الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قضى النصف الأول من حياته الصحفية محررًا عسكريًّا على خط النار: جمال الغيطانى.. الكلمة كـ«ذخيرة حية»

«لكل منّا مدينته وما عليه إلا بذل الجهد لاكتشافها، إمّا بالرحيل إليها أو الولوج فيها، وإمّا بتمثلها واستحضارها.. البعض يفنى عمرَه من أجل دخولها ولا يصل إلى تحقيق ذلك.. وقلة يستدعونها إليهم ويفنون كل ما يشكلها من عناصر وموجودات».. تلك السطور من رواية «سفر البنيان» لـ جمال الغيطانى ربما تصلح كتعريف له ولعلاقته بمدينته ووطنه والحياة عمومًا؛ حيث تتجاور فى صفحات الرواية حكايات أبنية وبناؤون ولحظات حاسمة فى تاريخ مصر العمرانى الذى يتماس بشكل كبير مع تاريخ الغيطانى نفسه.



مرت منذ أيام الذكرى السادسة لرحيل صاحب «أوراق شاب عاش منذ ألف عام»، وبالبحث فى أوراقه وتاريخه نجد الكثير من التفاصيل والحكايات، فالرجل الذى أفنَى عمرَه بحثًا فى تاريخ وعمران هذا البلد أصبح جزءًا أصيلًا منه، وذاب فى تفاصيله، كما جاء من سوهاج وذاب فى حى الجَمَّالية.

فكّر الغيطانى مع أدباء الستينيات فى هويته الإبداعية بحثًا عن طريق للتميُّز عن سابقيهم، وبينما كان التغريب اختيار البعض؛ كانت العودة إلى التراث واستخدام كل متاح عند الآخر من إنجازات حضارية وإبداعية، اختيار الغيطانى رغبة منه فى الجمع بين الأصالة والمعاصرة.

عاد الغيطانى إلى الماضى المصرى الذى وصل إلى ذروة انكساراته مع تدهور الدولة المملوكية التى انتهت بالغزو العثمانى لمصر سنة 1517م، وهكذا أصدر مجموعته القصصية الأولى «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» سنة 1969م.

أثارت «أوراق شاب عاش منذ ألف عام» الاهتمام به وقتها، والآن يعتبرها بعض النقاد مجموعة قصصية رائدة من حيث إحياء التراث المصرى، وتتكون المجموعة من خمس قصص يدور أغلبها فى القاهرة المملوكية، لكن مضامينها تتفاعل مع الواقع السياسى المعاصر بصورة مُلحّة؛ حيث استخدم أسلوبًا كتابيًّا يحاكى كتابات العصر المملوكى والعثمانى، وهو النهج الذى سيعتمده بعد ذلك فى عدد كبير من أعماله.

فى أولى قصص المجموعة بعنوان «المقتبس من عودة ابن إياس إلى زماننا» يأتى بالمؤرخ الشهير إلى قاهرة السبعينيات ليسجّل حزن سكانها وكآبتهم البادية، حتى يعانى الحنين للعودة إلى الماضى وزوجته وأولاده ولمن عرفهم. وفى قصة «هداية أهل الورى لبعض مما جرى فى المقشرة» نقرأ مذكرات ضابط أمن دولة أيام المماليك عن التعذيب والظلم والأفاعيل التى كان يفعلها بمن يقع تحت يده.

وبهذه الطريقة تتوالى بقية قصص المجموعة لتعطى صورة لمصر وسكانها فى عصر المماليك، كما يحدث فى إحدى القصص التى تُروَى أحداثها بلسان شخص عاش بعد ألف عام، ويرجع ذلك فى تفسير جمال الغيطانى إلى ما يسميه وحدة التجربة الإنسانية، التى تتجاوز الزمان والمكان لتكون المشترك المتشابه فى الحياة الإنسانية.

> على خَط النار 

قضى الغيطانى النصف الأول من حياته الصحفية محررًا عسكريًّا على خط النار، ينقل المَلحمة بلغة أدبية فذة، ويعايش الجنودَ والقادةَ فى كل تفاصيل يومهم؛ حيث تعرَّض للخطر مثله مثل أى جندى من الجنود المقاتلين؛ ليرصد همومَ وأحلامَ الجندى المصرى، كما رصد معاناة وصمود أهالى مدن ومحافظات القناة، ملقيًا الضوء على دورهم الكبير.

نجح الغيطانى فى رسائله بدرجة كبيرة لدرجة استرعت انتباه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذى أشاد بأول تحقيقات الغيطانى عن «الجندى المصرى على خط النار»، وأصبحت شهادة الرئيس عبدالناصر شهادة ثبتت أقدام الغيطانى فى موقعه الجديد كمراسل عسكرى فى مقتبل حياته آنذاك، وقد تماهى الغيطانى مع عمله كمراسل عسكرى إلى مرحلة التعايش الكامل عندما أصر على الالتحاق بتدريبات «المجموعة 39 قتال» بقيادة إبراهيم الرفاعى، واجتاز التدريبات التى تؤهله لعبور للقناة فى حرب الاستنزاف وظل على تواصل مع أبطال هذه المجموعة بعد الحرب حتى رحيله، وعندما سُئل عن المشهد الأخير الذى سيظل ماثلًا أمام عينيه أجاب: «إنه مشهد العَلم المصرى مرفوعًا على الضفة الشرقية للقناة على حطام خط بارليف، فهو عَلم رُفع فى القتال وليس فى احتفال».

يحتوى الكتاب على ثلاثة فصول: رسائل فترة حرب الاستنزاف، المصرى على خط النار.. سواء لأحوال الجنود والضباط أو لسكان محافظات القناة، ويتناول الفصل الأخير بعض رسائل الأعمال العسكرية على الجبهة مع العدو الإسرائيلى أثناء حرب أكتوبر.

فى الفصل الأول رسالة صحفية مهمة للغيطانى يتحدث فيها فى ذلك الوقت عن سر حربى يذاع لأول مرة ويقول: «أخيرًا وبعد صمت استمر عامين كاملين، يزاح الستار عن عملية بحرية من أجرأ العمليات العسكرية التى تمت بعد حرب يونيو 1967، لقد أثار اختفاء الغواصة الإسرائيلية داكار كثيرًا من التساؤلات فى مختلف أنحاء العالم وترك حيرة عميقة فى عقول المعلقين، والخبراء العسكريين..

لأن الغواصة اختفت تمامًا ولم يظهر لها أى أثر فى مياه البحر المتوسط وكأن أحد الاحتمالات القوية وقتئذ هو احتمال تعرُّض الغواصة الإسرائيلية لقذيفة من إحدى السفن الحربية، وفعلًا داكار أغرقتها البحرية المصرية فى مياهنا الإقليمية.. كما يكشف التفاصيل الكاملة للعملية الرائعة التى لا تقل أهمية عن تدمير المدمرة «إيلات» دُرّة البحرية الإسرائيلية.

وحرص صاحب (الزينى بركات) فى كتاباته من الجبهة على تدوين بطولة الإنسان المصرى ممثلًا فى الجندى المقاتل، الذى تعرّض عقب 1967 لحرب نفسية مكثفة لنزع الثقة وتصوير المصريين باعتبارهم شعبًا لا يجيد القتال، فإن أجاد الفن والحضارة فإن الأمر لا ينطبق على قدرته على درء العدوان، وهو ما حرصت إسرائيل والداعمون لها على تكريسه بشكل ممنهج لنزع الثقة، وإحباط أى محاولة لتحرير الأرض، الأمر الذى جعل الغيطانى يحرص على إبراز بطولة الرجال ممن جاءوا من مختلف ربوع مصر، كيف يتحول ذلك الفلاح أو العامل أو المهنى أو الطبيب أو المهندس من إنسان اعتيادى، إلى مقاتل، وهو ما نجح فيه بامتياز لدرجة استرعت انتباه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذى أشاد بأول تحقيقات الغيطانى عن الجندى المصرى على خط النار، مما اعتد به كشهادة تثبيت فى موقعه الجديد للمراسل العسكرى الشاب آنذاك.

كما نقل الكثير من التفاصيل الحية من الجبهة بلغته الأدبية: «سادتى.. لا أذكر اسم المقاتل الذى أتحدث عنه الآن، ليس لأننى نسيت اسمه؛ ولكن لأننا لم نتعارف بذكر الأسماء كالعادة، لقد تحدثنا طويلًا عن المعارك الدائرة، وحدثنى عن وظيفته، وحدثنى عن طفله الذى يبلغ الآن من عمره عامًا واحدًا، واسمه عاطف، ويسكن المطرية، سألنى عن أحوال الناس فى الجبهة الداخلية، كل زملائه سألونى أيضًا، ولكن هذا المقاتل الذى أذكر ملامحه جيدًا شعرت أمامه برهبة خاصة، إنه أحد الرجال الذين يعملون خلف خطوط العدو، إنه واحد من أبناء مصر الذين يزرعون صحراء سيناء بالرعب ليحيلوا حياة العدو إلى جحيم».

ويضيف فى وصفه للمقاتل: «إنه أحد الرجال الذين يَخلقون الآن شكلًا جديدًا لحرب الأغوار؛ حيث يعمل المقاتلون فى الصحراء الوعرة الموحشة، إن المقاتل الذى أحدثكم عنه إنسان مصرى بسيط.. أب يمكنكم أن تقابلوه يومًا فى الطريق، العشرات مثله يركبون المواصلات، وينزلون لشراء حاجيات أولادهم، يقلقون عليهم إذا تأخروا خارج البيت، ويدخرون المال ليكفلوا التعليم لهم، ولكن عندما يأتى الخطر فإنهم يندفعون لملاقاته».

حتى الجملة الأخيرة استطاع الغيطانى بمهارة صانع السجاد أن ينقل لنا الصورة بكل تفاصيلها ويغزلها فى معايشة كاملة مع المقاتل فى سيناء: «عانقت هذا المقاتل وجسدى يرتجف من الانفعال، كان يمضى إلى الحبيبة سيناء، وكنت لا أستطيع مشاركته إلا بالخيال، والأمنيات»، بهذه الطريقة قدم مَشاهد عظمة الجيش الوطنى سواء ما تم فى حرب الاستنزاف، أو أثناء حرب أكتوبر.

> مشاركته فى السينما والتليفزيون

شارك الغيطانى بـ7 أعمال متنوعة بين السينما والتليفزيون، واختار أن يكون أول عمل فنى له قريبًا من واقعه؛ حيث قدم عام 1988 فيلم (أيام الرعب) عن قصة «محروس» ابن الصعيد الذى يهرب من واقعه الملىء بالصعوبات إلى القاهرة، العمل قام ببطولته محمود ياسين وأخرجه سعيد مرزوق، أمّا فى (حكايات الغريب) فركز خلاله على القضايا الوطنية من خلال حكاية الجندى المصرى «عبدالرحمن» الذى عاش خلال فترة فاصلة من تاريخ مصر وهو ما بين 1967 وحرب أكتوبر عام 1973، وركز على مَشاعر اليأس والروح الانهزامية للشعب المصرى خلال هذه الفترة وكيف تبدّل الحال بعد قيام حرب أكتوبر وارتفعت الروح المعنوية للشعب وأصبح أكثر تفاؤلًا وأملاً بالمستقبل، وشارك فى بطولة العمل محمود الجندى وهدى سلطان والكينج محمد منير وشريف منير وحسين الإمام.

انتقل جمال الغيطانى من القصة السينمائية الموجزة والمركزة والقصيرة إلى عالم القصص التليفزيونية الطويلة؛ حيث اختار تقديم عمل تاريخى وهو مسلسل (الزينى بركات) عام 1995 والذى سلط الضوء على حقبة سقوط دولة المماليك وقيام الدولة العثمانية، وقام ببطولة العمل أحمد بدير، ونبيل الحلفاوى، وسوسن بدر، وحنان ترك، وعبدالرحمن أبو زهرة، ومن إخراج يحيى العلمى، وكرّر تجربته مرة أخرى من خلال تقديم مسلسل (سنوات الغضب) عام 1996 وقام ببطولته صلاح السعدنى وعزت العلايلى وعبدالرحمن أبو زهرة، كما قدّم مسلسلًا آخر بعنوان (حارة الزعفرانى) وقام ببطولته صلاح السعدنى وسماح أنور ومن إخراج أيمن عبيس.

وعاد مرة أخرى إلى العمل السينمائى من خلال فيلم (كلام الليل)، وهذه المرة اختار موضوعًا مثيرًا للجدل وكشف بقلمه ما يدور فى عالم الشقق المشبوهة وكيف تسقط الأقنعة أمام جَمال النساء ودلعهن، من خلال قصة مخبر يدعى «بسطاوى» يجرى تحريات عن شقة مشبوهة ويتنكر لمعرفة ما يدور داخلها ويكتشف المترددين على هذه الشقة من كبار رجال السُّلطة والمال وينجح فى إسقاط قائدة الشقة فى النهاية، وكان آخر أفلامه عام 2007 بعنوان (خمس نجوم)، وتدور أحداثه حول مشاكل الشباب، وقام ببطولته أحمد هارون ودوللى شاهين وسامى العدل وأحمد برادة ومن إخراج حاتم موسى وسعاد الهجان.