الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

كنوز آمال العمدة.. نزار قبانى: كتبت قصيدة «طفولة نهد» فى المترو!

أجمل ما فيه أنه آمن بنفسه وبموهبته، فآمن به ركب الشعب العربى وسار وراءه لنهاية طريق حياته، وأجمل ما فى توليفة نزار أنها بنيت على حق وموهبة وحرية وتحرر وعلم.



آه لو تعلم مدى شوقنا وحاجتنا إلى أبياتك بإنذار لعلمت أنك كنت بحق قائد الكلمة العربية فى العصر الحديث بلا منازع..

وهذا حوارى معه الذى أهديه لمجلة روزاليوسف..

 

آمال: قلت إنك لا تكتب القصيدة ولكن القصيدة هى التى تكتبك، فماذا كنت تعنى بذلك؟

 

- نزار قبانى: كان هناك خطأ شائع فى النقد الأدبى، وفيما يقوله الشعراء عن تجاربهم الشعرية، وهو أن الشاعر إذا أراد أن يكتب قصيدة ما عليه إلا الجلوس على مقعد وثير ثم يأخذ بضعة أوراق بيضاء وقلم ثم يشرع فى الكتابة، وهذا خطأ كبير جدًا لأن أمر القصيدة ليس فى يدنا بشكل من الأشكال، فالقصيدة هى زلزال يضربنا من حيث لا ننتظر، ولا يوجد شيء يتنبأ بالزلازل، والقصيدة زلزال جميل يهزنا ويضربنا من حيث لا ننتظر ويقلب جميع حياتنا. لذلك فإن معاناتى مع القصيدة أثبتت لى أن القصيدة تختمر فى نفس الشاعر ربما خلال أسبوع أو شهر أو سنوات ثم تنفجر مثلما تنفجر الينابيع من داخل الأرض فجأة، لذلك لا يمكن تشبيه القصيدة بأى عمل فنى آخر، فلا يمكن تشبيه القصيدة باللوحة أو بالقطعة الموسيقية، أو بالرواية، فالروائى مثلًا يستطيع أن يخطط لروايته ثم ينهض صباحًا فيجلس إلى مكتبه ويكتب حسب المخطط المرسوم، وكذلك الرسام، يستدعى النموذج ويضعه أمامه ثم يرسمه، والموسيقى نفس الشيء، لكن الشاعر تختلف تجربته اختلافًا قطعيًا، فهو لا يستطيع أن يختار اللحظة التى تداهمه فيها القصيدة، لكن القصيدة فى حياة الشاعر هى تلك المرأة المجهولة التى تفتح الباب وتقتحم حياته وهو لا ينتظرها.

 

آمال: هل حدث أن نظمت قصيدة فى مكان مزدحم؟

 

- نزار قبانى: نعم، وأتذكر أن ذلك حدث فى القاهرة فى عام 1948، حيث كنت دبلوماسيًا بالقاهرة، وكنت أسكن فى مصر الجديدة، وكان المترو هو وسيلة النقل التى أستخدمها، وأذكر أن أهم قصائد ديوانى «طفولة نهد» الذى طبع فى القاهرة عام 1948 كتبته أثناء استقلالى المترو ذهابًا وإيابًا من مسكنى إلى عملى.

 

آمال: هل تستطيع بالفعل أن تنفصل عن الصخب والضجيج من حولك وتأخذك حالة الشرود وتنسى البشر وتنظم قصيدة فى وسيلة مواصلات؟

 

- نزار قبانى: طبعًا، فحين أنشغل بالقصيدة فإن العالم الخارجى كله يموت بالنسبة لى، فتنتهى الأصوات والبشر ووجوه الناس تختفى، وكل ما حولى يدخل فى منطقة الظلمة، وهذا شيء طبيعى، لأن كتابة القصيدة معناه أن نعطيها كل حياتنا ووجودنا وأحاسيسنا فى لحظة من لحظات الزمن، وإلا فلو اشتركت مع القصيدة هموم أخرى فستكون قصيدة ثانوية، بل يجب على القصيدة أن تمتص الإنسان الذى يكتبها وتسيطر على فكره وقلبه فى تلك اللحظة التى يكتبها فيها.

 

آمال: فى الماضى كان يوجد شاعر وراوٍ لشعره.. فهل اندثر الرواة؟

 

- نزار قبانى: الراوي كان موجودًا فى عهد لم يكن فيه تسجيل، ولم تكن القصائد تكتب بل تختزن فى حناجر الشعراء وذاكرة الرواة، أما الآن فمع وجود الكتابة وأجهزة التسجيل أصبح الحفاظ على الشعر سهلًا.

 

آمال: هل يمكن القول إن الراوي كان كتابًا حيًا ومتنقلًا؟

 

- نزار قبانى: نعم فالرواة كانوا مكتبات متنقلة، ولولا الرواة لاندثر ثلاثة أرباع الشعر العربى، ورغم ذلك فقد اندثر كثير من الشعر العربى لأن الذاكرة نساءة ولا يمكن الاعتماد عليها.

 

آمال: مع انتشار الكاسيت هل ازداد عدد المتذوقين للشعر على اعتبار أننا كعرب لسنا شعبًا قارئًا بل نسمع أكثر مما نقرأ؟

 

- نزار قبانى: أعتقد أن الشعر إذا قرئ جيدًا فسيقتنيه الكثيرون، لكن هذا يتوقف على طبيعة الشاعر، فإذا كان الشاعر سيئًا فلن يجد من يقبل على شعره سواء فى كتب أو كاسيت، أما الشاعر القادر المبدع حقًا فهو يستطيع أن يصل إلى ذهن الجمهور. وأنا أقول دائمًا إننى لا أشكك فى قدرة الجمهور العربى على التذوق، فالجمهور العربى فى الأصل جمهور شاعرى، فقد خلقه الله شاعرًا، وتاريخنا العربى لا يضم فنًا أفضل من الشعر. 

