السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

فيمينيزم الدكتورة شيرويت ترقد فى سيارة ليموزين! "الحكاية الثامنة"

على صفحات المَجَلّة التى شهدت معاركه وتجربتَه الفريدة، نستعيد مع الأستاذ «عادل حمودة» أحدَ أهَمّ تحقيقاته الصحفية «ستيك هاوس.. شخصيات لامعة فى زنزانة الجنس الانفرادى».



هنا تصبح الكلماتُ بساطًا سحريًا ينقلك لتعرف الكثيرَ من الخبايا خلف الأبواب المغلقة، والبيوت التى ربما نَمُرّ أمامَها كل يوم لكن لا نعرف أىَّ شىء عمّا يدور بداخلها، يغزل بحكاياته الوجه الآخر لمشاهير وصعاليق.. فنانين وكُتّاب.

استطاع بحسّه الصحفى الذى لم يغادره أبدًا أن يغوص بنا فى أعماق وتفاصيل مجتمع «الشخصيات اللامعة»؛ ليظهر لنا جوانب حياتهم التى جاهدوا لبقائها بعيدة عن الأضواء.

ينتقل الأستاذ «عادل» من دراسة أسباب انتشار ظاهرة «زنَى المَحارم» فى العشوائيات وقتها، إلى قصر أحد الدعاة الذى تورّط فى علاقة مُحرّمة مع شقيقة زوجته.

أيضًا تكشف حكايات الكتاب الكثيرَ من التناقضات فى المجتمع وقتها فيما يخص علاقتنا بالدِّين؛ حيث يكشف تفاصيل قضية رشوة تورّطت فيها مهندسة مع مقاول شهير، ودخلت معه فى علاقة جنسية «لكنها لشدة تدَيُّنها كانت ترفض أن تلقاه يومَىْ الاثنين والخميس لأنها تصومهما»!

بين العشوائيات والقصور، نتعرّف خلال الحلقات المنشورة على حكايات لم نعلم عنها شيئًا.. حكايات مدهشة رُغْمَ مرور سنوات عليها.. وتفاصيل تؤكد أن فنون العمل الصحفى لا يزال لها بريقُها الخاص وأهميتُها فى رصْد ظواهر المجتمع بشكل محترف حتى فى زمن السوشيال ميديا..

 

بَنَتْ شهرتَها على كراهية شهريار.

اعتبرته سفاحًا مغتصبًا عاجزًا جنسيًا ومريضًا نفسيًا، باختصار وصفته بأنه أكبر بلطجى عرفه التاريخ، يستلقى كل ليلة على عشر مخدات مثل خنزير برّى، تأتى مَن عليها الدور من نساء مملكته لكى يغتصبها، ثم يأمر سَيّافه بذبحها، وما إن يرى الدم حتى تهدأ أنفاسُه ويغوص بأصابعه وأظافره فى وليمة العشاء.

وصفته بعدوّ «الفيمينيزم» الأول، والفيمينيزم هى النسوية، والنسوية نظريات وحركات وفلسفات تدعو إلى إنصاف المرأة، وترفع من شأن خصائصها، وتسعى بكل الوسائل إلى القضاء على أشكال القهر التى تعانى منها بسبب صنفها أو نوعها.

إنها تتجاوز المساواة بالرجل إلى ما يجعل المرأة متميزة بالحكمة والجاذبية.

وجذبت الفيمينيزم فى مصر أجيالاً جديدة من النساء المتعلمات والمثقفات والناشطات وإن اعتبرتها نوعًا من التمرد على كل ما يمت للذكورة بصلة بما فى ذلك شخصيات خرافية مثل «شهريار» الذى افترسته فى محاضراتها وندواتها.

لم يشفع له عندها خيانة زوجته مع أحد عبيده فى حجرة عرشه، ولم تقدّر أن الخيانة طعنت أخاه الأكبر حين ضبط زوجته عارية فى «فسقية» القصر الملكى وحولها عشرون عبدًا وجارية يمتعونها من الضحى حتى ولى النهار، ولم تقدّر أن المَلكين تنازلا عن عرشهما بعدما أصابهما من انكسار فى الروح أصبح وشمًا فى القلب يصعب إزالته.

بل إنهما سافرا متنكرين لعلهما يكتشفان سر جبروت المرأة التى تقدر على الخيانة ولو كانت فى قمقم مغلق بإحكام ومستقر فى بطن حوت بعد أن ألقى فى محيط بعيد.

