الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

بيديكت وحدها لا تكفى ليعود الشيخ إلى صباه! "الحكاية الثالثة"

على صفحات المَجَلّة التى شهدت معاركه وتجربتَه الفريدة، نستعيد مع الأستاذ «عادل حمودة» أحدَ أهَمّ تحقيقاته الصحفية «ستيك هاوس.. شخصيات لامعة فى زنزانة الجنس الانفرادى».



هنا تصبح الكلماتُ بساطًا سحريًا ينقلك لتعرف الكثيرَ من الخبايا خلف الأبواب المغلقة، والبيوت التى ربما نَمُرّ أمامَها كل يوم لكن لا نعرف أىَّ شىء عمّا يدور بداخلها، يغزل بحكاياته الوجه الآخر لمشاهير وصعاليق.. فنانين وكُتّاب.

استطاع بحسّه الصحفى الذى لم يغادره أبدًا أن يغوص بنا فى أعماق وتفاصيل مجتمع «الشخصيات اللامعة»؛ ليظهر لنا جوانب حياتهم التى جاهدوا لبقائها بعيدة عن الأضواء.

ينتقل الأستاذ «عادل» من دراسة أسباب انتشار ظاهرة «زنَى المَحارم» فى العشوائيات وقتها، إلى قصر أحد الدعاة الذى تورّط فى علاقة مُحرّمة مع شقيقة زوجته.

أيضًا تكشف حكايات الكتاب الكثيرَ من التناقضات فى المجتمع وقتها فيما يخص علاقتنا بالدِّين؛ حيث يكشف تفاصيل قضية رشوة تورّطت فيها مهندسة مع مقاول شهير، ودخلت معه فى علاقة جنسية «لكنها لشدة تدَيُّنها كانت ترفض أن تلقاه يومَىْ الاثنين والخميس لأنها تصومهما»!

بين العشوائيات والقصور، نتعرّف خلال الحلقات المنشورة على حكايات لم نعلم عنها شيئًا.. حكايات مدهشة رُغْمَ مرور سنوات عليها.. وتفاصيل تؤكد أن فنون العمل الصحفى لا يزال لها بريقُها الخاص وأهميتُها فى رصْد ظواهر المجتمع بشكل محترف حتى فى زمن السوشيال ميديا..

 

 مَشهد  تكرّر كثيرًا فى السينما المصرية حتى أدمنته، لكن رُغْمَ سذاجته وسهولة تنفيذه؛ فإن مصير أبطاله غالبًا ما يتعلق به، ويتوقف عليه، وتأخذ الأحداث منعطفًا حادًا فور الانتهاء منه، وغالبًا ما يوصف بأنه «ماستر سين».

مشهد مثلته أشهَر نجماتنا وبرعن فيه.

امرأة شابة، فقيرة، مثيرة، دفعتها الظروف الصعبة للخدمة فى بيت ثرى تجاوز سن الشباب، ولكنها تعرف ما تريد، تسعى بثقة إليه، تدرك أن جسدها ثروتها وفرصتها وخلاصها، إلا أنها لا تريد بيعه وإنما تأجيره، فلا فرق عندها بين الثروة العقارية والثروة الجسدية.

تتعمد وهى تمسح البلاط أن تربط ذيل ملابسها حول وسطها، كاشفة عن بطن ساقيها، مكورة مؤخرتها، تاركة صدرها يتصرف بحُرية ولو خرج من مكمنه، وغالبًا ما تمثل أنها منهمكة فى عملها حتى إنها لا تنتبه لمن يقترب منها.

وحسب السيناريو المتكرر، يفقد الرجل وعيه، ويغيب عقله، وتلتهب أعصابه، يركز على هدف محدد بعينه، لا يرى سواه، ينشن عليه، يصر على إصابته، ولكنها لا تمنحه غرضه بسهولة؛ بل تلهب أعصابه بسخونة، تتمتع، تتدلل، وبعدها تطلب ما تريد دون أن تنسى تمثيل دور المرأة الضعيفة، تطلب منه الرحمة حماية لشرفها وخوفًا من الحرام ورغبتها فى الحلال الذى يزيد من متعة الفراش، وفى تلك اللحظات يبدأ مشوار صعودها إلى أعلى.