 

آمال: كيف يستطيع الكاتب أو الشاعر أو الفنان أن يستقطب الذواقة لشعره أو لكتبه.. وكيف يستنهض الرغبة لقراءة كلماته؟

 

- نزار قبانى: العملية بسيطة جدًا وليست معقدة، فالصدق هو الأساس، ومعه الشجاعة والقدرة على استقطاب مشاعر الناس حتى يشعر كل قارئ أن القصيدة التى يسمعها هى قصيدته، وأن الكلام الذى يقال هو كلامه، فحين يكون الشاعر بداخل القارئ تحدث وحدة بين الاثنين صعبٌ قطعها.

 

آمال: من يقبل على كتبك أكثر.. المرأة أم الرجل؟

 

- نزار قبانى: من الطبيعى أن تكون المرأة.

 

آمال: ألم تستطع أن تثير فضول الرجل بكلماتك؟

 

- نزار قبانى: الرجل ليس رومانسيًا فى الأساس، وأيضًا الرجل الشرقى يغار من الرجل الشرقى، وأيضًا الرجل الشرقى إقطاعى يريد أن يحتفظ بممتلكاته، وأنا كشاعر حاولت أن أحرض النساء على الرجل الشرقى، ولهذا فهو غاضب منى لأنى أحاول أن أحدث انقلابًا داخل المملكة التى بناها كذبًا وخداعًا، ولهذا فقد أصبح هناك ود مفقود بينى وبين الرجل الشرقى وأصبح يعتبرنى خصمًا عنيدًا له، كل هذا فى الوقت الذى تقبل النساء على شعرى بعد أن أيقنّ أننى أحاول رد بعض حقوقهن الضائعة.

 

الرجل الشرقى ميئوس منه

 

آمال: هل كلماتك الصريحة للمرأة وتعبيرك عن حال المرأة.. ترهب الرجل الشرقى فغيرت معالمه أو أعادت صياغته من جديد؟

 

- نزار قبانى: الرجل الشرقى ميئوس منه فى هذا الشأن، ولا أمل فى ذلك، فهى عملية احتكارية فهو يشعر بامتلاكه للمرأة، ولا يوجد من يقبل التخلى عن شيء يمتلكه، وسيدافع حتى الموت عن هذه الممتلكات.

 

آمال: ابنتك هدباء نزار قبانى.. ما هى القيم والمعتقدات والمفاهيم التى حرصت كأب أن تغرسها فى وجدانها وما الذى منعته عنها، وما الحريات التى منحتها لها والحريات التى منعتها عنها؟

 

- نزار قبانى: أنا لا أزرع شيئًا.. وعملية التربية والتهذيب فى نظرى كلام فارغ، فكل بنت تحمل شخصيتها فى داخلها، وشخصية الأب مع البنت بكل اختلافاتها سواء، فالبنت عندما تدخل مرحلة الشباب فهى تفكر بنفسها، ولا يؤثر فيها إلا الإطار والمناخ من حولها، فهى رأتنى نموذجًا لها بشعرى، فقد قرأت شعرى فى سن مبكرة، وتفتحت على شعرى، فكنت بالنسبة لها النموذج لذلك فكل ما فعلته لها أننى وضعت لها الحرية على طبق من فضة، وقلت لها إن هذه هى حياتى وهذه كتبى، حتى لقد سألوها مرة إن كانت تخجل من أشعارى، فردت بالقول إن أبى يكتب للنساء وأنا امرأة، وقالت إنها فخورة إننى أعبر عن مشاعرها.

 

آمال: هذا يعنى أنك اعتبرت ابنتك هدباء كأى امرأة تطالب بالحرية؟

 

- نزار قبانى: هدباء أحبت مثلما أحبت كل البنات، وليس بينى وبينها سرًا، وذات يوم جاءتنى وقالت لى إنها تعشق زميلًا لها فى الجامعة، فهى إنسانة شجاعة ولهذا فحين اختارت كان ذلك بشجاعة.

 

آمال: هل اختارت هدباء زوجًا له نفس الملامح الوجدانية لنزار قبانى؟

 

- نزار قبانى: هو متذوق للأدب وقد درس العلوم السياسية فى الجامعة الأمريكية ببيروت، وإنسان رقيق متذوق ومحب للفن، لكنه ليس شاعرًا، وليس من الضرورى أن تتزوج بشاعر.

 

آمال: وعودة للشعر من جديد، هل تأثر باختفاء الصالونات الأدبية؟

 

- نزار قبانى: أنا أعتقد أن من حسن حظ الشعر أنه خرج من الصالونات الأدبية، لأن الصالونات الأدبية عبارة عن صالونات مصطنعة ومغلقة ولا يحضرها إلا مجموعة من الناس لا تتعدى عشرة أو عشرين شخصًا، ومن طبقة معينة، فكان الشعر فى الصالونات هو جزء من برجوازية الطبقة، فكان يقرأ الشعر من يملك أن يشترى الكتاب الضخم والطبعة الفاخرة المذهبة، أما المسكين ابن الشارع فكان بعيدًا جدًا عن الشعر.

 

آمال: هل تطول بك الأيام فى بعض الأحيان لا تكتب فيها شيئًا؟

 

- نزار قبانى: فى بعض الأحيان أقضى شهرين أو ثلاثة دون أن أكتب شعرًا، ولكنى لا أحزن أو أغضب حينما لا أكتب لأنى كما قلت فإن القصيدة هى التى تكتب نفسها وهى التى تكتب الشاعر وليس الشاعر هو الذى يكتبها.

 

آمال: أستاذ نزار قبانى.. هل رسالة الشعر ثقافية أكثر أم اجتماعية أم سياسية؟

 

- نزار قبانى: كل هذه العناصر التى تفككينها شيء واحد، فأنا حين أقول فى شعرى فهذه الرسالة هى رسالة جيدة، وحين نقول حياة الإنسان فإن الشاعر يكتب لمصلحة هذا الإنسان، وأنا حين أكتب للإنسان فأنا أريد لهذا الإنسان أن يرتفع اجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا.

 

آمال: لأى الأعمار يكتب الشاعر نزار قباني؟

- نزار قبانى: الكتابة ليس لها عمر، ولا من نكتب إليهم لهم عمر، فالشعر مكتوب للزمن كله، فأنا أشعر أنى أكتب للمستقبل بقدر ما أكتب للحاضر، وأيضًا الماضى، أى للزمن من كل أبعاده من الأزل إلى الأبد. وأنا لا أكتب لسن محددة.