فى طريقهما وجدا عين ماء شربا منها، اتجها إلى الشاطئ ليستريحا، فجأة هاج البحر بشدة، خرجت منه سحابة سوداء مصحوبة برعد يصم الآذان، خافا، طلعا إلى أعلى شجرة، تجسّد أمامهما عفريت من عفاريت سيدنا «سليمان»، يحمل على رأسه صندوقًا من زجاج مغلق بأربعة أقفال.

جلس العفريت تحت الشجرة، حط الصندوق بجانبه، أخرج من جيبه أربعة مفاتيح، فتح الأقفال، أخرج من الصندوق صبية «تامة القامة قاعدة النهود حلوة المبسم وجهها كأنه بدر التمام»، نظر إليها نظرة عشق يصعب محوها قائلاً:

«يا ست حرائر النساء كلها يا مَن اختطفتها ولا أحد وانسها أو جامعها غيرى يا حبيبة قلبى نيّمينى على فخذك، أشتهى النوم قليلاً».

تكمل الصفحات الأولى من كتاب «ألف ليلة وليلة» الذى طبع أول مرة بحروف عربية فى الهند عام 1814م، ولكننا صححنا ما فيها من أخطاء نحوية ولغوية وخففنا من الخلط بين الفصحى والعامية مع حذف الكلمات العارية التى تكررت فيها كثيرًا:

«حط «العفريت» رأسَه على حجْرها ونام وكان شخيره مثل الرعد، رفعت الصبية رأسَها فنظرت شهربان «أو شهريار» وأخاه «شاه زمان»، أنزلت رأس العفريت بلطف وطلبت منهما أن ينزلا، قالا لها: وحياتك يا سيدتى تعفينا من النزول. قالت لهما: إن لم تنزلا سأدع العفريت زوجى يأكلكما. نزلا حتى وصلا إليها، نامت على ظهرها قائلة: جامعونى وإلا نبّهت العفريت. قالا لها: يا ست بالله عليكِ تعفينا من هذا الأمر ما نحن إلا فى شدة خوف من هذا العفريت. قالت لهما: لا بُدّ من ذلك، وحلفت لهم برافع السماوات إن لم يفعلوا معها مرادها ستدع العفريت يقتلهما».

جامعها الأكبر، ثم نام معها الأصغر، ولما انتهيا أخرجت من ثيابها صُرّة بها ثمانية وتسعين خاتمًا، قالت لهما: أتدرون أن هذه الخواتم خواتم ثمانية وتسعين رجلا جامعونى، أعطيانى خاتميكما، فأعطياها، أخذتمها قائلة: ها قد صاروا مئة رجل «..» على قرن هذا العفريت الدنس النجس الذى حبسنى فى هذا الصندوق وقفل على بأربعة أقفال وأسكننى وسط هذا البحر المتلاطم الأمواج وصاننى لكى أبقى حُرّة ولا أحد يجامعنى غيره، ولم يعلم أن المقادير لا ترد ولا تمنع شيئًا تريده امرأة لو شاءت، لا أحد يقدر أن يمنعها عنه.

فلما سمعا كلامها تعجب المَلكان وقالا: يا الله يا الله لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم نستعين به على كيد النساء. إن كيدهن عظيم.

شعرا أن مصيبة العفريت أعظم من مصيبتهما فرجعا إلى مملكتهما بعد أن تعاهدا على عدم الزواج.

ما إن وصل «شهريار» إلى قصره حتى قتل زوجته والجوارى وأحضر غيرهن وحلف أنه فى كل ليلة سيدخل على واحدة وفى الصباح يقتلها، وظل على ذلك الحال حتى فنيت البنات ولم يبق منهن إلا بنت وزير البلاد، شهرزاد ودنيازاد.

 وهكذا بدأت حكايات ألف ليلة وليلة التى أصبحت بمثابة دستور دائم لنا فى الشرق.

إن ثقافة شهرزاد العريضة والمتنوعة والراقية وبراعتها فى الحَكى جعلت شهريار يؤجل ذبحها يومًا بعد يوم حتى تزوجها.

اعتبرت الدكتورة «شرويت القاضى» شهرزاد نموذجًا للمرأة الفيمينيزم التى تنقذ النساء من تعسف الرجال وصاغت ذلك فى مقال طلبت من شريف فتحى نشره فى الصحيفة التى يرأس تحريرها بعد أن اقتحمت مكتبه دون موعد سابق.

رحب الصحفى الشهير بنشر المقال رغبة منه فى إرضاء تيارات نسوية انتشرت فى الجامعات والمنتديات الأدبية والجمعيات الأهلية، لعل المنتميات إليها ينضممن إلى جبهة التصدى للإرهاب الذى كان على أشده فى ذلك الوقت من منتصف تسعينيات القرن الماضى.

