الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

سنوات المجد والصدق

جيل النكسة والهزيمة، جيل الحرب والانتصار، جيل حمل على أكتافه هما ثقافيا واجتماعيا.. وكأنما نذروا أن يكونوا هم الوحيدين فى تلك الفترة فى تاريخ السينما المصرية، القادرين على تأريخ وتوثيق أكثر سنوات مصر التهابا وتوهجا، لما حملته من ألم وانكسار، مجد ونصر، فقر وموت، ثراء وحياة.



وفى لحظة ما، التقى أهم جيلين فى تاريخ السينما، أولئك الذين صنعوا روائع الخمسينيات وبداية الستينيات، جيل الأساتذة الذين تعلموا صناعة السينما بما يشبه الجهد الذاتى، جيل من قرروا أن السينما ليست أداة للتسلية فقط ولكنها وسيلة لتوصيل الأفكار وطرح التساؤلات. أما الجيل الثانى فكان هؤلاء الذين أزاحوا عن السينما أى ستار مزيف، وأزالوا كل أنواع مساحيق التجميل من كل شوارع مصر وحتى وجوه الممثلات، كشفوا الحقيقة وانغرسوا فى الواقع، لتكون سينماهم الجديدة، واقعيتهم الجديدة، هى درر السينما وجواهرها الخالصة النقاء. 

ثلاثون عامًا، بدأت بهزيمة وشهدت نصرا، لم يكن نصرًا فقط على العدو، بل كان نصرا للسينما استمر لعقود طويلة بعد ذلك. 

لم يترك سينمائيو تلك الفترة نوعًا إلا وصنعوه، ولا موضوعًا إلا وقدموه. انتقدوا الخطايا ومجدوا الإنجازات، نادوا بالحق والخير والفضيلة، انتصروا للناس، للمواطن المصرى البسيط. فأحبهم الناس وصدقوا أفلامهم وتربى ونشأ عليها أجيال وأجيال، عرفوا المعنى الحقيقى للفن وضرورته. 

ثلاثة عقود احتلت بعض أفلامها نصف قائمة (أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية). 

حول تلك الفترة «الماسية» فى تاريخ السينما تحدثنا إلى بعض من صناعها، وروادها، وأساتذتها، أكابر السينما بحق.. الذين جعلونا نحب ونحترم السينما.

 

 

 

داوود عبدالسيد

 

المخرج الكبير «داوود عبدالسيد» واحد من مؤسسى تيار السينما الجديدة، والذى كان مشبعًا بمذاق الهزيمة والحرب، وكان واحدًا من بين أبناء جيله الذى استطاع أن يوثق حكايات واقعية من الشارع المصرى، همومه، وأفكاره، وأحلامه.. «لا توجد بداية تحول، وإنما توجد تغييرات اجتماعية واقتصادية خلقت شكلًا جديدًا من السينما»، هكذا بدأ «عبدالسيد» حديثه.. وتابع: «فى الماضى كانت السينما تتوجه للطبقات المتوسطة، والتى كانت لديها القدرة على دفع ثمن التذكرة.. فقد كانت السينما تعبر عن هموم واهتمامات الناس، وكافة الطبقات الاجتماعية، حتى لو كانت أفلاما تخاطب روحهم فقط».. هكذا فسر «عبدالسيد» فترة الثمانينيات على وجه الخصوص.. «التغييرات الاجتماعية لا تبدأ بطلقة من مسدس، ولكن تحدث بشكل تدريجى.. فأفلام التسعينيات كانت مهمومة وقتها، وظلت متواجدة حتى بداية الألفية.. والمنتجون كانوا يطلقون على الأفلام التى كنا نصنعها «سينما الصراصير».