 

أنا أحب نرجسيتى

 

آمال: اتهمت مرارًا وتكرارًا بالنرجسية، ولم تحاول أن ترفع عنك هذا الاتهام... - نزار قبانى: وهل النرجسية عيب؟ أنا أعتقد أنه ليس هناك عمل شعرى أو إبداعى إلا حينما نحب ما نفعله وأيضًا نحب أنفسنا، فحب النفس ليس عملية مكروهة إطلاقًا، وأنا أعشق قصيدتى أولًا لأنها جزء منى، مثل المرأة حينما تحب الطفل الذى ولدته أنا أحب القصائد، لهذا أنا استغرب لم لا يكون الإنسان نرجسيًا، فالمرأة تفخر بنرجسيتها حينما تقف بالساعات أمام المرآة.

آمال: إذن فأنت لا تريد أن ترد الاتهام بل وتؤيده…

- نزار قبانى: أنا أحب نرجسيتى وأدعو الله أن يديمها عليَّ.

آمال: يقال إن نزوات الفنان هى تعبير عن نرجسيته، أو أنه لا يحب أنثى، بل يحب أن يرى نفسه فى عيون كثيرة.. فهل هذا صحيح؟

- نزار قبانى: صحيح جدًا.. فلا يوجد حب مطلق، فنحن حينما ندخل فى علاقة ما نريد أن نحب وأن نشعر بأهميتنا، لذلك فالمرأة التى تدللنا وتعطينا نرتبط بها بسرعة أكبر من المرأة التى تبتعد عنها أو تعاملنا بحياد، فالرجل حينما تعامله المرأة بحياد يعاملها هو أيضًا بحياد، فالرجل هو عبارة عن طفل يحتاج لمن يرعاه.

 السقوط عام

 آمال: ما هو تقديرك للموقف الشعرى اليوم فى العالم العربي؟

- نزار قبانى: السقوط عام، فلا يمكن أن نأخذ الأدب والشعر كشيء منفرد، فحياتنا العربية فى تساقط مستمر، ويبدو لى الآن أننا فى مرحلة عقم فى الوطن العربى، عقم سياسى واجتماعى واقتصادى وأدبى وشعرى.

 آمال: الشاعر العربى الكبير نزار قبانى.. أسألك أولًا ما هى الأحاسيس التى تولد عندك وأنت فى أمسية شعرية تقرأ قصائدك؟

- نزار قبانى: أنا مغنى الوطن العربى، وأمسياتى تعيدنى مدرجًا بدموعى ودمى، ففى بعض الأمسيات أتأثر لدرجة أننى أعود لأبكى كالأطفال فى سريرى، ففى آخر أمسية لى بالقاهرة بكيت وانسالت دموعى لأنى شعرت أنى بعد 40 عامًا من الكتابة ونظم الشعر، حصلت على الجائزة الكبرى، فأنا لا أريد إلا جائزة واحدة وهى جائزة الشعب العربى، فأنا أريد أن أقبض على كل ملايين العرب فى راحة يدى وأسمعهم الشعر.

 أنا مغنى الوطن العربى

 آمال: بالكلمة؟

- نزار قبانى: أنا لا أملك إلى الكلمة، فأنا لا أملك بندقية أو مدفعًا رشاشًا أو أى شيء، فالشاعر هو صوت قادر على الاختراق والإيصال، وهناك شعراء – للأسف – لا يصلون ولا يحلمون أن يصلوا إلى عشق الأشخاص، وهؤلاء أسميهم أنا شعراء العوانس، فهم لا يتزوجون لأنهم لا يستطيعون أن يتزوجوا أحدًا، ولا أحد يرضى أن يتزوجهم، وهذه وضعية كل شاعر لا يملك الصوت، فهناك من يدعون أنهم يريدون الكتابة للمستقبل، لكن أى مستقبل هذا، فالمستقبل مجهول ونحن لا نعرف ملامحه، أنا أريد أن أكتب لكل نخلة وكل شجرة ولكل حصاة وكل طفل وكل إنسان فى هذا الوطن العربى، فأريد أن أجلس معه على الأرض وأبكى معه وأحاوره وأمسح دموعه وأصغى إلى همساته وشكاواه، ثم أعيد كلامه مرة أخرى، فأنا أسمع كلام الناس ثم أعيد كتابته، ولا أخترع أو أكذب، فالشاعر الكاذب يسقط مهما طال الوقت، وكذلك المنافق والذى يلعب على كل الحبال، فأنا أعتبر نفسى شاعر الصدق، وشاعرًا يريد أن يغنى مواجع أمته، فنحن لدينا عشرات القضايا التى تجعل الناس يأتون لأمسياتى ليسمعوا دقات قلوبهم وليس دقات قلبى، فقلبى هو قلب هذا العالم العربى كله، ينبض فى كل بيت وتحت كل شجرة وتحت كل نافذة.

 آمال: إذن تذهب بكلمتك إلى عقر دار أى إنسان عربى وتقولها.. ويتجاوب معها…

- نزار قبانى: هذا صحيح، فأنا رجل أضيء، والكلمة عبارة عن بوق يضيء فى هذا الظلام العربى الشامل وهذه الجاهلية العربية، فوظيفة الشاعر ليست هينة، وهى أن ينير ما حوله من الظلام وعتمة الخرافات والأكاذيب وسخافات أهل الكهف.

 آمال: الكلمة قنديل مضيء أم نزيف مستحب كما وصفتها من قبل؟

- نزار قبانى: قلت إن الكلمة نزيف على الورق، لكنها ليست كذلك فقط، بل هى طوفان يغرق الدنيا من حوله، فأنا لا أستهين بدور الشاعر كما يفعل البعض ممن يدعون أنه خالٍ من الأسلحة، على العكس فأنا أعتقد أن الشاعر يستطيع أن يهدم عرشًا وأن يلقى نجومًا ويخترع نهارات جديدة، فنحن مخترعو النهار، والوطن العربى يحتاج بالفعل لمن يخترع له النهار.