- اسمعى يا دكتورة، أنا رأيى أن شهريار مظلوم، فهو لم يكن ذلك السفاح الرهيب الذى يقتل النساء ويمتص دماءهن، شهريار مثل كل الأطفال يحب سماع حكايات قبل النوم، وعندما اكتشفت شهرزاد تلك الثغرة الطفولية فى شخصيته لعبت عليها، فلم يكن أمامه سوى الاستسلام لها والزواج منها.

شهريار فنان يبحث عن امرأة تثير خياله وفضوله وتتركه فى كل فجر معلقًا على حبال الإثارة منتظرًا على أحر من الجمر استكمال الحكاية التى تجر معها حكاية.

أمّا المرأة البليدة الميتة الإحساس التى تنام إلى جواره وكأنها منحوتة من ثلج وتشخر فكان يذبحها من شدة الغيظ والمَلل، وأنا أعطيه الحق فى ذلك، ولو كنت مكانه لذبحتها.

قالت:

- لكنك تقدم نفسَك إلينا محاميًا عن المرأة، كيف تفسر هذا التناقض؟

أجاب:

- ومازلت محاميًا عن المرأة، ولكنى لا أسمح لنفسى ولا يسمح القانون بالدفاع عن امرأة متلبسة بجريمة الغباء والثرثرة والتسلط ودفن الأنوثة تحت السرير.

وأضاف:

- ماذا يفعل رجل متفتح مع امرأة تفضل أن تكون قطعة أثاث فى بيته وتقيم علاقة خاصة مع السجادة والبلاكار وأدوات المطبخ لا مع الرجل الذى تحبه.

فجأة وجدها تهب من أمامه غاضبة وهى تخطف مقالها وتمشى منفعلة وتعطيه ظهرها وقبل أن تخرج من الباب التفتت إليه قائلة:

- خُدعت فيك، إيمانك بالمرأة قشرة من ذهب على خشب نَخَر فيه السوس!

اعترف بينه وبين نفسه بأن الجملة أعجبته، مَن يعشق الكتابة مثله يقدر الصياغة حتى لو كانت هجاء ضده، ولكنه فى الوقت نفسه أهمل ما سمع بعد أن انشغل بجسدها الذى أصابه على ما يبدو بصدمة.

جسم عريض، مبطط، ضاعف الطول من حجمه، وزاد الشعور بضخامته تواريه وراء ملابس يمتد ذيلها إلى الأرض.

مؤخرة تعرضت لدهس من «وابور زلط» كأنها سُوّت بالظهر، صدر ممتلئ، بدا تحت ثيابها مترهلاً، متشققًا، خصر مستقيم لم يقترب منه إزميل نحات، وفخذان فى حاجة إلى أكثر من جراحة لشفط الدهون، لا بُدّ أن يتضاعف حجمهما فى اللحظات التى تمارس فيها حياتها الجنسية.

والحقيقة؛ أنه لم ينتبه إلى جسمها وهى تدخل حجرة مكتبه، فقد شدّه وجهها بملامحه الفارسية أو الغجرية أو الكوردية، شعر فاحم نادر تنفرد به الخيول السمراء يجمع الليل فى خصلاته وينثرها على كتفيها، عينان متسعتان تستوعبان سماء من السواد الحالك، وسط كل منهما قمر يضىء بأشعة فضية، بهما جرأة غير مقصودة، تخجل صاحبتهما منها فتبلع ريقها بصعوبة وهى تصدر صوتًا أشبه بالنحنحة وكأنها تعتذر عن سوء الفهم غير المقصود.

فى المساء التالى وجدها فى مكتبه مرّة أخرى وهى تحمل وردة حمراء وضعتها أمامه فوق مقالها، وبالنحنحة التى تكشف عن خجلها كررت اعتذارها عما بدر منها فى الأمس، ولكنها أضافت كلمات جريئة وضعته فى حالة حيرة ولو لثوانٍ:

- شعرت بالغضب منك، جرحت أنوثتى بتجاهلك لنظرات الإعجاب التى بدت فى عينى تجاهك، لو لم تمانع أدعوك إلى بار، وبعدها سنفعل ما تُحرّضنا عليه مشاعرنا.

لا بُدّ أنه ارتبك، وربما خجل، وربما أحس بذهول الصياد المحترف الذى تعوّد التحايل على الفريسة حتى يوقع بها فإذا بالفريسة تلومه على تجاهله لها، كأنها لا تغريه، أو كأنه انتقص من إغرائها.