 

 

ويضيف: «سينما الستينيات والسبعينيات كانت الدولة هى المنتج والداعم الأساسى لها بنماذج مهمة، وهذا النوع من الأفلام لم يخرج من فراغ.. فقد كانت هناك نوعيات مختلفة لديها اهتمامات اجتماعية، فالقطاع العام استطاع خلق نقلة جديدة فى السينما عندما بدأ فى شراء أعمال أدبية وتحويلها إلى أفلام».. ويستطرد: «لقد كنا نحن خريجى معهد السينما جيلا مهزوما، لكنه استطاع عمل أفلام عبر بها عن همه ووجعه، فأنا أستطيع أن أدافع عن السينما الخاصة بى وسينما جيلى فقط.. إن التغيير الذى حدث أظهر أن الممول الحقيقى للسينما هو الجمهور الحقيقى الذى يشترى التذكرة.. والذى يعبر بشكل كبير عن اهتماماته وذوقه الشخصى، وبمرور الوقت تحولت الطبقة الوسطى بسبب الوضع الاقتصادى، بأن أصبحوا غير قادرين الآن على شراء تذكرة السينما.. أما الطبقات الأعلى، اجتماعيا واقتصاديًا ليس لديها هموم مثل الطبقة الوسطى، والفقيرة، فبالتالى يحتاجون السينما للتسلية فقط، وأدى ذلك إلى خلق مصطلح السينما النظيفة، والتى بدورها تقوم على استقطاب جمهور العائلات فقط، وبالتالى المنتج بدأ يتجه إلى تمويل وإنتاج أفلام تناسب العائلة المصرية، وتكون صالحة لجميع الأعمار.. فتحولت السينما من الهموم إلى التسلية فقط!» وبدأ التحول الحقيقى لتلك الفترة كما يقول «دواود عبدالسيد» مع ظهور فيلم (إسماعيلية رايح جاى)، وهو الفيلم الذى دشن وخلق شكل جمهور جديد، فظهرت أفلام خفيفة.. وهو ما جعل رواد السينما والعاملين بها يغيرون اهتماماتهم من التعبير عن الواقع الاجتماعى إلى أفلام سطحية، ومسلية.

 

 

 

يسرى نصرالله

 

المخرج «يسرى نصرالله» وهو أيضا واحد من الجيل الذى ساهم بشكل كبير فى تغيير بوصلة وشكل السينما، يرى أن الانشغال بالهموم والتى خلفتها الهزيمة، كان سمة واضحة فى تلك الفترة.. وحتى نهاية الثمانينيات كان الناس مشغولين بما حدث، وما سيحدث عقب تلك الهزيمة، والتساؤلات الكثيرة عن تاريخنا وهويتنا!

 

 

فعلى سبيل المثال فيلم (الأرض) إخراج «يوسف شاهين» كان محاولة للإجابة على هذا السؤال، والمرتبط بالإنسان والأرض، وكذلك فيلم (المومياء) إخراج «شادى عبدالسلام» وحتى أفلام «عاطف الطيب» كل منها كان يجيب على جزء من السؤال. يشير «نصر الله» إلى أنه كان هناك تنوع كبير فى السينما فى ذلك الوقت، فقد ظهر فيلم (الحرام) و(ثرثرة فوق النيل) و(العصفور)، ولم تكن أفلامًا سياسية فقط، لكنها كانت أفلامًا لها قيمة حقيقية. ومن بين أهم الدوافع التى جعلت تلك الفترة فى السينما مختلفة وثرية، هى الإحساس بالهزيمة والتساؤلات الدائمة حول هويتنا، والتى كانت بمثابة أداة قوة مرتبطة بالهاجس الوطنى والسياسى. 