 نحن نولد شعراء

 آمال: الشاعر العربى الكبير نزار قبانى.. تتحدث عن نهار الوطن العربى من خلال تجوالك وأنك فى كل مساحة جغرافية على خريطة الوطن العربى تركت بصمة أو قذيفة بالكلمات…

- نزار قبانى: الوطن العربى وطن مسكون بالشعر، والإنسان العربى إنسان دورته الدموية هى الشعر، بحيث إذا غرسنا دبوسًا فى لحم أى إنسان عربى فسيتدفق منه سائل بنفسجى اسمه الشعر، فنحن نولد شعراء بالقوة أى ينتظر كل وليد أن يكون شاعرًا أو متذوقًا، ونحن نرى التلميذ على مقاعد الدراسة إذا أراد أن يكتب أى شيء فيكتب حبًا، وإذا أراد الكتابة لحبيبة فيكتب لها شعرًا وهذا غير موجود فى أوروبا، فليس هناك قارئ أو عاشق أوروبى يستعمل الشعر لإقناع حبيبته إلا نحن، فبريد القراء فى كل المجلات يحتوى على كلمات لشعراء أكثر من رمال الصحارى العربية. 

أما بالنسبة لذهابى للمدن العربية فهو يتم على بساط من الشعر، فأنا أذهب إلى مدن لا أسمع عنها من قبل وأتساءل أثناء ذهابى عما سأفعله هناك، لكننى أفاجأ بأن كل من هناك ينتظروننى ويملأون القاعات، واكتشف أنهم يعرفوننى قبل أن يعرفوا وجهى وقبل أن أجيء إليهم حيث سبقتنى كلمتى إليهم، والحقيقة أن البعض يظن أن الكلمة هى عبارة عن دخان يبعثر فى الهواء ويذهب مع الريح، لكنه ليس بصحيح، فالكلمات عبارة عن بذور تنبت وردًا ولو بعد زرعها بعشرات السنين ولا يمكن أن تضيع مطلقًا، وأتذكر أننى كنت فى السودان وألقيت مرة فى نفس المكان الذى غنت فيه أم كلثوم فى اليوم السابق مباشرة، وزارنى وزير الإعلام السودانى فى الفندق فسألته أين سأقول شعرى، قال لى إنه فى نفس المكان الذى غنت فيه أم كلثوم، فخشيت من ذلك، وقلت له إننى شاعر ولا أملك تختًا فى حنجرتى ولا قانونًا ولا عودًا ولا أكورديون، ولا أملك صوت أم كلثوم ولا أدواتها ولا سمعتها فى العالم العربى، فضحك الوزير، وقال لى إننى لا أعرف الشعب السودانى، وأكد لى أن جمهور أم كلثوم نفسه سيكون بانتظارى، وبالفعل وقفت على المنبر ورأيت السودانيين بالجلباب الأبيض يتسلقون الشجر ويجلسون على أفرعها كالثمار الأفريقية المتهدلة وقد جاءوا ليسمعوا شعرى، ورأيت عشرات الأتوبيسات تمتلئ بمن جاءوا ليسمعوا شعرى وكأنهم جاءوا ليشاهدوا مباراة، ويومها انهمرت دموعى على وجنتى من هذا الموقف.

 آمال: كيف تستشرف عيون نزار قبانى المحدقة نهار الوطن العربي؟

- نزار قبانى: رغم كل الخراب المحيط بنا، وكل هذه الانهيارات والهزائم المحيطة بنا، أؤمن بأن الشمس ستشرق فليس هناك ظلام أبدى أو ليل دائم، بل أنا أؤمن بولادة إنسان عربى جديد يولد بمفعول شعرنا، فنحن بأشعارنا اليوم نريد أن نؤسس الإنسان العربى الخالى من العاهات، ونعطيه إشارات بأن هذا هو الظلام وهذا هو طريق النور، ونحاول بقصائدنا أن نؤسس لحركة تفجير للعالم القديم، ولكل سلبيات عالمنا التى ينبغى أن تنتهى وتجرف بعيدًا، حتى نؤسس الإنسان العربى الصحيح البنية والعقل.

 آمال: هل يمكن أن تقرأ بعض ما قلته لاستشراف النهار العربى وإزالة الحدود الجغرافية وتوحد الخريطة العربية فى وطن عربى كبير بلا حدود جغرافية؟

- نزار قبانى: هناك قصيدة اسمها «الحاكم والعصفور» أقول فيها:

أتجول فى الوطن العربى

لأقــــرأ شعـــرى للجمهـــور

فأنــا مقتنــع أن الشـــــعر

رغيف يخبز للجمهور

وأنا مقتنع منذ بدأت

بأن الأحرف أسماك

وبأن الماء هو الجمهور

أتجول فى الوطن العربى

وليس معى إلا دفتر

يرسلنى المخفر للمخفر

يرمينى العسكر للعسكر

تحتاج الكلمة فى وطنى

لجواز مرور  

أبقى مرميًا ساعات

منتظرًا فرمان المأمور

أتأمل فى أكياس الرمل

ودمعى فى عينيّ بحور

وأمامى ارتفعت لافتة

تتحدث عن وطن واحد

تتحدث عن شعب واحد

وهناك الجرذ.. هنا قاعد

أتقيأ أحزانى

وأدوس جميع شعارات الطبشور

وأظل على باب بلادى

مرميًا كالقدح المكسور.