والمؤكد أن رجلاً مثله موهوب فى جذب النساء إليه يعرف جيدًا أن المرأة هى التى تختار الرجل وإن تركته يتصور أنه اصطادها وأوقعها فى شباكه حتى تُرضى غروره وتشبع غريزة القنص التى ورثها عن جده إنسان الكهف الأول، ولكن ذلك لا يمنع أن الرجل من جانبه عليه أن يلفت النظر إلى المرأة- بأناقته وبلاغته وشخصيته ومظاهره ومناصبه وخفة ظله- حتى تتجه نحوه وتختاره وربما تحبه.

لكن يبدو أن الفيمينيزم لها أسلوب مختلف، مادام هناك ما هو أكبر من المساواة، فما الداعى للفّ والدوران، لتتجه المرأة صوب الرجل مباشرة، مثلها مثله، وتعرض عليه بجرأة وصراحة ما تريد، «لنسكر معًا» «لنعبث معًا» لنذهب إلى الفراش معًا، وغالبًا يندر أن يوجد رجل يرفض مثل هذا العرض ولو من باب «الطفاسة».

على أن شريف فتحى لم يعجبه جسدها، إنه يُفضل المرأة النحيفة الرشيقة الجسم، الشهوانية الوجه، القادرة على التعبير عن مشاعرها بصراحة فى النهار، وبوقاحة فى الليل.

اعتذر عن دعوة البار، وأمسك بالمقال ليقرأه، لكنه قبل الفقرة الثالثة وضعه أمامها قائلًا:

- المقال كتب على ما يبدو بلغة أجنبية ثم ترجم إلى العربية، الصياغة ركيكة، ضاعفت من صعوبة فهم الموضوع الغريب على القارئ.

- نعم أنا لا أجيد الكتابة بالعربية، دراستى كلها بالإنجليزية من الحضانة حتى الدكتوراه، أشعر بالخجل من كتاباتى العربية، مَن غيرك يعلمني؟ علمت صحافيين لا حصر لهم حتى أصبحت مَدرسة فى المهنة فلِمَ تبخل عليّ؟

هز رأسه موافقًا ورفع سماعة التليفون ليطلب مسئول الصياغة فى الجريدة قائلًا:

- سأرسل لك تلميذة تحمل الدكتوراه تعامَل معها من أول السطر وسأشرف بنفسى عليها.

وهكذا أصبحت شيروت القاضى تلميذة فى مدرسة فتحى وقريبة منه، وبقدرته على إقناع أكثر الناس تحفظًا بالحديث عن أنفسهم عرف عنها ومنها ما يريد بعد أن شعر أنها حالة خاصة يصعب تكرارها.

بدا واضحًا أنها تحب أباها إلى حد الجنون رُغم أنه لم يعد على قيد الحياة، لم تكن لتتحرك من مكانها إلا ومعها صورته ودون مبرر كانت تظهرها لمن يصادفها من البشر سواء كانت تعرفهم أو لا تعرفهم، حالة من النشوة تعتريها كلما أخرجت الصورة من محفظتها.

الصورة التى تكسّرت بمرور الوقت التقطت لرجل وهو فى الأربعين من عمره، وسيم، يشبه رشدى أباظة، يرتدى سترة طيار، وتجمع ابتسامته بين الجاذبية والجدية، ويوحى بأنه زير نساء يعرف كيف يسيطر على قلب المرأة بسهولة ويعرف أيضًا كيف يحطمه بنفس السهولة.

والمثير للدهشة أنها لم تكن لتكف عن رواية أساطير عن مغامراته العاطفية التى طالت نجمات سينما وسيدات مجتمع حفى الرجال وراءهن، منهن راقصة هزت الصالات والبلاتوهات تزوجها سرًا لكنها أصرت على الطلاق بعد أن خانها مع امرأة أخرى لم يجد مفرًا من الاقتران بها بعد أن حملت منه.

هناك احتمال كبير أن تكون شيروت ثمرة تلك العلاقة العابرة بين أبيها وتلك الموظفة البسيطة التى جاءت إلى بيته ذات مساء لتسلم له وثيقة التأمين على الحياة.

والملفت أنها رغم دعوتها النسوية تتهرب من سيرة أمّها، وكأنها ليست فى دنياها رغم أنهما متشابهتان إلى حد التطابق- خصوصًا جسدها الذى تكرهه- ولولا فروق الزمن لصعب التمييز بينهما.

ومن شدة تعلقها بأبيها وتجاهلها لأمّها اختارت لرسالة الماچستير بحثًا عن تأثر الأدب الإنجليزى فى القرن التاسع عشر بأسطورة إليكترا.

إليكترا أحبت أباها بجنون وحرّضت شقيقها على قتل أمّها لتزيل العائق بينها وبين أبيها وفيما بعد وصف أطباء النفس جنوح مشاعر الفتاة ناحية أبيها بعقدة إليكترا على عكس عقدة أوديب؛ حيث يعشق الصبى أمّه ويتمنى قتل أبيه.

أمّا رسالة الدكتوراه فكانت عن رواية فيرچينيا وولف «أورلاندو».

وفرچينيا وولف كاتبة إنجليزية لمعت فى القرن التاسع عشر، أنهت حياتها الأدبية برواية أورلاندو المستوحاة من التاريخ المضطرب لعائلة صديقتها الشاعرة والروائية الأرستقراطية فيتا ساكفيل ويست وتصور تاريخ الأدب الإنجليزى بشكل ساخر من خلال مغامرات شاعر يغير جنسه من رجل إلى امرأة ويعيش عدة قرون ويلتقى بالروائيين الكبار فى البلاد.

وأجمع النقاد على أن الرواية تسجل سبقًا فى الأدب النسوى ودراسات الجنس والمتحولين جنسيًا.

ولم تنكر شيرويت أنها استوعبت الرواية بصعوبة رغم الجهد الذى بذله معها المشرف على الرسالة، وفى المقابل منحته جسدها بسخاء، وهى لا تنكر ذلك فكل شىء له ثمَن وجسدها هو العملة الوحيدة التى تمتلكها، بطاقة ائتمان جاهزة للسَّحْْب منها وقت أن تشاء، وإن كانت تؤمن بأن جسدها غير المتناسق لا يحتاج التفريط فيه إلى ندم؛ بل ربما فاز برجل لا يستحقه.

لم تكن معجبة بجسدها وترى أنه لا يغرى سوى الرجال المحرومين من الجنس، وهم من حسن حظها أكثر من الهم على القلب فى أوساط الصحافة والرواية والقصيدة والمسرحية، أعداد هائلة من شباب يتصور فى نفسه موهبة، ويقضى نهاره نائمًا، ويتسكع ليلًا فى البارات الرخيصة لعله يجد كأسًا أو رفيقة ضائعة مثله يكمل السهرة فى فراشها.

على أنها فى الحقيقة كثيرًا ما وجدت من يحبها، الوجه مصيدة قلوب، وخفة الروح تنسى فداحة الجسد، وكما تعذب من أحبوها، تعذبت بمن تحب، كتب العذاب على كل من اقترب منها أو اقتربت منه.

ولا ينكر شريف فتحى أنه يومًا بعد يوم وجد نفسه تعوّد عليها حتى شعر أنه أحبها، لأول مرة فى سجله العاطفى يحب امرأة «مبططة» لكنه حُكم الهوَى الذى لم يتصور أنه سيُجبَر عليه، إن الحب ينسينا عيوب من نحب، كأنه يخدرنا، وعندما نعود ونرى تلك العيوب ساعتها يكون الحب قد انتهى.

هى أيضًا أحبته إلى حد البكاء، كانت دموعها تنساب أنهارًا إذا لم يرد على مكالماتها أو اعتذر عن موعد معها، وكثيرًا ما شعرت بالغيرة من نجمات السينما اللائى يتحدثن إليه، ولم تكن لتتردد فى أن تعبر عن ذلك بشراسة، ولكنها فى الوقت نفسه كانت تشعر بتميزه معه فى مجتمع النجوم، وسهرات الفنادق الراقية، والسفر إلى بيروت وأثينا ونيقوسيا لقضاء ساعات من المتعة فى نهاية الأسبوع أحيانًا.

ولا ينكر شريف فتحى أنها علمته درسًا فى الحياة لا ينساه.

لاحظت توتره فى السهرات حتى يناما معًا، يحرمه التفكير فى الجنس من الاستمتاع بالموسيقى والطعام والشراب، طلبت منه أن يبدأ السهرة بعد أن يسددا فاتورة الجسد حتى يستمتعا بكل شىء دون ضغوط ما على أعصابهما، ونجحت الفكرة.

ولكن ما لم تنجح فيه شيرويت إقناع شريف فتحى بالزواج منها ولو عُرفيًا، ولو لم يبت فى حضنها، يكفيها ما هى فيه، يكفيها ما تنال منه، لا تريد أكثر من أن تكون حرم الكاتب الشهير الذى تقيم حملاته الصحفية الدنيا ولا تقعدها وتضعه فى مواقف قضائية صعبة، لكن لا حلاوة من دون نار.