يتذكر «يسرى نصر الله» قائلًا: «فترة التمرد الطلابى، ساهمت فى تأسيس سينما جديدة، وفى نفس الوقت جعلت جيلنا يشعر بالإرهاق والوهن، إلى أن وجدنا أنفسنا نحن كجيل هزيمة أمام أفلام صنعت عقب سياسة الانفتاح الاقتصادى، فبدأت تتكاثر مرة أخرى الأسئلة، وكان هناك شبه إجماع أن بعض الأفلام تؤسس لفكرة الفساد الموجودة خلال تلك الفترة، والتى تبعتها موجة جديدة من الأفلام النظيفة، والتى بها نبرة المحافظة التى تنامت مع ظهور الحركة الإسلامية.. وبمرور الوقت أخذت السينما وجهًا آخر، فتحولت إلى سينما محافظة بشكل ما، وتناسب جميع الأسر المصرية.. فى تلك الفترة ظهر فيلم (سواق الأتوبيس) والذى قدم حلا فرديا بتمرده على الفساد، ولكن بشكل أخلاقى، أو بمعنى آخر أفكارًا جهادية محافظة، ليست مرحة.. ومن ثم تضاءل دور المرأة فى السينما، وتحول دورها لممثل ثانِ بجوار الممثل، وهو البطل الأساسى، فالصورة السينمائية غيرت شكل المرأة، بعد أن كانت هناك نجمات تحملن بطولة الفيلم مثل «سعاد حسنى، نادية لطفى، نبيلة عبيد، ونادية الجندى»، واللاتي كن بطلات رئيسيات فى أى فيلم، والرجل هو الدور الثانى.  ويرى «يسرى» أن المنظومة السينمائية تغيرت الآن، بعد أن تنامى التيار الدينى المحافظ، والذى ساهم فى إلغاء دور المرأة فى السينما، وأصبحت السينما «مخنوقة» مقتصرة فقط على أفلام عائلية وأخلاقية.. ومن ثم بدأت تتنفس تدريجيًا بفيلم (إسماعيلية رايح جاى) والذى كان بداية تيار جديد تحت شعار السينما المحافظة أو السينما النظيفة.

 

 

 

حسين القلا

 

المنتج «حسين القلا».. كان واحدًا من بين أهم المنتجين العاملين فى إطار السينما المصرية ممن حاولوا دفع العمل السينمائى صوب الإجادة والأهمية طوال الوقت. ففى حين كان معظم المنتجين فى الثمانينيات يروجون عبر أفلامهم، للقيمة التجارية فقط، رفض «القلا» الانضمام إلى تلك الصفوف الاستهلاكية وقرر أن ينتج أفلاما تحدث تغييرًا نوعيًا لدى الجهور العام، بعيدًا عن التجارة فقط، حيث أراد أن يجمع بين الفن والمضمون ثم الربح.. 

 

 

 

اختار أن ينتج أفلامًا ليست تجارية، مثل التى كانت سائدة فى الثمانينيات، فقرر أن يجازف، دون النظر إلى الربح الذى سيعود إليه أو حتى الخسارة. فكان فيلم (حدوتة مصرية) إخراج «يوسف شاهين» هو باكورة مشاركته فى الإنتاج، وقد أنتج للمخرج الكبير «صلاح أبو سيف» أفلام مثل (البداية والمواطن مصرى) ولأبناء الواقعية الجديدة أنتج (الطوق والأسورة) لـ«خيرى بشارة»، (زوجة رجل مهم وأحلام هند وكاميليا) لـ«محمد خان»، (الكيت كات وأرض الأحلام وأرض الخوف) لـ«داوود عبدالسيد»، و(للحب قصّة قصيرة) لـ«رأفت الميهى».. فى شهادته عن تلك الفترة يتحدث «كانت أفضل فترة فى تاريخ السينما المصرية، ازدهارًا، رغم أن الجيل وقتها كان جيلًا «مهزومًا».. ورغم قلة دور العرض آنذاك، فقد صنعنا أفلامًا مشرفة، منها أفلام كانت ضد نظام «عبدالناصر» وذلك بعد نكسة 1967، وعقب انتصار أكتوبر العظيم، وكانت هناك أجمل الأفلام الأبيض والأسود، أفلام الزمن الجميل، التى كانت أبهى وأكثر تطورًا.. يقول أيضًا: «فى الثمانينيات كان لدينا ما يقرب من 120 قاعة عرض، وأفلام «عادل إمام» وقتها كانت تعرض فى 40 نسخة، وفيلم (زوجة رجل مهم) فى 22 نسخة فقط، وفيلم (الكيت كات) عرض فى 28 نسخة فقط، وقد حقق أعلى إيرادات فى السينما آنذاك، وكان ثمن التذكرة حوالى جنيهين، واستمر عرضه 18 أسبوعا فى دور العرض السينمائى، وحتى هذه اللحظة لا يزال فيلم (الكيت كات) يعرض على شاشات التليفزيون، وبالمناسبة هذا العام يمر ثلاثة وثلاثون عامًا على هذا الفيلم».