 حاربت من أجل حرية المرأة والوطن

 آمال: تحولت من سطور الحب وقذائف الحب الموجهة إلى قذائف السياسة الموجهة، فغيرت جلدك الشعرى على مدار السنين.. فهل الموجّه لذلك كانت بوصلتك كشاعر التى أشارت لك بالتغيير، أم جاء التغيير من حدسك الخاص كإنسان؟

- نزار قبانى: أريد أن أقول هنا إن هذا الفاصل الذى وضعته بين شعر الحب وشعر السياسة عندى وهمى، فأنا مقاتل على كل الجهات، فكل ما كتبته عن المرأة كان قتالًا بالسلاح الأبيض من أجل حريتها وكبريائها وكرامتها، وأنا الآن أقاتل من أجل هذا الوطن الجميل الذى نسعى جميعًا لتأسيسه، والخطيئة الكبرى التى يرتكبها النقد أنه يفصل المرأة عن الوطن، وأنا لا أجد هذه الحدود، بل أعتبر أننى إذا حررت امرأة فإنى بصورة تلقائية أكون قد حررت وطنًا، فإذا كانت المرأة ذليلة ومستقرة والوطن حرًا، فلا يمكن أن يكون هناك وطن حر فى وجود امرأة واحدة فى سجن النساء الكبير.

ويضيف: ولهذا السبب فأنا أعتبر أن الحقيقة واحدة، ولا أعتبر نفسى قد انتقلت، بل لا أزال أقاتل من أجل أن تأخذ المرأة مكانها تحت الشمس، ولكى أفتح بالقوة هذه السجون والمعتقلات التى لا تزال المرأة رهينة فيها ومحبوسة منذ آلاف السنين، وطبعًا هناك نساء لا يردن أن يخرجن، وهذا ما لاحظته، فهن مقتنعات بهذا الدور العبودى، وبأنهن ملكات متوجات داخل السجن وهناك إناث يحترفن الثورة وأنا مع هؤلاء النسوة اللاتى يحترفن الثورة لأن قضية المرأة بالنسبة لى قضية كبرى.

 آمال: فى حوار لى معك منذ عشر سنوات تقريبًا قلت لى إن المرأة قد خذلتك رغم حربك من أجلها.. ألا تزال المرأة تخذلك؟

- نزار قبانى: بالفعل ما زالت تخذلنى المرأة، فأنا فى كثير من الأحيان أكون كمن يسير فى مظاهرة دفاعًا عن المرأة ثم ألتفت ورائى فلا أجد إلا الأحذية المهجورة، وكل المتظاهرات رجعن إلى بيوتهن، فقضية المرأة عندنا لا تسير بالإيقاع الذى من المفروض أن تسير به، فالمرأة يجب أن تكون حاكمة ووزيرة وقاضية وسفيرة، ولكن هذا الرجل الإقطاعى الديكتاتورى النرجسى لا يزال يحتفظ ويتمسك بامتيازاته، ولا يوجد مالك يتخلى عن أرضه وملكيته، والمرأة ملك يملكها الرجل كما يمتلك السجاد واللوحات والقصور والأشياء العادية، ومن الصعب عليه أن يسمح لها بأن تكون هى المالك وهو المملوك، وهذه هى طبيعة الرجل، فالثورة ضد الرجل لا يمكن أن تتم إلا عن طريق انقلاب ليس فقط على جسد الرجل بل على عقله أيضًا.

 بلقيس فازت باحترامى وحبى معًا

 آمال: الأستاذ نزار قبانى.. بلقيس زوجتك أو المرأة التى استطاعت أن تملك فكرك وأحاسيسك.. ما أميز ما فيها وكيف استطاعت أن تستوقفك كشاعر وكإنسان؟

- نزار قبانى: بلقيس أخذتنى كفكر، فهذه المرأة كان أهم ما بينى وبينها أننا استطعنا أن نقيم حوارًا فكريًا هادئًا متحضرًا بعيدًا عن نزوات الجنس والجسد، وبعيدًا عن نزوات الحضارة.. وبلقيس صديقة وهذا أهم شىء فحين أقول صديقة فإن هذا معناه أنه بصرف النظر عن الزوجة فهى رفيقة الطريق ومشوار الحياة الطويل.

 آمال: هل تتذكر حادثة أو واقعة معينة أو طريقة تتبعها معك بلقيس زوجتك يدلل على صداقتها الممتدة لك؟

- نزار قبانى: أنا كشاعر يتحدث فى شئون العشق معروف، وأعد خطيرًا لأن سمعتى فى العالم العربى كشاعر المرأة ليست طيبة كثيرًا، وبلقيس تتعرض باستمرار إلى مواقف صعبة بالنسبة للمرأة، والمرأة معروف أنها تغار ولا تقبل مزاحمات، لكنى فى خلال حياتى الشعرية ومحاضراتى وأمسياتى وحتى فى المنزل تتعرض هى دائمًا إلى مواقف أثبتت فيها أنها شجاعة ومتسامحة وأنها متزنة، مثلًا فى كثير من الأحيان أتلقى مكالمات وترد هى عليها وتفاجأ بامرأة معجبة تطلبنى وببساطة تعطينى السماعة، بل وتخرج من الغرفة، وتغلق الباب عليّ لكى أتكلم بحرية.

 آمال: ألا تغار بلقيس على حبيب العمر نزار قباني؟

- نزار قبانى: لا أستطيع أن أكتشف الأعماق، لكن لا بد أنها تغار، لكنى أعتقد أن هناك غيرة حمقاء وغير منظمة، وسألوها نفس هذا السؤال ذات مرة فقالت إنها تزوجت نزار قبانى وهى تملك كل أبعاده، وأى محاولة منها لتطويقى أو رسم دوائر حولى ستنهى نزار ولن يعد هناك أى نزار قبانى. وقالت: إن معجبات نزار يصبون فى خانة المجد الشعرى لأن نزار لو خسر معجباته فلن يبقى منه شيء على الإطلاق.

> آمال: إذن فإن بلقيس زوجتك تعتبر أن نجاحك كشاعر هو نجاح لكما معًا لمؤسسة قطباها نزار وبلقيس... - نزار قبانى: هذا طبيعى، فحين يتزوج الإنسان من إنسانة فالمفروض أن تكون الهموم مشتركة والمستقبل مشتركًا والرؤية مشتركة، وما يفعله الرجل هو للمرأة والرجل معًا، وأيضًا ما تفعله المرأة، فلا يوجد فى الحب أو الزواج شيء فردى بل لا بد أن تكون هناك وحدة مصيرية كاملة، وإلا فسيسقط الزواج ويسقط الحب معه. وبلقيس بتصرفها بهذا الشكل النبيل، ريحتنى وفازت باحترامى وحبى معًا، لأننى طفل مشاغب ولو أثارتنى بأى شيء أو منعتنى من أى شيء فسأثور وأصرخ كأى طفل تمنع عنه الشيكولاتة، ولكنها دائمًا تعطينى الشيكولاتة وهى تبتسم، وأيضًا هى ليست كالزوجات اللاتى يحولن حياة أزواجهن لسلسلة من المعارك وهن نساء غبيات.