إن الجسد الذى يتمدد بالعرض ينتصب طولًا وقد تحولت تضاريسه وهضابه إلى درجات سلم يسهل القفز عليها لبلوغ قمة مجتمع لا يدقق كثيرًا فى سوابق من ينتمى إليه ما دام قادرًا على الدفع، مجتمع باع أنبياءه مقابل سيارة بورش.

ولا تحتاج المرأة إلى من يعلمها الدرس، أنوثتها تقودها إلى حيث تشاء، بشرط أن تكون على موعد مع الحظ، وإلا ألقيت فى عرض الطريق بعد استنزافها مقابل ما يلقى إليها من فتات وجنيهات.

نعم هو الحظ الذى قفز بالسيدة فاطمة محمود خليل السباعى من مستنقع الفقر إلى قمة المجتمع الذى لم تتصور دخوله إلا من باب الخدم.

بل إنها ظلت سنوات طوالاً لا تصدق نفسها بعد سنوات أطول خاصمها فيها الحظ وعاندها، ولم يقترب منها أو يطرق بابها، أكثر من ذلك فإنها من شدة ما عانت لم تنتظر قدومه، وعندما بدا لها من بعيد تصورته وهمًا أو سرابًا.

 شابة  حلوة، ثمرة شهية، أخذت من الفراولة لون بشرتها، وسرقت من الموز رشاقة جسمها، واقتبس شعرها من القراصية لونها، ونالت شفتاها من المانجو طعمها.

لا أبالغ أنها تنافس نادية لطفى فى جمالها على شاشة «النظارة السوداء» وبدت أكثر أنوثة من هند رستم فى سنواتها الفنية الأولى، كل ما فيها فاجر، لكنها بقدر ما عَذبت تعذبت، كابشُ النار أول من يحترق بها.

لم يُخلق بعد رجل يمكن أن ينجو بعقله لو اقترب منها؛ بل إن الرجال جنوا بها قبل أن تنضج، تسابقوا على التهامها خضراء، لكنها فى المزاد الذى وضعت فيه لم تقبل إلا بالأعلى سعرًا، فقد كانت غريزة «سوق العبور» تسيطر عليها وتحركها.

على أنها لسوء الحظ اختارت أسوأهم وهى تتصوره أفضلهم، ألقى تحت قدميها ما لم تحلم به، ذهبًا وبيتًا وسيارة صغيرة ودفتر توفير فى البوسطة وحذاءً بكعب وفساتين فاقعة الألوان، ومن جانبها لم تقصر فى خدمته ولكنها قبل أن تعرف المتعة استقبل رحمها جنينًا ولم تكن تجاوزت الثامنة عشرة من عمرها.

لكن فى اليوم الذى أنجبت فيه طفلتها شيرين قُبض على زوجها وسُجن «تأبيدة» بعد ضبطه متلبسًا فى عملية تهريب مخدرات عند شاطئ البيطاش فى العجمى.

صودرت أمواله وثرواته، وعادت فاطمة إلى بيت أبيها وهى تحمل الطفلة الرضيعة دون أن تعرف هل ستجد حليبًا لطفلتها أمْ ستنام فى حضنها وهى تصرخ من الجوع بعد أن جف ثديها من صدمة ما حدث.

أبوها شديد الفقر، يسكن بيتًا شديد التواضع بالقرب من مقابر العجمى التى كان يعيش فيها على نفحات أهالى الموتى، يزرع الخضرة على قبورهم، يقرأ ما يحفظ من القرآن على أرواحهم، يذبح كباش الأضاحى، يهذب حدائق بيوت الأثرياء، يرويها بدموعه ويسمدها بعَرقه لو شاءوا.

الوحيد الذى كان يعطف عليه بسخاء الدكتور إسماعيل الكالخى، رجل من نوعية خاصة، لا تتكرر، جاء من البصرة لدراسة الحقوق فى جامعة الإسكندرية، وظل فيها حتى حصل على الدكتوراه فى القانون الدولى، وما إن عاد إلى بلاده حتى اختير سفيرًا أكثر من مرة فى أوروبا وآسيا، وما إن عاد إلى بلاده حتى رشح لحقيبة التجارة فلم يتردد فى حملها.

سهل حصوله على تلك المناصب الرفيعة أنه تزوج مما تبقى على قيد الحياة من نساء العائلة المالكة التى بقيت مؤثرة فى المجتمع رُغم انقلاب العقيد عبدالكريم قاسم عليها وإعدام مَلكها فيصل الثانى الهاشمى رميًا بالرصاص.