فى الأزمات المتكررة بينهما لعبت علوية حسين دور المهدئ والملطف والمقرب ورسول الغرام الذى لا ينام وهناك من يعانى من هجر الحبيب.

علوية حسين كاتبة روائية متواضعة الوجه والجسد والموهبة لكنها حققت شهرة دعائية هائلة عندما خلعت النقاب الذى فرضه عليها الزواج من أحد أمراء التشدد الدينى وخرجت إلى العلن تفضح خبايا الفساد الجنسى الذى تمارسه الجماعة بعد أن منحت أميرها حق الفتوَى وتقرّر مصيرَها.

حرّم الأميرُ ذهابَ الأطفال إلى مدرسة حكومية وطلق رجلًا تجاوز الفتوَى من زوجته وزوجها من رجل آخر دون حساب شهور العدة.

وعندما استجاب الزوج وأخرج أولاده من المدرسة أعاد المرأة إلى عصمته دون حساب شهور العدة أيضًا.

وعندما قبض على الأمير أراد الاختلاء بها فى السجن بعد أن أقام أتباعه ساترًا بالبطاطين وما أن انتهى حتى شعرت بالغثيان وأفرغت ما فى معدتها.

وطلبت علوية الطلاق بعد الحكم على زوجها بالسجن المؤبد ولكنه هددها بالقتل إن استمرت فى الدعوَى.

وذات صباح استيقظت على فكرة ألحت عليها بلا توقف، أن تسجل تجربتها فى الجماعة وترسلها إلى شريف فتحى لنشرها، ستضع زوجها أمام الأمر الواقع، ستجبره على طلاقها وفى الوقت نفسه سيحميها الأمن من الاعتداء عليها.

ولكن شريف فتحى أحَس بالخطر من نشر تلك المتفجرات.

وما أن علمت بمخاوف شريف فتحى حتى عرضت على علوية نشر ما كتبت فى «روزاليوسف» وكنت وقتها مسئولًا عن تحريرها وتأثيرها وانتشارها، ولم تصدق علوية العرض؛ بل لم تحلم به وفى أسابيع قليلة أصبحت شهيرة تستضيفها نوادى الليونز والروتارى وتجرى وراءها دور النشر لطبع المذكرات.

وانضمت علوية إلى الجمعيات النسوية وهناك تعرفت على شيرويت القاضى التى شجعتها على خلع النقاب وتجميل وجهها بالمساحيق وانتعال أحذية كعب عالٍ والسهر فى وسط المدينة؛ بل أكثر من ذلك بدت علوية تتحدث إلى الصحف وبرامج الراديو والتليفزيون بجرأة غير مسبوقة حتى إنها ذات مرة أعلنت أنها تمارس العادة السرية مثلها مثل ملايين النساء المحرومات من الجنس، وزادت بالقول أنها تمنت أن تكون مثلية الجنس فالمرأة أكثر رحمة بالمرأة من الرجل.

أدركت بسهولة أن علوية غير موهوبة بأكثر من تجربتها مع الجماعة وأن آراءها الجريئة تعويض عن فشلها فى كتابة رواية أو قصيدة أو قصة قصيرة.

لكننى عرفت فيما بعد أنها أحبت شريف فتحى وكتبت له رسائل خاصة لم تصل إليه، ولتقترب منه لعبت دور وسيط الحب بينه وبين شيرويت وفى لحظة فضول أخذها إلى فراشه ولكنه لم يكررها فالنقاب الذى خلعته من الخارج ظل مسيطرًا فى الداخل.

كانت وسيطًا مغرضًا، لم يقرب المسافات بل أبعدها، اختلقت حكايات وهمية تزيد الشك فى عقلى شريف وشيرويت، ونجحت فى أن ينفصلا؛ بل إن شيرويت تزوجت من مصور سينمائى شاب بعد أيام قليلة من التعرف عليه، أرادت أن توجع قلب شريف، ولكنها فى الحقيقة هى التى عانت من وجع القلب.

إن شريف عاملها برُقى، بحنان، عرف كيف يحتويها، نسيت معه عُقدها النفسية، أشبعها وجوده فى حياتها، علمها كيف تعبر عن نفسها باللغة العربية، وبلغة أخرى جعلت جسدها فضيحًا، إنه ليس رجلها فقط وإنما مُعلمها أيضًا.

قبل أن يكتمل الأسبوع الأول على زواجها طلبت من شريف مبلغًا من المال لتشترى دواء لزوجها الذى أصيب بمرض فى الصدر، على أن يأتى به إلى شقة أمّها ليسلم لها ما طلبت، هناك أصرّت على أن يناما معًا بعد أن أغلقت الباب على أمّها، وفى تلك الليلة قررت الطلاق ولكن بعد أن يشفى زوجها.

كان زواجها نوعًا من التمرد وإثبات الذات وإقناع نفسها بأنها لم تعد فى حاجة إلى شريف فتحى، وأنها كبرت ونضجت واستقلت، وقطعت الحبل السُّرّى بينها وبينه، ولكنها عند أول تجربة انفصال أحست بأنها أضعف من الابتعاد عنه، وزاد شعورها بالضعف أنها لم تستطع مواجهة مجتمع النجوم الذى تحلم به من دونه، ليست الجرأة فى أن تقول ما تشاء أو تفعل ما تشاء تكفى؛ ولكن أن تتحمل مسئولية ذلك، وهى ما عجزت عنه، وما كلفها ثمنًا نفسيًا فادحًا كاد أن يوصلها إلى مصحة عقلية أحيانًا.

هو وحده شريف مَن يُشعرها بالقوة ولكنه هو أيضًا مَن يُشعرها باحتياجها إليه، فكيف تنجو بنفسها من هذا التخبط الذى يمزقها ويفتنها ويُطيّر النوم من عينيها ويكاد يفقدها صوابها كلما تخيلت أنها من دونه لا شىء؟

لا بُدّ أن تتمرد عليه.

لكنها لا تعرف كيف.

تعرفت على طابور طويل من الكتّاب والشعراء والكومبارس ومشيت فى تظاهرات ضد التنظيمات والعمليات الإرهابية وكتبت قصصًا قصيرة نشرتها مجلات ثقافية محدودة الانتشار وانضمت إلى الحملات المضادة لتكفير المبدعين وإحالتهم إلى القضاء فيما عُرف بقضايا الحسبة، والحقيقة أنها نجحت فى إثبات نفسها وأسعدتها صورتها فى المرآة.

على أنها لم تشعر بالاستقلال عنه، نجاحاتها البسيطة لم تحقق لها ما يوفره لها، ضاعف ذلك من شعورها بالغيظ منه، وما لم تفصح عنه أنها تمنت أن تقتله، شعور مؤلم اجتاحها ولكنها لم تستنكره؛ بل كثيرًا ما تصورته مريضًا فى ساعاته الأخيرة، أو مصابًا فى حادث لا يتعرف أحد على ملامحه، إنها تحبه، ولكنها تريد أن تتساوى معه، أو تقتله.

وذات ليلة دعاه مطرب شهير مميز الصوت يجن الشبابُ به فأصرّت على أن تذهب معه بل إنها لم تتردد فى تدخين سجائر الحشيش التى يلفها مساعد المطرب مومى الأسمر، شىء ما قفز فى رأسها وجدت نفسها تنفذه بلا تردد، أن تقتل شريف فتحى بالرهان على مومى الأسمر، ولم تُكذّب خبرًا وبدأت تنفيذ خطتها فى لحظتها.

راحت ترقص على حجْر مومى وكأنها لم ترَ رجلًا من قبل، انسحب شريف فتحى فى هدوء، والمؤكد أنه أحس بشعور الغيرة يتسلل إليه للمرة الأولى، ولكنه لا يريد أن يكون نميمة مجتمع يتسلى بحكايات عن خطف العشيقات، وإن استخدم صفحات جريدته فى نشر أخبار عن قرب زواج مومى الذى لا يعترف بالزواج وإن لم ينشر اسم شيرويت.

وفى مَلهَى «الرومرز» الذى كان شهيرًا فى ذلك الوقت فوجئت شيرويت وهى بجانب مومى بشريف فتحى يدخل المكان ومعه إحدى نجمات السينما، فلم تتردد فى أن تقوم من مكانها وقد أعمتها الغيرة ونزعت شريف منها واحتضنته بقوة أثارت انتباه كل مَن فى المكان رُغم الضوء الخافت الذى يقترب من العتمة.

ويبدو أن مومى كان منتشيًا فلم يتردد فى أن يدخل الحلبة ويشد شيرويت من شعرها ليصبح العرض البشرى الحى أكثر إثارة للجمهور من العرض المستورد من أمريكا اللاتينية ويلخص بحركات راقصة قصة الحب والخيانة.

لم تتردد «روزاليوسف» فى نشر الفضيحة وإن غضب شريف فتحى منّى فراح يفبرك أخبارًا مسيئة وإن كانت مجهولة، ولم أشأ أن أجر إلى معركة وهمية فى وقت كانت فيه فتاوَى التكفير تسيطر والرصاص يلعلع واضعًا الجميع فى خطر.