 آمال: أستاذ نزار قبانى.. ما الذى يجذب انتباهك لأى امرأة حين تقع عيونك عليها لأول مرة؟

- نزار قبانى: ذكاؤها، لأنى لا أستطيع أن أقول إن امرأة جميلة لمجرد أنى أراها كهيكل، فإذا لم تفتح المرأة فمها وتتكلم وأعرف كيف تتكلم فأبقى دائمًا فى موقف محايد منها، ولا أستطيع أن أهتم بجسد فقط يشبه اللوحة، واللوحة لا تعنينى فى شيء قبل أن أفهمها، وكذلك بالنسبة للمرأة فأنا أنتظر على المرأة وأعطيها المجال لكى تفصح عن نفسها وعن أبعادها وخلفياتها، ماذا تحب وماذا تكره، وأنا أعترف بأنى لا أستطيع أن أحب امرأة أو أعجب بها إذا لم تكن على مستوى شاعرى مثلى أو أن تهتم على الأقل بالشعر مثلى، فلو رأيت ملكة جمال بعيدة عن الشعر فلا يمكن أن أعجب بها.

آمال: أنت إذن تخاصم أى امرأة يخاصمها الذكاء والتذوق الشعرى أو الإحساس الجمالى…

- نزار قبانى: لا أخاصمها بل لا أتعاطى معها إطلاقًا، وكثيرًا ما رأيت جميلات ثم اكتشفت بعد زوال المفاجأة الأولى أنهن لا شيء شعريًا ولا شيء من حيث الذكاء فأدرت ظهرى إليهن ورحلت لأنى لا أبحث عن مانيكان ما أكثرهن فى محلات الأزياء، بل أريد من تفهم أهميتى كشاعر.

 آمال: ألا تزال المرأة تساندك فى الدفاع عن حريتها شعرًا؟

- نزار قبانى: بكل أسف أعترف أن هذا صحيح، وقد يستغرب الكثيرون من ذلك ويعتبرونها نوعًا من القسوة منى، لكنى لست قاسيًا بل موضوعيًا وكل من عرفتهن من النساء ودخلت معهن فى حوار طلبن منى ألا أعذب نفسى وقلن إنهن لا يردن الحرية التى أنادى بها بل يردن البقاء فى عصر الحريم.

آمال: أنت سافرت كثيرًا ورأيت المرأة الأوروبية، هل التضاريس الفكرية للمرأة الأوروبية مختلفة عن المرأة العربية؟

- نزار قبانى: أولًا أعتقد أن المرأة العربية تضاريسها الفكرية خفيفة بعض الشيء، لأن همومها مع الأسف هموم خارجية وسطحية تتعلق بالزينة والشعر وبآخر مبتكرات الموضة، وهو ما يشغل المرأة بشكل يومى وسخيف. أما المرأة الأوروبية فهمومها أنها لم تعد تلتفت إلى هذه الأشياء ففى آخر مرة ذهبت فيها إلى أمريكا وجدت المرأة تلبس ملابس بسيطة وواحدة ليل نهار تقريبًا وتلبس الخف فى قدميها، وشعرها مرمى على كتفيها ولا تشعر بأنها معقدة لأنها لم تغير فستانها خلال اليوم كله.

 آمال: هل المرأة العربية أسيرة للموضة والأنوثة؟

- نزار قبانى: نعم مع الأسف هى أسيرة للموضة، والموضة متحركة ولا تنتهى ففستان يمحو فستانًا آخر خلال ساعات قليلة، وهذا نوع من الابتزاز للمرأة سواء كانت المرأة مثقفة أم غير مثقفة وسواء كانت غنية أو فقيرة، فهى دائمًا ملاحقة بكرباج يسمى كرباج بيوت وعروض الأزياء.

 آمال: هل يمكن القول إن المرأة الأوروبية تقع فى أسر اختيارى للفكر والتحضر؟

- نزار قبانى: ليس أسرًا اختياريًا، لكنها موجودة فى إطار الجرائد والكتب والتليفزيون المثقف والإذاعة المثقفة، والمجتمع نفسه أبوها وأمها وأخواتها والمتاجر وكل شيء فى مستوى فكرى واحد.

آمال: إذن فالعيب ليس فى المرأة العربية، بل العيب أنها تفتقد للمناخ…

- نزار قبانى: لو تحدثنا عن المرأة الجامعية، فإن المناخ موجود لديها، فالمفروض أن البنت التى تلتحق بالجامعة تختلف اختلافًا ولو جزئيًا عن أمها أو جدتها أو البنات اللاتى لم تتح لهن فرصة الالتحاق بالجامعة، لكن مع الأسف فإن الجامعية أيضًا داخل الدوامة لدرجة أن الجامعة أصبحت مكانًا لعرض الأزياء، وهذا رغم أن المرأة المثقفة من المفروض أن تكسر هذا الطغيان للأزياء، وأن يكون للفكر ولأمور الحياة الأعمق مكانًا بارزًا فى حياتها وفى حياة المرأة العربية بشكل عام.

 آمال: هل فقدت الإيمان تمامًا بقدرات المرأة العربية؟

- نزار قبانى: من الظلم أن أقول ذلك، لكنى ألاحظ ما قلته على المرأة العربية، والفرق بينها وبين المرأة الغربية، لكننى أكرر أننا نمر بفترة انتقالية سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو ثقافيًا، فنحن نركب الآن موجة تحملنا إلى أعلى عليين وتخفضنا إلى سابع أرض، ففى اعتقادى أننا لا بد أن نصل لزمن تستقر فيه النفوس وتعمق مجال الثقافة، ويصبح اهتمام المرأة أوسع من اهتمامها بالحلى والزخارف الخارجية وعندئذ ستصحح الأمور.