من يومها لم تعرف العراق خيرًا، فقد أعدم عبدالكريم قاسم هو الآخر رميًا بالرصاص، وقُتل خليفته عبدالسلام عارف فى حادث تحطم طائرة لم يشك أحد فى أنه كان مُدَبّرًا، وظلت شرايين الدم مفتوحة حتى جاء صدام حسين إلى الحكم ليحقق أرقامًا قياسية فى الذبح والقتل وضرب معارضيه من الأكراد بالنابلم.

باع الكالخى كل ما يملك من بيوت وشركات وفنادق وأرض فى العراق ونجح فى تهريب ثروته إلى الإسكندرية بمعونة دبلوماسى مصرى كان يخدم فى بغداد.

رحب به السادات وأمر بحراسته ولكنه اعتذر عنها حتى لا يلفت الأنظار إليه، فالظل والصمت أفضل حماية، بعيدًا عن فرقة المطاردة التى تهدد كل من يعتقد صدام حسين أنه خطر عليه ولو كان فى القطب الجنوبى.

وما إن أعدم صدام حسين حتى تحرر الرجل من الخوف وسعى لدعوة كتّاب وصحفيين يعجب على حد قوله بكتاباتهم، كنت واحدًا منهم بحكم جيرة العجمى؛ حيث كنت أستأجر بيتًا لقضاء الصيف هناك، ولكن الأهم أننى كنت من القلائل الذين رفضوا أكثر من دعوة رسمية لزيارة العراق تحت حكم الرعب الذى عاشت فيه.

كان يسكن قصرًا اشتراه من ورثة «سباهى» باشا السورى الأصل الذى أدخل صناعة الغزل والنسيج فى مصر.

 دخلتُ  القصر أكثر من مرة، وامتد الحديث بيننا ساعات طوال وكنت أسمع أكثر مما أتكلم، فالرجل مثقف بجد، تتداخل فى كلماته العلوم والفنون المختلفة ببراعة وجاذبية ودون مَلل، وما شدنى إليه أكثر أنه يعرف الكثير من خبايا السياسة العربية، ويكشف بسهولة دون ضغط أو إلحاح ما لا يمكن تصوره من أسرارها تُذهَل حين سماعها.

ورُغم ولعى بالقهوة فى جميع حالاتها؛ فإننى لم أرَ فى حياتى مجنونًا بها أكثر منه، يعرف عنها ما لا تعرفه شركة ستار باكس، ومن شدة استمتاعه بها تعَوَّد أن يغسل أسنانه قبل أن يشربها حتى يتذوق باستمتاع نكهتها. 

وذات مساء جاء بفنجان قهوة وصفه بالأغلى فى العالم، الكيلو منها بـ(الشىء الفلانى) وبحُسن نية راح يتحدث عنها بشغف وكأنه يتحدث عن مارلين مونرو: 

- يسمونها (كوبى لواك)، تبدأ بحبات البن الأخضر، يطعمونها فى إندونيسيا لنوع من القردة يسمى زياد النخيل، وما يخرج منه يُعبأ فى أكياس ليباع الكيلو منه بنحو 1500 دولار. 

وكدت أن أبصق ما شربت منها رشفات بعد أن عرفت أنها فضلات قرد ولكن فى الحقيقة لم أتذوق مثلها أو أشم مثل رائحتها.  ولاحظت أنه يجمع علب الكبريت من المطاعم والفنادق التى تعامل معها فى كل أنحاء العالم ويحرص عليها وكأنها قطع تاريخية نادرة من المجوهرات. 

إن مشكلة الأثرياء أنهم يحصلون على كل ما يشتهون بسهولة وليس أمامهم سوى الأشياء البسيطة المتواضعة يلهثون وراءها لعلها تسعدهم، وقد فكر واحد منهم فى فتح سلسلة محلات لهدايا ترضى المليونيرات مثله، فُرشة لها ذراع طويل لغسل الظهر، شبشب من قماش لا يُبَل، مثلاً.

ولا شك أن أرقى علامات الثراء اقتناء لوحات أصلية لمشاهير التشكيليين، الواحدة منها بملايين الدولارات، بعد أن مات أغلب مبدعيها من الجوع والسُّل والأنيميا والتجاهل والسخرية.