 

 

لم ينكر «القلا» أن تلك الفترة شهدت الكثير من المتاعب التى واجهتهم كمنتجين وصناع سينما، إلا أنهم استطاعوا صناعة أفلام جيدة.. ورغم ذلك فبشكل خاص به كمنتج وموزع رفض أن يرفع ثمن التذكرة فى قاعة سينما كريم.. ويحكى: «كنا نرفض أن نضغط على الجمهور والذى يعتبر هو الممول الحقيقى والفعلى للسينما.. وبالتالى لم تكن هناك أزمة فى الإيرادات على الإطلاق رغم الصعوبات.. وقد بدأ التدهور الحقيقى للسينما فى مصر منذ عام 1997، وحتى الآن، فنحن نتساءل عن سبب المشكلة فى الحال الذى وصلت إليه السينما، رغم أنه لدينا الكثير من الأموال لعمل أفلام جيدة، وهناك تطور تكنولوجى كبير، إلا أننا لا نزال نواجه مشكلة كبيرة».

 

 

 

بشير الديك

 

قبل عام 1967 كانت الأفلام هادئة وبسيطة، ليس لديها أى هموم، وكذلك الأمر فى السينما العالمية أيضًا.. هكذا قال السيناريست «بشير الديك»، وأضاف: «خلقت هزيمة 67 فجوة فى قلب الشعب المصرى، وهو ما جعل رغبة المقاومة تقوده إلى التعبير عن أفكاره وهمومه، وصولا إلى النصر فى 73.. وما حدث فى تلك الفترة ما بين حرب الاستنزاف الطويلة التى أنهكت المصريين إلى الانتصار انعكس بشكل كبير على السينما».

«كانوا جيلا مهزوما، لذا اختاروا أن تكون السينما وسيلة للتعبير الثقافى وأن تكون سينما الحقيقة». هكذا وصف «الديك» جيله بأنه كان لديه هم ثقافى كبير، مما جعل السينما وقتها أكثر جرأة، فى ظل وجود الحرية بمفاهيمها الواسعة. ويقول «بشير الديك» والذى ساهم إلى حد كبير فى كتابة حصيلة كبيرة من أهم الأفلام السينمائية فى تلك الفترة: «كان هناك محاولة لتغيير الذات فى السينما، وما كان يسرى على الواقع بقوانينه كان يسرى على السينما، وظهر ذلك فى أفلام السبعينيات.. كان الشعب رافضًا لتلك الهزيمة وحتى حلولها، فقد ظهر ذلك بشكل أكثر وضوحًا فى أفلام مثل (أغنية على الممر) إخراج «على عبدالخالق».

وأشار «بشير الديك» إلى أن السينما مثل بداياتها، كان بها السيئ والجيد فى آن واحد، التجارى والفنى، والمهموم بالثقافة الاجتماعية، وبالتالى ظهر جيل قوى من مخرجين وكتاب السيناريو، الذين يعملون بجوار آخرين مهتمين بالسينما كتجارة وربح المادى فقط.  فى الثمانينيات كان جيل «خيرى وعبدالسيد والطيب» وغيرهم، وكتاب سيناريو مثل «وحيد حامد»، ممن كانت لديهم جرأة كبيرة فى الأفلام التى قدموها، هذه الجرأة هى التى صنعت سينما خارجة عن المألوف.