 آمال: بصراحة.. ألم يستوقفك نموذج لسيدة عربية استطاعت أن تكون ريادة للمرأة العربية وتبشر بأن تحمل لواء الثورة على عاتقها وتتعلم منها الفتيات كيف السبيل للرفض والاختيار والإرادة؟

- نزار قبانى: طبعًا لقد مر فى حياتى الكثير من النساء كان بينهن المرأة التى لديها الطموح أن تتجاوز نفسها، وتتجاوز فكرة القبيلة وفكرة الجارية أيضًا.

 حين روجت قصائدى مع النغم تغير حالى

 آمال: ماذا أضاف الشعر المغنى لك؟

- نزار قبانى: الكلمة المغناة سلاح خطير جدًا لأنها طرحتنى على مسافات ضوئية تحتسب بآلاف السنوات الضوئية، وأنا لو كنت استمريت شاعرًا ينشر ديوان الشعر على ورق ويبيعه فى كتاب لما كان قد انتشر إلا بين الآلاف فى الوطن العربى الذى يتألف من الملايين، لكن حين روجت قصائدى مع النغم تغير حالى، لأن الشعب العربى يقرأ بأذنيه، فهناك من ليس لديهم كتاب ولا يقرأون الجرائد أو المجلات، لكنهم لديهم راديو وتسجيل وتليفزيون، وأنا لو كنت أعلم هذه الحقيقة المذهلة لطرقت هذا الباب من زمن طويل، فكان من المفروض أن أتعامل مع الأستاذ عبد الوهاب من الأربعينيات، وكنت وقتها دبلوماسيًا بالقاهرة وكنت أكتب الشعر فلو أننا بدأنا منذ ذلك التاريخ فى زواج الكلمة باللحن لكنا صنعنا أشياء عجيبة جدًا.

ويكمل: لكن هذا لم يحدث لأن شعرى كان انقلابيًا، وكان الناس يخشون مروره عبر الموسيقى، إلى أن جاء مطرب رائع وثائر وانقلابى عظيم وهو عبد الحليم حافظ، فحينما التقيت به عرفت أن الطريق معه هو طريق الثورة، وبالفعل غنى لى قصيدتين هما «رسالة من تحت الماء» و«قارئة الفنجان» وأعتقد أن هاتين الأغنيتين غيرتا مجرى الأغنية فى العالم العربى، وكانتا انقلابًا حقيقيًا على كل شىء، وأعترف هنا بأنه لولا الفكر الانقلابى لعبد الحليم حافظ لما حدث كل هذا، ولكنا ظللنا كلاسيكيين ونغنى كما غنى أجدادنا من أيام إسحق الموصلى حتى عبده الحامولى.

 آمال: ألم يغير عبد الحليم شيئًا من كلمات الأغنيتين؟

- نزار قبانى: غير مرتين، الأولى كانت بإطالة مقطع بالأغنية، فقد اتصل بى ذات يوم الساعة الرابعة صباحًا وقال لى إنه يحتاج لإطالة المقطع لأن محمد الموجى وضع جملة موسيقية أطول من المقطع، فطلبت منه مهلة حتى اليوم التالى وأضفت أبياتًا تقول:

والشعر الغجرى المجنون    

يســــافر فــــى كـل الدنيـــا

قد تغدو امرأة يا ولــــــــدي    

يهواها القلب هى الدنيـا

فطلب تغيير كلمة «الدين»، وقال إنه لن يقبل إيراد كلمة الدين فى الشعر، فقلت له إنها هنا كلمة بريئة لا أهدف منها إلا تأكيد قوة الحب، وحينما صمم تركت له حرية تغيير الكلمة لأنى كنت متعلقًا بشدة بهذا البيت فوضعوا كلمة «فداء للمحبوب». ورغم عدم موافقتى عليها فقد سمحت بها فى سبيل اكتمال الأغنية.

 الناقد لدينا معقد تاريخيًا

 آمال: الشاعر الكبير نزار قبانى.. أنت والنقاد.. هل أنصفتك الأقلام النقدية حول كلماتك؟

- نزار قبانى: الحقيقة التى لا بد أن أبوح بها هى أننى لا أكترث بالنقاد، فالناقد لا يصنع شاعرًا ولا يقدم له أى شيء، وكل من لمعوا وتوهجوا فى مجال الفن مشوا وحدهم بدون معونة أى ناقد بأى شكل كان، لذلك فكل مطرب أو شاعر أو ملحن لا بد أن يسير على الشوك وحده حتى يصل.

والناقد لدينا معقد تاريخيًا لأنهم يقولون إن الناقد سبق له أن كان شاعرًا فاشلًا ثم أراد أن ينتقم من الشعراء، وهذا صحيح مائة بالمائة، ولهذا فالنقد لدينا قائم على العدوان، والناقد حينما يقرأ كتابًا لا يقرأه بمحبة ويتحامل عليه بصورة مسبقة، فالنقد عندنا يشبه نقر الدجاج بالمخالب والأنياب يهجم الناقد على الأثر الفنى بلا موضوعية بل نقد هدام بكل معنى الكلمة، وليس صادرًا عن رغبة حقيقية فى تجميل أو إضاءة الأثر الفنى.

ويضيف: والناقد الحقيقى يأخذ صورة من الصور ويسلط عليها الأضواء، أو يأخذ قصيدة ويحاول كشف زواياها ومناطقها الجمالية، أما عندنا فلا يوجد شيء من هذا، وأخطر ما فى النقد أنه وصل للجرائد اليومية، بينما كان النقد فى الماضى فى زمن طه حسين والعقاد كان فى كتب ومجلات متخصصة، وأنا أتساءل كيف يمكن لكتاب أو ديوان شعر أن ينقد فى نصف عمود فى جريدة يومية، فهذا يُعد نوعًا من التشويه أو الاغتيال.