كان على جدران السرايا لوحات أصلية لبيكاسو وفان جوخ وديجا اشترتها زوجته من أمراء وأميرات الأسرة المالكة باعوها بأسعار بخس لحاجتهم إلى مال يعيشون به. 

وكانت هناك أكثر من لوحة (بورتريه) للزوجة التى ماتت بسرطان الدم بعد سنوات قليلة من سفر ابنها الكبير للعيش فى بريطانيا، ولم يمر أكثر من عام حتى لحق به شقيقه الآخر وبقى الرجل وحيدًا فى قصر كبير شعر بالبرودة وهو فى عز الصيف.

لم يتردد فى رد الدَّيْن للإسكندرية، المدينة التى علمته، ووقع فى هواها، وعرفت مراهقته، وتحتضن شيخوخته بعد أن تجاوز السبعين من عمره.

أنفق على ألف طالب فقير فى الجامعة، دفع تكاليف إقامة ألف طالب من الريف فى المدينة الجامعية، شيّد قصرًا ليكون ملجأ للأيتام، تكفل بكل نفقاته بعائد وديعة مناسبة احتفظ بها فى البنك الأهلى، ولأن الأقربين أولى بالمعروف لم يكن يَرُدّ أحدًا من جيرانه البسطاء والفقراء.

ومن شدة كرمه أطلق عليه الفقراء فى العجمى لقب (الشيخ)، فقد تصوروه سعوديًّا أو خليجيًا، ومن جانبه لم يرفض اللقب؛ بل استحبه لأنه ضاعف من اختفائه فى سنوات الخوف. 

خصص الشيخ راتبًا شهريًا لـ(الحاج السباعى) كما يطلق عليه، زاده بعد أن قُبض على ابنه فى مشاجرة كسرت ظهرَه وحرمته من عمله سائقًا على ميكروباص فى موقف (المنشية)، وعندما عادت فاطمة إلى بيت أبيها حاملة ابنتها على كتفها ضاعف الشيخ الراتب؛ بل واستضاف الرجل فى بيته ليؤنسه فى وحدته، وخوفًا أن تداهمه أزمة قلبية فى الليل فلا يجد من ينقذه.

وترددت فاطمة على «السرايا» لتطمئن على أبيها، وتَعلق الشيخ بابنتها، وتعهّد بتربيتها حتى تتخرج فى الجامعة، أحَس أن شيرين حفيدته التى حُرم منها، وحسب ما عرفت منه فإنها الوحيدة التى تجعله يضحك من قلبه.

ومن جانبها اهتمت فاطمة بشئون السرايا؛ بل ولم تتردد فى أن تمسح بلاطها بنفسها لتذكرنا بمشهد السينما الذى يغير ظروف البطلة وينقلها من حال إلى حال.

المؤكد أنها كررت المشهد بحذافيره، ولكننا لا نستطيع تأكيد أو نفى أنها تعمدت إثارة الشيخ، على أن النتيجة واحدة، طلب أن يتزوجها.

بقدر ما فرحت بقدر ما انقبضت، نعم، ستصبح واحدة من هوانم المجتمع، ولكن عليها أن تنسى أنها امرأة، ستجد ألف من يسجد لها، لكنها لن تجد رجلاً واحدًا تسجد له.

 بئر  الشيخ مبطنة بالذهب ولكنها جافة بلا مياه، اسطبلات خيوله جميلة لكنه يعجز عن امتطاء واحدة منها مَهما كانت وداعتها، يدعو أهالى العجمى على ولائم طعام شهى ولكنه لا يأكل أكثر من الأرز المسلوق المغطى بالزبادى.

لم تطل حيرتها، خلعت عين الرغبة لتبرق عين الثروة، ووافقت على الزواج، وقبَّلت يده، فهو سيدها سواء كانت خادمته أو زوجته، ليس سهلاً أن تنسى أنها كانت خادمة وتتذكر أنها أصبحت زوجة، ليس سهلاً أن تجلس بجواره بعد أن كانت تجلس تحت قدميه، لكن المرأة قادرة على أن تتغير وتتكيف وتتطور، هكذا خَلقها الله بوجوه مخفية هى وحدها التى تعرفها وتظهرها.

بحكم فارق السّن الكبير لم يسمح قانون زواج المصريات من أجانب بعقد رسمى، فلم يكن هناك مَفر من التوقيع على عقد عُرفى كتبه محام وسجّله فى الشهر العقارى، وفى اليوم نفسه أودع باسمها مائة ألف جنيه فى البنك الذى يتعامل معه، ولم تصدق نفسها. وتصاعد الرصيد بسرعة لم تتوقعها.

كان يسعدها بالمال ليعوّضها الشقاء فى الفراش.

ذاقت القليل من المتعة ونالت الكثير من الثروة.

ولكن القليل أصبح بخيلاً، شحيحًا، مرّة فى الشهر، وسرعان ما أصبح نادرًا، مرّة كلما عاد من مصحة «سبا سان موريتز» السويسرية، وما إن أطفأ شمعة الثانية والسبعين حتى تجنبها إلا حين مَيسرة.

وأوحى إليها أنها السبب فيما يعانى، لا تملك ما يكفى من خبرة فى الفراش، ولكن خيبتها سببها صغر سنّها، وسجن زوجها السابق قبل أن تتعلم وتمحو أمية جسدها، وتدربه على النطق والتعبير، وسرعة الاستجابة، ومرونة الحركة.

وربما كان مصيبًا فى تحليله؛ بل أكثر من ذلك كانت تتألم جسديًا فى البداية وتتألم نفسيًا فى النهاية.

وفى الوقت نفسه، عرفت معاناة من نوع آخر، ربما كانت أصعب وأشد، كيف يتقبلها مجتمع- العجمى- متعجرف يشعر بأنه من عجينة طين مختلفة ويعرف أصلها وفصلها؟

فى ذلك الوقت لم يكن الجنون بالساحل الشمالى قد بدأ، وكان العجمى يجذب- بشواطئه وسهراته وقصوره وموضاته- المشاهير والنجوم والأثرياء والوزراء، فكيف تصبح واحدة من سيداته؟

إنهم يرحبون بها تقربًا من زوجها، ولكنهم يطعنونها فى ظهرها، ويحرجونها فى وجهها، سخرية من لبسها وأحذيتها وعطورها وحديثها، أصبحت تصرفاتها نميمتهم اليومية؛ بل إنهم قرّبوا منها زوجة وزير سابق ليهتكوا أسرارها، ويزيدوا من الاستمتاع بالحكايات التى تروى عنها، لم يجدوا لتسليتهم صيدًا مثلها.

وحاول الشيخ أن يساعدها، جاء إليها بخبراء فى تعليم البروتوكول وفن الحديث وتناسُق الألوان وتوافُق العطور مع الثياب والمجوهرات والسَّيْر بثقة وسهولة وضع المكياچ المناسب، وكانت كلمة السّر هنا: البساطة.

ولكن صحفية مدربة على التعامل مع خبايا المجتمع الذى يوصف بالرقى والعلو والسمو، أقنعتها بما تعرف من أسرار وفضائح مستترة أنه مجتمع لا يتمتع بصفة واحدة مما يصف بها نفسه، الرجال يغرون النساء، والنساء يخطفن الرجال، ومن يكشف له علاقة خفية يقاطع وينبذ، ويجتمعون على اغتياله، اتفاق على الصمت أقر به الجميع، يلوذون به، ويحرصون عليه، فهدمه أو كسره أو حتى خدشه يعنى انهيار الطبقات العليا فوق رءوسها.

 أقنعتها  الصحفية سميحة الخشاب بأن من السهل السيطرة على ذلك المجتمع بالسهرات والهدايا وشراء محررى ومصورى مجلات وصفحات المجتمع لتمجيدها أو النيل ممن يخاصمها أو يحاربها.

والحقيقة أن النصيحة «شريرة»، فنساء ذلك المجتمع لا يقرأن سوى أخبار الطلاق والزواج وحكايات الخيانة.

وخصصت فاطمة التى أصبح اسمها «بيديكت» فى قصرها غرفة للهدايا بعضها ثمين، وبعضها معقول، كل فولة ولها كيّال، ولكن كانت أظرُف المال تصلح لكل الكيالين الذين خدموها من الصحفيين.

وذات يوم كنت أحتسى القهوة مع زوجها عندما وجدتها تدخل علينا خجلة، استأذنت فى الجلوس فسمح لها، وبدا واضحًا أنهما كانا متفقين على ذلك، فما إن جلستُ حتى بادرنى الرجل قائلا:

- أنت واحد من صناع المشاهير فى مصر، خذ ما تريد، ساعد فاطمة فى أن يحبها مجتمع الكبار من حولنا، أنت قادر على صنع المعجزات، ونحن مستعدون لدفع ما تطلب، هذه خدمة العمر التى لن ننساها لك.

فوجئت بما سمعت، صُدمت فى تصوُّره للصحفى، صانع مشاهير بأجر، ولشعورى بحُسن نيته كتمت غضبى وقلت فى هدوء:

ـ الصحفى لا يصنع نجمًا، النجم تصنعه أعماله، أمّا نحن فلا نملك إلا الترويج لها، وكثيرًا ما عجزت شركات العلاقات العامة فى رفع ممثلات إلى مرتبة النجوم، ماذا تفعل الماشطة فى الوش العكر؟!

ـ اطلب الرقم الذى تتخيله.

ـ أرجو أن تكف عمّا تعرض وإلا سأنسحب من هنا.

ـ إذن قل لنا ما نفعل.

ـ عليكم الانتقال إلى القاهرة حيث يمكن البدء من جديد مع مجتمع غير مشغول بالملفات القديمة، وحيث يمكن تكذيب كل سوء يأتى من مجتمع الإسكندرية.

ولم أشأ قول المَثل الشائع «يابا شرّفنى قال لما يموت اللى يعرفنى».

ولم يأخذا بالنصيحة، فالشيخ ارتبط بالإسكندرية، وعجز عن الابتعاد عنها، وإن زادت نوبات بقائه وحيدًا فى غرفته، يشرب القهوة، ويقرأ، ويكتب بعضًا من مذكراته، وعندما ألحت فاطمة على خروجه من عزلته فوجئت به يلقى عليها يمين الطلاق.

لم تكن الطلقة الأولى وإنما كانت الثالثة، وربما الخامسة أو السادسة، وفى كل مرة كان يعيدها إلى عصمته يتنازل لها عن شىء يمتلكه، نصف عمارة فى لوران، اسطبلات خيل فى كينج ماريوط، قطعة أرض فى الساحل الشمالى، أراد أن تخرج من حياته ولكنه لم يقدر على بُعدها، أصبح مريضًا بها، لكنه مريض لا يقدر على تناوُل الدواء.

ولم يكن من الصعب الحصول على أكثر من فتوى ببطلان الطلاق ليجدد العيش معها، ويمكن القول إن الفتاوَى الملاكى التى حصل عليها تجاوزت العشر، ألسنا فى زمن تنازل عن مبدئه مقابل شمة كوكايين؟

اختلط الحرام بالحلال فى حياتها، ولكنها لم تعبأ بما حدث، وكل ما همها حجم الثروة التى أصبحت تحت يدها، مليونيرة، جميلة، مثيرة، شابة، تسللت إلى المجتمع من باب خلفى، ولكنها تشعر أن شيئًا ما ينقصها، شيئًا ما تجهله، يؤرقها، يوترها، يزيد رغبتها فى التدخين وشرب النبيذ، ولم تمانع ذات مرة من تناول سيجارة حشيش دخنتها فى شقة شقيقها الذى خرج من السجن ليجد منحة مالية من الشيخ سمحت له بفتح ديسكوتيك.

كان شقيقها أحمد هو من ناولها سيجارة الحشيش، وما أن شعر بأنها سرحت بعيدًا عمّا حولها حتى ابتسم فى خبث بعد أن عرف كيف يسيطر عليها ليجنى من ورائها ما يريد من مال.

أصبحت حقيبة يدها لا تخلو من علبة سجائر محشوة، لم تجرؤ على تدخينها أمام زوجها، مكتفية بتدخينها فى شقة أو ديسكوتيك شقيقها.

ولكنها فى الديسكوتيك لم تكتف بالحشيش وإنما مدت شفتيها لتحتسى الشمبانيا، وفى ثوانٍ غابت عن الوعى بل وبدا أن تنفسها قد اختفى ونبضها قد تسارع وأن بينها وبين الموت خطوة واحدة.

لكنها أفاقت على قُبلة من طبيب شاب تصادف وجوده ليلتها، قُبلة الحياة، ورُغم أنها استردت وعيها إلا أن الطبيب الشاب أصر على نقلها إلى عيادته ليضمن سلامتها، وخصوصيتها بعد أن عرف شخصية زوجها، ولم تقوَ على الاعتراض، شىء ما جعلها تستسلم للطبيب الوسيم وتنفذ ما يريد.

إنه لم ينسَ طعم شفتيها وهو يُقبّلها قُبلة الحياة، واحتفظت أصابع يديه بتكويرة نهدين مدورين كتفاحتين من ذهب، وهو يدلك صدرها ولم تختف من عينيه صورة جسدها الممدد أمامه الذى بدا أجمل من أن يكون حقيقة.

وبدأ علاجها من ضغط الدم المنخفض، وبأصابع مدربة راح يوقظ فتنة نائمة منذ سنوات طوال، ولم يكن من الصعب أن تنفجر، مثل فيضان دمّر سدًا بدا منيعًا أو مثل لمسة خفيفة على مصباح أخرجت الجنّى المحبوس منذ زمن بعيد.

بدأ فى شفائها من الداء المجهول الذى كان يعذبها ويؤرقها ويوترها دون أن تعرف تشخيصه، وما إن ذاقت الدواء حتى أدمنته، أقنعت نفسها أن العلاج يحتاج شهورًا، ربما سنوات، بدت كطفلة محرومة من الخبز وجدت نفسها فى مخزن شيكولاتة فكيف تخرج منه بسهولة؟!

وأحسّ زوجها بتغيُّرها، أصبحت متمردة، لا تطيقه، ولا تنصت لأوامره؛ بل ولم تعد تمتن لهداياه الثمينة، وبخبرة رجل يعرف حال المرأة من كلمة أو نظرة أو لمسة عرف الحقيقة، ولكن كان عليه أن يتأكد مما فهم.

 كلف  عشرة من أتباعه بمراقبتها، وفى أيام معدودة جاءوا إليه بخبرها، صوت وصورة، ولم يكن أمامه إلا أن يطلقها، الطلقة السابعة.

وفى تلك الليلة من أغسطس وجدتُه يطرق باب بيتى الصيفى العجمى، وبجرأة لم أتوقعها كشف لى عن ما حدث طالبًا منّى أن نتحدث بصراحة.

سألنى:

- هل أخطأت؟

قلت:

- أنت لم تتزوجها، أنت اشتريتها.

- نعم، وكانت الصفقة لصالحى، أخذت منها متعة لم أتخيلها، تزيد كثيرًا عن ما دفعت فيها من نقود.

- أنتم العراقيون تتميزون بجرأة تصل إلى حد الوقاحة أحيانًا، طلبت منّى الصراحة، لا تغضب.

- وأنتم المصريون لا تحبون الصراحة ولا تعبرون عمّا فى داخلكم أبدًا.

- على كل حال لقد طلقتها وانتهى الأمر.

- لا؛ أنا أحبها وأريد استعادتها.

- تذكرنى برواية «المومس الفاضلة». قطعًا قرأتها.

- فهمت ما تقصد.

- الحب أن تجد فيمن تحب عيوبًا مزمنة، ورغم ذلك تحبها، عاهرة وقبيحة وأنانية ولكنه يحبها، هذا هو الحب فعلاً.

- لكن فاطمة جميلة وشابة ولها العذر فيما فعلت، سأعيدها إلى عصمتى.

- هل سيقنعك شيوخك «الملاكى» بأنك كنت فى حالة غضب فلا يحاسبونك على تجاوز عدد الطلقات؟

 لكن هذه المرّة لم تقبل فاطمة بالعودة إليه، إنها ستعود إلى علاقة محرمة بلا متعة، اكتفت بعلاقة واحدة محرمة، لكنها ممتعة، ولِمَ تحاسب على ذنبَيْن؟

لم تغضب الله على خطيئتين؟ فضيحة واحدة تكفى.

 اختفى  الشيخ عن الأنظار تمامًا، لم يعد يستقبل أحدًا، أو يزور أحدًا، وقطعت تليفوناته، ولم نعد نعرف عنه شيئًا.

قيل إنه سافر سرًا، وقيل إنه ترك السرايا، وقيل إنه انتحر، ولكن بعد أقل من سَنة جاء ابنه الكبير ليصفى ممتلكاته فى الإسكندرية دون أن يأتى بسيرة أبيه متجاهلاً كل من عبّروا عن فضولهم بإلحاح.

اختفى حى العجمى من الأحداث لتبدأ تفاعلاتها فى حى كفر عبده؛ حيث الفيلات الأثرية والقصور التاريخية وبقايا العائلات الأرستقراطية.