 

 

«أعتبر نفسى واحدا من هذ الجيل» يقول «الديك»: «استطعنا تغيير شكل السينما، لأن المجتمع المصرى تغير أيضا، بمفاهيمه وأفكاره وحتى قوانينه. فكان تطور السينما هو انعكاس للواقع، فأصبحت السينما أكثر جرأة.. والغريب أنه لم يكن هناك تناقض كبير فى تلك الفترة، فقد كان هناك سينما جادة وواقعية، وفى المقابل سينما وأفلام المقاولات».

 

 

 

سعيد شيمى

 

«سعيد شيمى» واحد من جيل أسس لشكل جديد فى السينما من خلال الصورة، فقد قام بتصوير أكثر من مائة فيلم روائى، و75 فيلما قصيرا وتسجيليا، وكان من أوائل مديرى التصوير فى السينما المصرية الذين استخدموا تقنية التصوير تحت الماء، باستخدامه تقنيات متطورة فى الإضاءة وحركة الكاميرا. واستطاع «سعيد شيمى» أن يوثق تجربته فى التصوير السينمائى وعلاقته بمخرجين ممن أثروا السينما فى فترة السبعينيات والثمانينيات مثل «عاطف الطيب» و«محمد خان» وذلك من خلال مجموعة من الكتب، والتى تعتبر أهم المراجع السينمائية الآن.

ألقى «سعيد شيمى» اللوم على الجيل الجديد فى السينما ووصفهم بأنهم جيل لا يبذل أى مجهود للمعرفة ولا الثقافة، وبالتالى فإن هذ الجيل ليس لديه الرغبة فى معرفة الحقيقة، مثل جيلنا.

 

 

 

يقول «شيمى»: «فى بداية الستينيات، وتحديدا عام 1963، اتجهت الدولة للإنتاج، لأنها كانت تريد بناء وخلق نوع جديد من الثقافة، وكانت النتيجة هى إنتاج أفضل أفلام السينما المصرية فى ذلك الوقت، بما يقرب من 150 فيلما من إنتاج القطاع العام. وإنشاء ثلاث شركات قامت بحركة كبيرة فى إنتاج وتوزيع الأفلام.

ومن أهم تلك الأفلام (الأرض) و(المومياء) و(الحرام)، وخرج فى ذلك الوقت مخرجون مهمون مثل «حسين كمال» و«شادى عبدالسلام» و«سعيد مرزوق».. وذلك لأن الدولة كانت تقوم بتشجيع المخرجين الجدد، ومن تلاهم ممن تخرجوا فى معهد السينما.. وفجأة بعدما كنا نعيش على القمة، حدثت النكسة، وألقت بنا الريح أسفل السافلين.. أى قائد يهزم فى معركة، فإن الشعب يرفضه، ورغم ذلك تمسك الشعب بـ«عبدالناصر»، هنا بدأنا نتساءل: كيف يتمسك شعب بقائد مهزوم! وما حدث عقب موته، وتوديع الشعب المهزوم له، هو ما جعل جيلنا يفكر فى طريقة تجعل من الفنون تعويضا عن الهزيمة والانكسار.. ثم جاء السادات، وألغى مؤسسة السينما، وأنشأ هيئة أطلق عليها خدمات السينما، وكان تبريره هو أن الدولة خسرت ما يقرب من 8 ملايين جنيه فى السينما التى أنتجها قطاع الدولة. بعد 1973 بدأ التغيير، ولأننا جيل تربى فى أحضان الثورة، حاولنا صناعة سينما تعبر عنا، دونما الاعتماد على الدولة، فأنشأنا جماعة السينما الجديدة، والتى كان أول إنتاجاتها فيلم (أغنية على الممر) إخراج «على عبدالخالق»، وكان الفيلم بداية لدعم روح الصمود والانتصار بعد هزيمة مؤلمة.. وبدأ جيلنا الذى لم يجد مساعدة من الدولة فى إنشاء وتأسيس شركات إنتاج خاصة.. وبدأنا عمل أفلامنا بالمبادئ والأفكار التى نحملها، وخرجت أفلام مهمة مثل (العار) و(الحريف)، والتى غيرت مفهوم السينما، وخلقت تيارا جديدا عن الصمود والهوية والمهمشين.. على الرغم من الإمكانيات الضئيلة فى التكنولوجيا وقتها، فإننا كجيل قمنا بعمل أفلام نريدها، وليس أفلاما لا تعبر عن أفكارنا.. الآن الوضع أكثر اختلافا وتطورًا فى آليات التصوير، لكن لا يمكن للمعدات ولا الإمكانيات أن تصنع فنا.