 آمال: مرة أخرى أسألك سؤالًا قد ترفضه.. هل تحب أن تلقب بشاعر السياسة أم شاعر الحب أم شاعر المرأة؟

- نزار قبانى: كل هذه قوارير يا سيدتى، وأنا لا أحب سكنى القوارير، فأنا نزار الشاعر، وإذا سميت بالشاعر الإنسان فمن الطبيعى جدًا أن يكون الشاعر إنسانًا، أما بقية الألقاب فهى كالألقاب العثمانية التى تطلق بفرمان وتلغى بفرمان، أنا لا أريد أيًا من هذه الألقاب لأن كل التعاريف هى عبارة عن دوائر مرسومة بالقلم الرصاص حول الشاعر.

بداياتى كانت فى مصر

 آمال: ربما يريد الشعراء أن يتعرفوا على الينابيع التى نهلت منها ثقافتك، سواء كانت ينابيع إنسانية أو تاريخية؟

- نزار قبانى: الحقيقة أنا أتكئ فى تجربتى الشعرية أولًا على التراث العربى بكل عصوره، التراث الشعرى والأدبى والقصصى من العصر الجاهلى وحتى سقوط الدولة العباسية، وأتكئ على التراث الفرنسى أيضًا، لأن بداياتى وثقافاتى الأولى كانت ثقافة فرنسية، إلا أن أهم مصادرى التى اتكأت عليها لأكتب شعرًا هى الرحيل، فالرحيل كان من أهم العناصر التى أمدتنى بالألوان والتجارب الإنسانية لأن شعرًا بدون تجربة لا يمكن أن يكتب، وهذا لعب فيه السلك الدبلوماسى لعبة خطيرة لأنه منذ مطلع شبابى تعاملت مع أنماط مختلفة وزرت بلادًا عديدة، فمثلًا لو لم أكن دبلوماسيًا لم يكن من الممكن أن أحلم أن أزور الصين مثلًا وأقيم فيها سنتين وأيضًا ذهبت إلى الهند ومختلف الدول الأوروبية.

ويكمل: لكن بداياتى كانت فى مصر، وأول بعثة لى كانت فى القاهرة، ومن هذه التجربة ربحت كثيرًا واستفدت لأن القاهرة فى الأربعينيات كانت عاصمة العواصم، وكانت تشبه – إلى حد ما – باريس فى تدفقها وينابيعها الفكرية وفى المفكرين والشعراء الكبار الذين كانوا فيها خلال هذه الفترة، ثم بدأ الرحيل فذهبت إلى إنجلترا ثم بيروت بعدها إلى الصين وإسبانيا، والتجارب الجادة التى استفدت منها بالفعل هى مصر وبيروت وإسبانيا وإنجلترا، وكل إنسان قابلته هذه الفترة من تجوالى استفدت منه كالكتاب المرئى.

 آمال: الشاعر الكبير نزار قبانى.. ماذا تعنى عندك هذه العبارات من أقوالك؟

«أنا أقف على أرض التوقع والنبوءة...»

- نزار قبانى: الأشياء المحددة التى لها حضور لا يتغير أضيق بها، فمثلًا القصيدة العمودية هى جسد لا يقبل التغير ولهذا فأنا أرفضها كما أرفض أى شيء ثابت فى مكانه، فهو يشبه الإنسان الذى لا يريد أن يتطور ولا يسمح لمن حوله بأى تطور. لذلك فقد قلت «أنا أقف على أرض التوقع» أى أننى أعيش دائمًا على انتظار ما لا ينتظر، وأريد أن أعلم ما لم أكن أعلم، فالمرأة التى فى البال أجمل عندى من المرأة الموجودة أمامى، لأن التى لم تحضر تحمل كل عناصر التشويق والخيال والتوقع، أما المرأة التى تقف أمامى فهى عبارة عن رسم مكتمل الملامح.

 آمال: وقلت أيضًا إن القصيدة التى لا تخرج للناس هى كالسمكة الميتة…

- نزار قبانى: طبعًا.. فهم يقولون إن نزار قبانى شاعر جماهيرى، بمعنى الإساءة لى وليس المديح، وأننى شاعر الرواج، وكأن انتشار شعرى بين الجمهور جريمة، لكن أنا شاعر الأكثرية العربية ولست شاعر الأقلية، ولا أقبل أن أكون شاعر الجيتو الشعرى، والجمهور هو الماء الذى تسبح فيه الأحرف، وبدون هذا الماء أختنق أنا وقصائدى، فالأحرف كالسمك والجمهور هو الماء الذى تسبح فيه هذه الأحرف، ولا يبقى سمك على قيد الحياة بلا ماء.

 آمال: وماذا قصدت حين قلت «تحولت المرأة من خاتم فى إصبعى إلى سيف يذبحنى»؟

- نزار قبانى: وقلت مرة أخرى «إلى عروة فى ثوبى» والنساء ذابحات من الطراز الأول والرجال يقبلون هذه الجريمة الجميلة، وبدون ذبح ودم على الثياب وعلى الوسادة يكون الحب نظريًا، بل لا بد أن يكون الحب مأساويًا، وكل الروايات والقصائد الكبرى فى العالم مأساوية. والفرح عقيم وعاقر ولا يعطى أى شيء ولكن لا بد من الحزن، وأنا حين أتبلل بأمطار الحزن أبدأ بالكتابة.

 آمال: من أنت فى كلمات؟

- نزار قبانى: أنا إنسان يحاول أن يسعد الآخرين بكلماته.

ويضيف: الكلمات نزيف على الورق، وأعتقد أن الإنسان لا يكتب على الورق بل يموت عليه، والشاعر الذى لا يموت على دفاتره هو شاعر عادى جدًا، ولا يمكن أن يقنع الآخرين وأنا إذا لم أنزف لن أستطيع أن أقنع الآخرين بأننى أنزف حقيقة، وإذا لم أحزن فلن أستطيع أن أقنع الآخرين بأن أجمل ما فى الوجود هو زهرة الحزن، وإذا لم أعشق فلن أستطيع أن أقنع الآخرين بأنى أموت عشقًا.

 آمال: كم مرة استشهدت فيها عشقًا؟

- نزار قبانى: آلاف المرات، لكن الله كان رحيمًا بى، فدائمًا كنت أستشهد وأُبعث من جديد.