هناك قدم الدكتور كريم أبوالفضل الملطى سيدة الأعمال فاطمة خليل السباعى إلى أسرته، وظل لنحو الساعة يتحدث عن عراقة أصلها وسعة أفقها وسرعة بديهتها ولم ينسَ أن يتحدث عن موهبتها فى البيزنس، وهزت رأسها منتشية بما تسمع، لكنها ما إن انفردت به حتى سألته عن الكلمة الغريبة التى نطقها.

- البيزنس يا حبيبتى يعنى طريقة زيادة الثروة التى نمتلكها.

هكذا شرح الكلمة الغامضة التى أخذت وقتًا حتى عرفت كيف تنطقها، لكنها تساءلت:

- لكنى لا أفهم شيئًا فى البيزنس.

- أنا أفهم.

أقنعها باستثمار بعض ملايينها فى مستشفى خاص يشاركها فيه بالخبرة ويديره نيابة عنها على وعد منه بتحقيق أرباح تزيد على ما أنفقت.

وفرحت بلقب «سيدة أعمال»، وقبل أن يأخذها فى الفراش إلى حيث تشتاق وقّعت ملفًا من الأوراق بسرعة حتى تلقى بنفسها فى أحضانه.

كان بين تلك الأوراق توكيل عام يسمح له بالتصرف فى كل ما يخصها، وفى اليوم التالى سحب من بنوكها خمسة ملايين جنيه تاركًا لها خمسة ملايين أخرى، لم يجردها من كل ما تملك، اكتفى بما يريد.

 بحثت  عنه فى كل مكان فلم تجده، عيادته مغلقة، تليفوناته خارج الخدمة، أسرته التى تعرّفت عليها فى كفر عبده فص مَلح وذاب، بدا أن باشواتها وهوانمها كومبارس استأجرهم من مكتب ريچسير وكتب لهم المشهد الذى سيمثلونه.

سمعت منها ما حدث بعد أن فوجئتُ بها فى مكتبى بعد أيام:

- أنتظرك منذ ساعتين فى مكتب سكرتيرتك.

- عادة أصل مكتبى باكرًا، ولكنى تأخرت اليوم لتناولى فنجان قهوة مع وحيد حامد، هل تعرفينه؟

- لا.

- هو أشهَر كاتب سيناريو فى مصر.

- تقصد بيكتب أفلام السينما؟

- نعم!

- لكن ليس وحده الشاطر فى حرفته.

وراحت تروى مشهد النصب الذى تعرضت له، ولاحظتُ أن عينيها تبرقان بالدموع وملامحها تضطرب وصدرها يلهث كلما نطقت باسم كريم:

- أنت تحبينه؟

- هو الرجل الوحيد فى حياتى.

- لِمَ لا تعودين إليه؟

- اختفى تمامًا، ممكن يكون سافر برّه يدرس، أنا فهمت إنه عايز ياخد شهادات أعلى، لكن محتاج مبالغ كبيرة، لو كان مجرم كان استولى على كل ما أملك، غالبًا سرق ما يحتاج لتعليمه، أنا سامحته، لو رجع لى لن أعاتبه، سأعطيه كل ما يريد، إن دموعى على المخدة دليل حبى له.

لم أعلق بكلمة، لا أحد يبحث عن تفسير للعشق، لا أحد يراجع عاشقًا فيما يفعل أو يقول، العشق مرض وعلاج، شمس ومطر، برد وحر.

سألتها:

- كيف أساعدك؟

- اكتب قصتى معه دون أسماء لعله يقرؤها ويعود.

لم تكن قد تجاوزتْ العشرين، إلا بسنوات قليلة، ولكنها عاشت أحداثًا يصعب تصديقها، ولولا أننى كنت شاهدًا على بعضها لتصورت أنها تهذى.

فى خمس سنوات تقريبًا جرى لها ما جرى، فما الذى ينتظرها فى سنوات طويلة مقبلة من عمرها؟

سألتها:

- هل أطلب لك فنجانًا من القهوة؟

ابتسمت قائلة:

- لكن ليس لديك بُن الكوبى لواك.

- أخيرًا حفظت اسمها.

- بل عرفت حكاياتها، هل تصدقنى لو قلت إننى مثلها؟

سرحتُ لثوان فيما قالت غير مصدق أنها وصلت إلى هذا الحد من الفهم وأدركت لحظتها أنها ستعرف كيف تعيش حياتها معتمدة على نفسها.