 

 

 

أنسى أبوسيف

 

لأن «أنسى أبو سيف» كان واحدًا من جيل مجروح، ومهزوم، وهو المصطلح الذى أطلقوه على أنفسهم، فكانت السينما كما وصفها أكثر نضجًا، رغم الهزيمة.. هو فنان تصميم المناظر الشهير، الذى صنع ديكورات وصمم مناظر أجمل الأفلام على شاشة السينما وقد بدأ مشواره الفنى بالعمل فى رائعة (المومياء) ثم قدم ديكورات أفلام (يوم مر.. يوم حلو، الوداع يا بونابرت، اسكندرية كمان وكمان، الكيت كات، سارق الفرح، مرسيدس) وحتى الآن لا يزال عطاؤه الفنى وموهبته الفذة تمنح بريقا لشاشة السينما.. الفنان الكبير يتحدث عن تلك الفترة قائلا: «مرت السينما بمراحل كثيرة بدأت بالنكسة، والتى صنعنا من خلالها سينما جديدة، تعبر عن تاريخ جيل مهزوم، جيل حمل جرح النكسة على كتفيه، والزعامة كانت تمنحنا قوة التعبير عن آلام الهزيمة، فبعد النكسة، انكسرت فجأة عند أبناء جيلى القوة النفسية والداخلية، واخترنا أن نعبر عن هذا الجرح من خلال الواقع الجديد الذى بدأنا نعيشه، وكانت السينما هى الأداة الوحيدة لذلك، للتعبير عن الهزيمة الداخلية لجيلنا، فكان لدينا القوة فى عمل أفلام مهمة على المستوى الفنى والفكرى والثقافى، فخرج جيل يحمل جرح وهزيمة النكسة أثروا السينما بأفلامهم حتى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات».. ويرى «أبو سيف» أن المرحلة الثانية والتى كانت عقب وفاة «عبدالناصر»، وتولى «أنور السادات» الحكم، والتى بدأت معها سياسة الانفتاح الاقتصادى، قد تسببت فى حدوث سقطة وفجوة كبيرة فى السينما.. فيقول: «كان الإنتاج الفنى أهم من الكسب المادى، فى الوقت الذى كان متعارفا عليه أن السينما منتج فنى، وتجارى فى وقت واحد، بمعنى أنه عن طريق الفن يأتى الكسب المادى.. لكن للأسف انقلبت المنظومة الإنتاجية وتحولت إلى تجارة بدون فن.. لأن الفن يعنى تماهى الثقافة ويتطلب إمكانيات فنية عالية الجودة.. فعلى سبيل المثال نرى أن كاتبا مثل «نجيب محفوظ»، يتم شراء رواياته لتتحول إلى أفلام.. وتزامن مع عصر الانفتاح الاقتصادى، خروج نوعية أخرى من السينما، سميت وقتها بأفلام المقاولات، وكانت سماتها الأساسية هى أن منتجا معه أموال كثيرة، ومخرج دوره فقط أن يقول أكشن، بدون وعى بكيفية صناعة الفيلم.. والنتيجة تكون أفلامًا غير هادفة. من خلال ممثلين «دمهم خفيف»، يقوم باستغلالهم المنتجون، وهو ما يحدث الآن فى السينما! حيث تحول الفن إلى شىء مبتذل، مما أدى إلى خلق نوع من الممثلين وشكل إنتاج مختلف، لدرجة أن الفيلم الآن يتم تصويره خلال أسبوعين فقط.. ومع ذلك ففى ذات الفترة، فترة الانفتاح، خرجت أفلام مهمة مثل (المومياء) حيث كان المخرج «شادى عبدالسلام» دائما مشغولا بفكرة البحث عن الهوية، وفيلم (يوميات نائب فى الأرياف) عن فساد السلطة.. ثم جاء جيل جديد وخلق موجة جديدة، بعيدًا عن الشكل التقليدى للسينما الذى كان قبل ٦٧، بأفلام ضد القالب المتعارف عليه، بأفكار ثورية اجتماعية، فكانت فترة الثمانينيات، هى المرحلة الانتقالية فى السينما، حيث خلقت موجة ثقافية وسينمائية كبيرة جاءت من جيل مهزوم.. فظهر جيل جديد مثل «عاطف الطيب ويسرى نصر الله وداوود عبدالسيد وخيرى بشارة ومحمد خان». واستطاعوا الحديث بذكاء شديد عن قضايا مجتمع بعد انتصار أكتوبر المجيد. وهذا الجيل أيضًا، هو من صنع سينما جديدة، والتى كانت خلال فترة حكم «مبارك»، وبدأوا يتحدثون عن هذ الواقع الجديد فى مساحة الحرية التى كانت موجودة خلال ذلك الوقت.. أما الجيل الحديث وتحديدًا منذ بداية التسعينيات وحتى الآن، فيعد جزءا من جيل الثمانينيات والذى خرج منهم مخرجون جدد مثل «شريف عرفة»، والذى استطاع أن يستغل تقنيات السينما الجديدة. ورغم ظهور مرحلة التصوير الديجيتال، والتى خلقت أيضًا جيلا جديدا بتقنيات مواكبة للعصر، لكن هذا جعل أرضية السينما فارغة إلى حد كبير، والأرضية الثقافية الآن أصبح بها خلل.

