛ فكيف رأى المستقبل فى ذلك الوقت؟.. المؤكد أنه سيخبرنا الكثير عن تلك الفترة وعن عقله هو.

 رؤيته للإنتاج الفنى

تسأله الصحفية عن توقعه للفن فى السنوات القادمة فيجيب بوضوح شديد: «الإنتاج الفنى لا يمكن التنبؤ به، لكن الذى يمكننا التنبؤ به هو تطور الرؤية الإنتاجية».

الرؤية الإنتاجية بالنسبة لمحفوظ هى «النظرة التى يطل منها الفنان على موضوعه» أو «زاوية الرؤية».. موضحًا أن «الفرق بين الصورة الفنية والصورة الفوتوغرافية أن الفنان ينقل لنا الواقع من خلال وجهة نظره، بينما المصور ينقل لنا هذا الواقع مجردًا».. التجربة الفنية فى وجهة نظره «تجمع بين الشيئين: ذاتية الفنان وملامح مجتمعه.. فلا يمكن أن تكون ذاتية صرفًا ولا اجتماعية صرفًا، حتى الفنان الذى ينغلق على نفسه ليرصد تجربته لا يستطيع أن يمنعنا من التعرف على ملامح مجتمعه وقيم عصره من خلال نظرته لتجربته وموقفه من قضية كل إنسان».

 «المرأة» مقياس التطور الفنى 

بشكل مبكر جدًا، حملت روايات وقصص محفوظ رؤية شديدة التقدمية للمرأة، عكس السائد فى الكثير من المجتمعات وقتها، وخلف ذلك موقف وقناعة يتعلق بمفهوم الفن، فالمرأة بالنسبة له مقياس لتطور الرؤية الفنية «المرأة هى مفتاح التطور الفنى والأدبى بالذات، فعلاقاتها بالرجل عنصر جوهرى فى أى عمل فنى.. ولذلك تصبح الزوايا التى تؤخذ منها المرأة فى العمل الأدبى مقياسًا للكشف عن موقف الكاتب من التطور، إذ ليس أسهل من إطلاق الجمل العقلية، البلاغية فى هذا المجال، لكن نظرة واحدة منا للطريقة التى يحرك بها الكاتب بطله تجاه أخته أو حبيبته أو زوجته تكفى لكشف وجهه الفنى».

لا يعنى ذلك أن صاحب «بداية ونهاية» يرى أن الكاتب وبطله شخص واحد، ويوضح ذلك قائلا: «لا يجوز لنا النبش عن الفنان داخل شخوص أبطاله، الذى يعنينا هو الأثر الذى يتركه الفنان فينا من خلال معالجته لشخصية من أبطاله.. الذى تقوله لنا شخصية البطل الفنية لا البطل نفسه؛ هو مجال حكمنا على الكاتب».

فى الوقت الذى كان محفوظ يطرح فيه تلك الرؤية المتجاوزة لعصره؛ هناك كثير من الكتّاب كانوا يتفاخرون بعدائهم للمرأة بشكل علنى من سابقيه ومعاصريه، لكنه كان يرى ذلك أمرًا طبيعيًا.. موضحًا: «من الطبيعى أن يُعانى مثل هؤلاء الكتّاب صعوبة فى تصحيح نظرتهم للمرأة، فقد تعودوا أن تكون الزاوية التى يأخذونها منها هى الزاوية الجنسية والعاطفية فقط، باعتبارها الزاوية الملفتة للنظر فى شخصية المرأة خلال المرحلة السابقة»

 المرأة ضحية الانتقال.. ومفاجأة غير سارة للرجال!

يبلور محفوظ رؤيته بشكل أوضح قائلا: «لا شك أن المرأة هى ضحية لمرحلة الانتقال فى أى مجتمع، فالرجل يستقبل خروجها للحياة العامة بنظرة الذئب الذى سعت إليه فريسته بقدميها.. ولن يغير موقفه إلا بعد أن يصبح عمل المرأة ظاهرة عامة لا تلفت النظر»، مؤكدًا أنه «فى ذلك اليوم فقط الذى يصل فيه الرجل فى بلدنا إلى ممارسة المساواة برضى وعفوية فى ذلك الجزء الحميم من علاقته بالآخرين، يكون المجتمع قد حقق ديمقراطية كاملة.. وعندها ستختفى من أدبنا صور المشاكل الفردية التى كانت تعكس علاقة الرجل والمرأة.. لتحل محلها صور فنية جديدة تمثل مشاكل ذات صفة عامة.. مشكلة الرجل الذى يعود من عمله قبل عودة زوجته ومصير أبناء الزوجين العاملين؛ مشاكل مرحلة ما بعد تحرر المرأة التى سيحمل الفن مسئولية وضعها أمام أعين الدولة والمشاركة فى معالجتها لبناء مجتمع جديد».

حملت نبوءة محفوظ قبل أكثر من نصف قرن مفاجأة غير سارة للرجال؛ ربما بدأت تتحقق نسبيا فى الكثير من مجتمعاتنا العربية: «المستقبل يحمل مفاجأة غير سارة لرجالنا.. فلن تكون الأزمة المقبلة فى علاقة الجنسين هى أزمة المرأة، بل أزمة الرجل.. فمتاعب الرجل ستكون متاعب خسارة، بينما متاعب المرأة ستكون متاعب كسب، سيكون على الرجل أن يُدرّب نفسه من الآن فصاعدًا على مواجهة التنازل عن الجزء المريح فى حياته.. الجزء الذى كان يمارس فيه سُلطات استبداده»

 كيف يرى محفوظ الجمهور؟

جمهور الأدب والفن كان أحد الموضوعات التى ناقشها أديب نوبل خلال حواره، فكيف كان يرى ذوق الجمهور وقتها الذى يرفض الغموض والمدارس التجريدية الجديدة؟.. يقول: «علينا أن نفرّق بين الصعوبة والغموض فى الفن.. صحيح أن القاعدة فى البلاغة هى البساطة والوضوح، لكن التطور الحضارى فى عصرنا قد قلل من أهمية الكلمة والفكرة المباشرة، وأعطى الأهمية للصورة الموحية بالمعنى.. إلى جانب أن الفكرة فى العمل الفنى كثيرًا ما تفرض أسلوبًا خاصًا لمعالجتها قد لا يتماشى مع الأسلوب التقليدى، وهذا كله لا ضرر منه ما دامت القيمة الجمالية للعمل محفوظة»، لكنه يضع شرطًا وحيدًا ومهمًا فى هذه المعادلة: «أن يكون العمل مفهومًا».

عدم فهم العمل الفنى بالنسبة للجمهور والمبالغة فى تعقيده تسقطه من حسبة الفن فى نظر محفوظ: «بذلك لا يكون فنًا ولا يكون لغة وإنما شفرة خاصة بصاحبها».

هنا يقدم محفوظ التنبؤ الأخير ونصيحته لمواجهة انقسام الفن بين فنون للمثقفين وأخرى لغير المثقفين؛ قائلا: «على الفنان وهو يعطى تجربته الفنية أقصى ما يستطيع أن يضع فى اعتباره إمكان توصيلها لجمهور المتلقين جميعًا على قدر استطاعته».

 لا يلقى باللوم على الفنان وحده، خصوصًا أنه ذاق ويلات القراءات الخاطئة والمتعنتة من الجمهور لروايته أولاد حارتنا، مؤكدًا أنه على الدولة «القيام بواجبها فى تثقيف الجمهور ما يؤدى بدوره إلى توحيد الجمهور ثقافيًا والقضاء على هذا الانفصال فى مستوى تذوقه الفنى».

تحدث نجيب محفوظ فى هذا الحوار بأريحية وبساطة معهودة، لكن أهميته أنه يكشف الكثير عن رؤية ذلك الرجل وعن مجتمعنا، تحققت الكثير من نبوءاته ولا تزال أخرى معلقة.. لكن درس نجيب محفوظ الأهم دائمًا أن «البصيرة بنت المنطق السليم».