اختفت شيرويت من سطح الحياة اليومية، وطال اختفاؤها، وتنوعت الاجتهادات حول مصيرها، هناك من قال إنها سافرت للتدريس فى إحدى جامعات أوروبا الشرقية، وهناك من قال إنها اعتزلت الحياة العامة وتفرغت لأبحاث أكاديمية للترقى، بعد أن أخذت إجازة من دون راتب فى جامعتها المصرية، وهناك من أقسَم بشرف أمّه أنه لمَحها فى مستشفى للأمراض النفسية والعصبية.

لكن؛ لم يمر العام إلا وكانت هناك مفاجأة فى معرض الفنان عدلى رزق الله، كانت شيرويت بجسدها الممتلئ غير المتجانس موديل عاريًا فى نصف لوحات المعرض، ورُغم أنه أخفى الوجه؛ فإن كثيرين ممن تعرّفوا على جسد شيرويت عن قرب اكتشفوا أنها تلك المرأة العارية فى اللوحات بصعوبة شديدة أقنعت رزق الله بكشف السر:

- أقنعتها بأن تحب جسدها بعد أن عبّرت بوضوح عن كراهيتها له.

- أقنعتها إلى حد أن قبلت النوم عارية أمامك لترسمها؟

- نعم.

- أنت ساحر!.

- أبدًا، كانت منهارة بعد فضيحة الرومرز، قابلتها صدفة فى مقهى ريش وقد شربت حتى أوشكت أن تفقد الوعى، واقترحت عليها أن أرسم وجهها، فوجئت بها تعرض رسم جسمها، ولم أكذّب خبرًا، وذهبنا إلى مرسمى، وكان ما كان.

ونشر شريف فتحى اللوحات عارضًا على القراء جائزة ثمينة لمن يعرف بطلتها العارية، أراد الانتقام منها بعد أن خانته مع من هو أكثر شهرة منه وبعد فضيحة الرومرز التى أحرجته مع صديقاته من نجمات السينما، لكن بينه وبين نفسه كان واثقًا أن علاقتهما معًا وصلت إلى مرحلة التعبير عنها بالكراهية.

إن الحب ثالث اثنين التقت مشاعرهما ولكن ما إن يفترقا حتى يتحول الحب إلى كراهية، والكراهية فى هذه الحالة دليل على الحب بطريقة سلبية، وساعة أن تصبح مشاعرنا محايدة تجاه من أحببنا نكون قد شفينا من الحب تمامًا.

ومن جديد اختفت شيرويت، ومن جديد عادت التكهنات تطاردها، ولكن الضربة المؤلمة التى وجهها الإرهاب إلى السياحة بعد حادث البر الغربى فى خريف 1997 جعل مصر كلها مشغولة بقضية واحدة: كيف نستأصل ذلك السرطان؟

وفى الصيف التالى تلقى شريف فتحى مكالمة تليفونية من شيرويت:

- مَهما فعلت بى فأنا أدين لك بقدرتى على الكتابة.

- مكالمة غير متوقعة.

- كل سر لن يستمر فى الكتمان ومصيره الانكشاف.

- نفَسى طويل فى الانتظار.

- لن تنتظر طويلًا.

وبالفعل لم ينتظر طويلًا وقبل أن يمر الأسبوع صدرت روايتها الوحيدة التى انتقمت فيها من شريف فتحى برسم شخصية مختلفة عن التى يعرفها الناس، الصورة الوهمية التى رسمها عن عائلته، السرقات المالية التى ارتكبها فى بيوت أصدقائه فى الجامعة، استغلاله جنسيًا لفتاة أجنبية أوقع بها ثم لفظها، وتنكره لمن علموه الحرفة بالإساءة إليهم.

لم يتصور شريف أنها تكرهه إلى هذا الحد بينما كل من قرأ الرواية أدرك أنها لا تزال تحبه بجنون «هيت لاف ريليشرن شب» وترجمتها «علاقة حب وكراهية معًا».

وفكر شريف فى الانتقام بالسلاح نفسه، الكتابة، ولكنه وجد قضايا كثيرة تستحق اهتمامه، كما أن شرويت اختفت من مصر تمامًا، وتناثرت شائعات عن زواجها من مليونير مصرى مهاجر إلى أمريكا ويمتلك هناك شركات لتأجير السيارات الفاخرة ويكبرها بعشرين سنة ولم يحصل على شهادة تزيد على الابتدائية.

وباختفائها لم نعد نسمع كلمة فيمينيزم.