 

 

 

ويعتبر «أبو سيف» أن الفترة الذهبية للسينما كانت ما بعد الهزيمة مرورًا بالنصر وحتى الثمانينيات، تلك الفترة استطاعت أن توثق تاريخ مرحلة مهمة فى تاريخ مصر من خلال الأفلام، فالسينما هى ذاكرة المجتمع.

 

 

 

 

كمال رمزى

 

 باعتبار أن «كمال رمزى» شيخ النقاد، وواحد من جيل النقاد الذين ساهموا بشكل كبير فى دعم السينما، فقد كانت شهادته أكثر عمقًا عن تلك الفترة.. يقول «رمزى»: «شهدت تلك الفترة تجمعات سينمائية لم تحدث من قبل ولا من بعد! فخرج مجموعة من الشباب،

أطلقوا على أنفسهم جماعة السينما الجديدة، وقاموا بإصدار بيانات تدعم توجههم الفكرى، وكان من بين أعضائها المخرج «على عبدالخالق» الذى أخرج فى تلك الفترة فيلمه (أغنية على الممر) والناقد «سمير فريد» والمخرج الفلسطينى «غالب شعث» والذى قدم فيلم (الظلال فى الجانب الآخر)، أيضًا «محمد راضى». 

 

 

 

ويضيف «رمزى»: لم تمر فترة قليلة إلا وظهرت جماعة السينما التسجيلية فى بداية السبعينيات – 69 / 70 – وكان ذلك بعد نكسة 67 مباشرة، ومن أعضائها «صلاح التهامى، وفؤاد التهامى» إلى جانب عدد كبير من مخرجى الأفلام التسجيلية، والذين فتحوا أفقا كبيرا للأفلام التسجيلية، وعلى رأسهم «هاشم النحاس» بفيلمه البديع (النيل أرزاق)، فضلًا عن موجة من الأفلام التسجيلية والمهتمة إلى حد كبير بالإنسان العادى.. فى تلك الفترة ظهر جيل جديد من السينمائيين والنقاد، وكونوا جمعية نقاد السينما من بينهم «سمير فريد» و«سامى السلامونى» و«فتحى فرج».. هذا الزخم من السينمائيين ساهم فى ظهور جيل ومجموعة من المخرجين الجدد، الذين كانوا بمثابة نفحة حداثة، منهم «رأفت الميهى، على بدرخان، داوود عبدالسيد»، وبالتالى أصبحت خريطة السينما المصرية مختلفة عما سبق، لأن هذ الجيل كان يعبر عن الغضب الداخلى الذى خلفته الهزيمة، وفى الوقت ذاته استطاعوا أن يقفوا على أرض صلبة، لمواجهة هذا العدو.. فالكثير منهم كانوا مجندين، وخاضوا حرب 73 والتى لا تنفصل عن 67، التى انهزموا بها حتى النصر الذى حققوه فى 73. وبالتالى هذا التيار لا يمكن نكرانه تحت أى مسمى من المسميات، وبالتأكيد وجدوا سندًا قويًا من جانب النقاد الجدد والذين كان لديهم نفس روح المقاومة. 

 
 

 

«ربما كانت هزيمة عسكرية إلا أنها كانت انتصارا سينمائيا حقيقيا»، هكذا أكمل «كمال رمزى» حديثه، مشيرًا إلى أن روح المقاومة كانت واضحة بقوة فى أفلام الستينيات والتى حملت روح الصمود أعقاب هزيمة 67.

ويضيف قائلًا: «لا يمكن أن ننسى من حاربوا فى الفترتين 67 و73 ومنهم عاطف الطيب، فقد كان هذا الجيل له موقف متحفظ تجاه حصاد 73، ففى فيلم (سواق الأتوبيس) نرى فيه ثلاثة محاربين تجمعوا فى أجمل المشاهد وهم تحت سفح الهرم، ويعتبر من أكثر المشاهد تعبيرًا عندما بدأوا يتذكروا حرب 73 والآمال المعقودة على هذه الحرب التى خاضوها، ربما هذا جعلنا ندرك أن هذه الآمال التى استحقها جنود 73 قد أهدرت مع سياسة الانفتاح التى أعقبتها.. فمثلًا أفلام «داوود عبدالسيد» لا يمكن أن تنفذ إلا فى وقتها، فـ«عبدالسيد» أعتبره أهم مخرج بعد «صلاح أبو سيف»، وأفلامه أقرب إلى منجم ملىء بالكنوز، وأطالب الجيل الجديد من السينمائيين بمشاهدة أفلامه، خاصة فيلم (البحث عن سيد مرزوق)، فبه مشهد شديد القوة يعبر فيه «عبدالسيد» عن أنه من السهل التحرر من الأغلال والقيود.

لقد شهدت أيضا تلك الفترة ظروفا معاكسة، مثل الرقابة شديدة الصرامة، فالرقابة لم تكن تعمل بأفق مفتوحة، وبالتالى هناك عواقب كبيرة يواجها صناع الأفلام.. فمثلًا فيلم (زائر الفجر) إخراج «ممدوح شكرى» تم منعه من جانب الرقابة، وكذلك فيلم (العصفور) إخراج «يوسف شاهين»ولكن فى نفس الوقت كانت هناك مقاومة شديدة. 

 

أفلام الفترة من 1967 حتى 1997 والتى اختيرت فى قائمة (أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية):