الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الباشا والثورة من كلاب الحرب إلى كلاب الحب! "الحكاية الأولى"

على صفحات المَجَلّة التى شهدت معاركه وتجربتَه الفريدة، نستعيد مع الأستاذ «عادل حمودة» أحدَ أهَمّ تحقيقاته الصحفية «ستيك هاوس.. شخصيات لامعة فى زنزانة الجنس الانفرادى».



هنا تصبح الكلماتُ بساطًا سحريًا ينقلك لتعرف الكثيرَ من الخبايا خلف الأبواب المغلقة، والبيوت التى ربما نَمُرّ أمامَها كل يوم لكن لا نعرف أىَّ شىء عمّا يدور بداخلها، يغزل بحكاياته الوجه الآخر لمشاهير وصعاليق.. فنانين وكُتّاب.

استطاع بحسّه الصحفى الذى لم يغادره أبدًا أن يغوص بنا فى أعماق وتفاصيل مجتمع «الشخصيات اللامعة»؛ ليظهر لنا جوانب حياتهم التى جاهدوا لبقائها بعيدة عن الأضواء.

ينتقل الأستاذ «عادل» من دراسة أسباب انتشار ظاهرة «زنَى المَحارم» فى العشوائيات وقتها، إلى قصر أحد الدعاة الذى تورّط فى علاقة مُحرّمة مع شقيقة زوجته.

أيضًا تكشف حكايات الكتاب الكثيرَ من التناقضات فى المجتمع وقتها فيما يخص علاقتنا بالدِّين؛ حيث يكشف تفاصيل قضية رشوة تورّطت فيها مهندسة مع مقاول شهير، ودخلت معه فى علاقة جنسية «لكنها لشدة تدَيُّنها كانت ترفض أن تلقاه يومَىْ الاثنين والخميس لأنها تصومهما»!

بين العشوائيات والقصور، نتعرّف خلال الحلقات المنشورة على حكايات لم نعلم عنها شيئًا.. حكايات مدهشة رُغْمَ مرور سنوات عليها.. وتفاصيل تؤكد أن فنون العمل الصحفى لا يزال لها بريقُها الخاص وأهميتُها فى رصْد ظواهر المجتمع بشكل محترف حتى فى زمن السوشيال ميديا..

 لم  تكن دعوةً على عَشاء أو سَهرةً أو سينما أو رحلة إلى شرم الشيخ أو تسوُّقًا فى مُول وإنما كانت دعوةً إلى تناوُل امرأة.

لستُ ممن يرون أحلامَهم تحت سروال الجنس الآخر، ويصعب على جسدى أن يصافح جسدَ امرأة مستعدة أن تفتح أبوابها لكل مَن يطرقها، إن الجنس ليس كالبَحر يلقى بنفسه فيه كل من يحس بالحَرّ، كما أن لا شىء يستمر ما لم يكن متبادلاً، ولكنى استجبت للدعوة؛ لسبب مختلف تمامًا أن أحاول حل لغز الرجُل الذى دعانى لالتهام امرأة مجهولة ليست مستعدة حتى لذكر اسمها الحقيقى، ربما كشفت سر انقلابه المُحير على نفسه حتى أصبح شخصًا آخر غير الذى كان طوال ما فات من عمره.

ماذا جرَى للأسمر النحيف، الواثق من نفسه، القادر على فرز الحق من الباطل، المستعد لقتال الشيطان إذا ما أخّرَهُ عن فرض أو منعه من خير؟ أو أقصاه عن واجب.

بالطبع لم تكن الدعوة فى ڤيلته الشبيهة بالقصر فى القطامية، أو فى شاليه على الساحل الشمالى يمتلكه هناك، أو فى مزرعته الواقعة على أطراف القاهرة؛ وإنما فى شقة خاصة أصبحت وكرَه المفضل للانحراف بعد أن ظلت مغلقة ومهملة فى عقود استقامته، بدقة يمكن القول إنها جرسونيرة.

والجرسونيرة تعبير اختفى تقريبًا من قاموسنا الاجتماعى والسَّكنى، شقة أو عوَّامة يستأجرها قادرون للنزوات الخاصة، أو للانفراد بأنفسهم بعيدًا عن حياتهم المعتادة، يكشفون فيها الجانب الماجن فى شخصياتهم الوقورة، ولو لساعات محدودة؛ ليخفّفوا من الضغوط التى لا يستطيعون الفرارَ منها، وربما يوفر لنا فيلم (ثرثرة فوق النيل) التفسير الذى نحتاجه، كتبه ببراعة نجيب محفوظ.

وحدث أن ذهبتْ زوجة صحفى وروائى شهير إلى العمارة التى فيها جرسونيرته وطلبت من البواب أن يناديه ولكن البواب ادّعى أنه لا يسكن فى العمارة بل أقسَم أنه لا يعرفه ولم يسمع عنه فكان أن صرخت فى وجهه «اطلع قُل له الرئيس عبدالناصر مات».

كانت الزوجة تعرف سر الجرسونيرة التى تَصّور زوجُها أنه يخفيه عنها ولكنها تركته فى أوهامه مثله مثل غالبية المشاهير فى جيله الذين كانوا يعتبرون الجرسونيرة مكانًا خاصًا لا يستهجنه المجتمع ولم تجد الزوجة مَفرًّا من فضح ما تعرف حتى لا يفوت زوجها متابعة الحدث المؤثر فى الجريدة التى يرأس تحريرها.

لكن مع أزمة السكن وضرورة الإبلاغ عن ساكنى الشقق المفروشة وتراجُع احترام الخصوصية والتربص بالشخصيات المعروفة والنَّيْل منها إذا ما خرجت عن الخطوط المرسومة ضربت فكرة الجرسونيرة بشدة ولم ينجُ منها إلا قائمة محدودة يمتلك أصحابُها الجرأة لاستخدامها ومنهم عبدالمحسن الصريطى.

تقع جرسونيرة الصريطى فى أحد أبراج المعادى، خُصص لكبار ضباط الشرطة، مُراقَب بالكاميرات، وتحرسه شركة أمن تابعة للداخلية، ولكل مالك شقة مكانٌ لسيارة فى الجراچ، يعنى وجودها فيه أن صاحبها فى شقته، وغالبية الشقق تسكنها عائلات يستفزها تشويه سمعة البناية بالعاهرات والجرسونيرات، والمؤكد أن غضبها كثيرًا ما تحوَّل إلى بلاغات وضعت الصريطى وأمثاله تحت المراقبة الدائمة، فما الذى يجعله يستمر فيما يفعل؟ ما كل هذا التهور؟ ما كل هذا الاستهتار بسمعته؟ هل تمنحه رتبته العُليا السابقة جرأة أن يمارس الدعارة فى «مستوطنة شرطية»؟ هل فَقَدَ عقله بعد أن فَقَدَ منصبه؟ هل لم يَعُد يَعبأ بشىء مَهما كانت تبعاته؟

صحيح أن مَدخل البرج يحمل لافتة كتب عليها «ادخلوها بسلام آمنين» ولكن صحيح أيضًا أن العدسات ترصد والميكرفونات تسجل والتقارير تكتب وتُرسل وتُحفظ فى خزانة حديدية لتُستخدَم فى الوقت المناسب ضدّنا.

لقد جئنا إليهم بأنفسنا، ليسوا فى حاجة للتنصت على تليفوناتنا أو رسائلنا بحثًا عن فضيحة، نحن قدّمنا لهم الفضيحة ساخنة وشهية على طبَق من كريستال.

والحقيقة أننى فكرتُ فى التراجُع، أن أخرج للشر لسانى وأبتعد عن المكان المشبوه سالمًا وأغنّى له، لكن الفضول تملكنى، شلنى، جعلنى أتقدم معه إلى المصعد صامتًا، مترقبًا، متسائلاً للمرّة الألف: ما الذى جرى للرجُل؟ ما الذى حوَّله من عابد إلى فاجر؟ من مستقيم إلى منحرف؟ من شخص يشيد كل من يعرفه بأخلاقه إلى شخص يستعيذون بالله من الشيطان كلما جاءت سيرته؟ ما كل هذا المَلل الذى يشعره بعدم الإشباع؟

الجرسونيرة فى الدور الثامن والعشرين، تطل على النِّيل، ترى منها المارة فى حجم «عقلة الإصبع» أمّا السيارات فتبدو مثل لعب الأطفال، وعلى ما أظن فإن الشعور بضآلة الأشياء يُسَهّل ممارسة الخطيئة باطمئنان.

 ولكن  المشكلة، لو جاءت «كبسة» ونحن فى هذا الارتفاع، لن نجد مَنفذًا للفرار، لن ننتحر، سنستسلم، ونعترف، ونقدم الأدلة بأنفسنا، وما أكثرها أدلة، وفّرَها الصريطى بنفسه، بار على رفوفه أشهَر أنواع الخمور بما فيها «التكيلا» التى يغرق فيها، علب سجائر محشوة بالحشيش، منشطات متعددة الجنسيات، وثلاث عاهرات جئن حسب الموعد، الكارثة أنهن شقيقات، الصغرى حامل، والوسطى ستتزوج بعد شهر وتدعونا إلى عُرسها، والثالثة الكبرى، عقل الغواية المُدبر والمُحرّض والمُقنع والمُحرك؛ بل ويمكن أن نضيف: والمتحدّى أيضًا، فهى تثق أنها قادرة على إقناع أكثر النساء خُلقًا وإخلاصًا بممارسة الرذيلة، والدليل أنها جاءت بشقيقتيها، لحمها وعرضها، سترها وشرفها.

«فى كل امرأة نقطة احتياج لو وضعت يدك عليها حرّكتها كما تشاء» هكذا تبرر موهبتها فى القوادة.

وتعجبها نكتة التواء الذى عرض على الزبون أنواعًا مختلفة فى النساء مع سعر كل منها وعندما سأل الزبون: «كلهن شمال مفيش واحدة شريفة؟» أجاب القواد: «فيه ولكن غالية».

ولا تلومونى لو صدمتَ فيما رأيتَ وسمعتَ وعرفتَ، إن مهنتى علمتنى ألّا أندهش من سلوكيات البشر إذا ما عضّهم الفقر وأذلتهم الحاجة، ولكن ما حولى يدعونى للغثيان، لستُ رومانسيًا، على أن هذا ما شعرت به، وأحمد الله أن الجرعة كانت أكبر من احتمالى لأجد سببًا للفرار، ومن جانبه لم يصر الصريطى على بقائى؛ فقد كان يعرف أن صوتى من دماغى كما أنه أصبح مستعدًا للقتال فى الفراش.

وما إن خرجتُ من الشقة حتى رحت أهبط درجات السلم، نزلت طابقين أو ثلاثة- لا أتذكر بالضبط- ثم طلبتُ المصعد، كأنى أنفى علاقتى بما كنت فيه وأتبرّأ منه، ولو بينى وبين نفسى.

حيّانى الحارسُ مبتسمًا فى لزوجة، ابتسامة أعرفها، الرد عليها بمنحة ورقة مالية يحدد قيمتها تستُّرُه عليك، وربما لهذا السبب نظر لى فى شفقة واضحة قائلاً: «ما لسّه بدرى يا بيه أنت لحقت؟».

لكن ما لفت نظرى أن لهجته تشى بجذوره الصعيدية كما أنه كان يضع نظارة سوداء على عينيه وهو فى المدخل المُعتم تقريبًا وكأنه لا يريد أن يرى ما يرى أو كأنه ينكره حتى لا يشمئز من نفسه.

طوال الطريق المزدحم بالسيارات من المعادى إلى مصر الجديدة حاولتُ جاهدًا تجاهل رغبة سائق التاكسى فى الثرثرة بعد أن تعرّف علىَّ من مشاهدته البرنامج التليفزيونى الذى كنت أقدمه مساء كل أحد على فضائية خاصة.

كان يسأل مثله مثل غالبية المصريين «البلد رايحة فين؟».

الإخوان فى الحُكم والمعارضة التى شكلت جبهة إنقاذ لا تطيقهم والميديا لا تترك لهم خطأ واحدًا ولو عابرًا دون التوقف عنده وهم من جانبهم يحاصرون المؤسَّسات القضائية والإعلامية ويطلقون النار على المتظاهرين الذين تجمَّعوا عند القصر الجمهورى مطالبين بإلغاء الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس المهزوز ليحصّن قراراته فى حالة من الديكتاتورية أشعلت الغضب وفرضت على الجميع ذلك السؤال الصعب «البلد رايحة فين؟».

فى تلك الظروف السياسية الحرجة كان الصريطى يمارس نوعًا من زنَى المَحارم متناسيًا تاريخه الطويل فى حماية البلد.

لم يتحسَّسْ- وهو يخلع ملابسه ليدخل فراش الشقيقات الثلاث- آثار الرصاصات التى أصابت كتفه وظهره وذراعه وكتبت شهادة بالدم عن حُبه لبلاده وهو يطارد مهرّب مخدرات مسلح أطلق النار عليه وتركه بين الحياة والموت.

هل أحسَّ وسط اللحم العارى بنفسه أكثر؟

هل ندم على ما فات؟

هل شعر بأن الرذيلة منحته متعة لم تمنحها له الفضيلة؟

قال لى وهو يودّعنى على باب جرسونيرته «فَوَّتَ فرصة لا مَثيل لها»!

ابتسمتُ فى صمت، فأضاف: «كلما زاد الحرام زاد التمتع به»!

حاولت إنهاء الحوار حتى أتركه للحرام الذى أصبح يهواه، فقلت: «أراك ليلاً فى المقهَى ندخن الشيشة ونتكلم فيما يجرى حولنا، أنت تعرف الكثير من الأسرار وأنا أريد سماعك».

قال دون تفكير أو تردد: «لا، الليلة عندى برتيتة بوكر».

بهتُ مما سمعتُ، الشقة التى سيلعب فيها البوكر سبق أن اقتحمها وهو ضابط صغير يخدم فى إدارة مكافحة جرائم الآداب وقبض على صاحبها وقدّمه للمحاكمة ولكنه نجا من العقاب لبراعة محاميه، هل أصبحا صديقين؟ هل هذا ممكن أن يجلسا معًا على مائدة قمار؟ هل القيامة على وَشَك أن تقوم؟

باقى شلة «البرتيتة» ليسوا أفضل من صاحب الشقة الذى يجنى نسبة من الأرباح أو الجنيوتا من المكاسب- التى تزيد على مائة ألف أحيانًا- ولو لم يلعب.

فنان تشكيلى يتاجر فى اللوحات المزورة لمشاهير الفنانين وبيعها لمُحدثى ثروة كى يتباهوا برقيّهم.

ولاعب كرة سابق جمع ثروته من تدريب فرق خليجية وحرّر له أكثر من محضر تحرُّش جرى على إثرها ترحيله وإعادته إلى مصر.

ومقاول رصف طرُق كوَّن ثروات حرامًا من تخفيض طبقة الأسفلت نصف سنتيمتر ليضع فى نهاية كل طريق يرصفه ملايين من الجنيهات فى «كرشه».

وسيدة مجتمع تنتمى إلى عالم الروتارى ورثت ثروة عن زوجها وظفتها فى إقراض رجال الأعمال الذين لفظتهم البنوك مقابل فائدة مرتفعة تنتهى باستيلاء على عقار ضمان.

 ربما  كانت هناك شخصيات أخرى تأتى وتلعب وتذهب ولكنى لم أعرفها، لكن ما يلفت النظر أن غالبية أفراد الشلة خارجون عن القانون وكان مفروضًا على «الباشا» مراقبتهم والإيقاع بهم، فما الذى حدث كى يصادقهم ويلعب معهم وربما يستخدمونه لحمايتهم؟ لقد أغرته سيدة الروتارى بالانضمام إليهم حول المائدة الخضراء بعد أن دخلت فراشه فى أحد فنادق مصر الجديدة بعد انتهاء ندوة تحدّث فيها عن تجربة الأمن بعد ثورة يناير برَّأ فيها مبارك من قتل المتظاهرين قبل أن يبرئه القضاء بسنوات ولكنه لم ينكر رغبته فى التوريث.

 والحقيقة أن الشيطان كان معه غالبًا، كثيرًا ما انتهت ليالى القمار بمكسب هائل جناه رُغْمَ ضعف أوراقه، إن قدرته على التماسك والثبات وهو يبلف غالبًا ما كانت تجبر من حوله على الانسحاب تاركين ما وضعوه من مال على المائدة، تمتع بحظ وافر، وقلب ميت فى اللعب، وكأن إبليس يعتذر له عن سنوات الاستقامة الطويلة التى عاشها بعيدًا عن غوايته، وربما لأن قصتهما متشابهة، كلاهما كان ملاكًا ثم هوَى.

والعذر الوحيد الذى كنت أقبله منه، ترهل زوجته، سمنتها المفرطة إلى حد صعوبة الحركة، وقدرتها الفائقة على النكد، وسهولة لجوئها للشكوَى، وصعوبة شعورها بالسعادة ولو نالت ما تمنت.

كانت تجن بالشىء يوم تحصل عليه ولا تنام إلا وهو بجانبها على الفراش، وفى اليوم التالى تتغزل فيه وبعد أسبوع تصفه بالروبابيكيا حتى ولو كان خاتمًا من الماس.

ويبدو أنها أصابته بتلك العدوَى، ما إن يشتهى امرأة حتى يرفعها إلى السماء، ويعرض عليها حياته مقابل حبها، لكن سرعان ما يلقى بها فى جُبّ النسيان، ويبحث عن عاهرة لا تنظر إلا إلى حافظة نقوده.

ارتبط بزوجته فور تخرُّجه فى كلية الشرطة، تنتمى إلى عائلة لا تقل ثراءً عن عائلته، والعائلتان معًا تسيطران على الحياة النيابية فى دائرتهما الصعيدية بالتناوب، نائب من عائلته يخلفه نائبٌ من عائلتها، منتهى الديمقراطية.

قلت له ساخرًا ذات يوم:

- الزواج المبكر مثل تناوُل العَشاء فى الخامسة مساء، لا يمكن أن تصل إلى منتصف الليل دون أن تجوع، ولحظتها ستأكل ما يصادفك ولو كان طعامًا باردًا، باختصار «ترَمْرَم».

ضحك قائلاً: «لا أحد يتحكم فى قدَره منذ أن يخرج إلى الحياة ولكن الزواج فى رأيى يقوم على الصداقة قبل الحب ولم أكتشف أننى وزوجتى لسنا صديقين إلا بعد أن خرجت من الخدمة، بعد أن كنت لا أراها إلا قليلاً أصبحت أمامى ليل نهار بلا حديث يجمعنا أو اهتمام يشغلنا، وكان أن اخترعت مشاغل كثيرة لأبتعد بقدر المستطاع عن البيت».

المُلفت أنه طوال سنوات خدمته لم يفكر فى خيانتها أو الزواج من أخرى؛ حيث عجزت عن الإنجاب رُغم أنها وافقت على وجود شريكة لها فيه وبالطبع لم يفكر فى أن يطلقها كما يفعل غالبية الرجال فى بلدته بالزوجة العاقر؛ بل تبنيَا معًا طفلاً وطفلة نجحا بحُكم نفوذه فى تسجيلهما باسميهما والأهم أنهما نجحا فى تضليل الأهل والجيران حتى صدَّقا أنهما من صُلبهما.

ما الذى جعله لا يَعبأ بها ويتركها تعض الأرض التى تمشى عليها غيظًا من تصرفاته؟ لم يهملها إلى حد الإهانة وفضّل عليها عاهرات رخيصات؟ ما الذى غَيّره بالضبط؟

كان حى المنيرة يحلف بحياته منذ أن وصل القاهرة للسكن مع ابن عمّه الطالب بكلية الحقوق، اجتاز اختبارات كلية الشرطة وكان مطمئنًا للقبول فى كشف الهيئة، وجود عائلته فى البرلمان منذ سنوات حُكم الوفد وسعد زغلول جعل تحت اسمه أكثر من خط أخضر كى يكون على رأس المقبولين، كما أن العائلة تتمتع بشهرة جيدة فى وزارة الداخلية بعد أن خرج منها أكثر من مدير أمن وحكمدار ومساعد وزير.

والأهم أن الباشوات الكبار فى عائلته حرصوا على أن يحتفظ بأخلاق الصعيد وهو فى القاهرة، ألّا ينظر إلى امرأة محرَّمة عليه، ألّا يرفع صوته فى وجه الشيوخ والعجائز ولو كانوا معدمين، أن يعامل الضعيف برحمة والمتجبّر بشدة.

ورُغم أن الشقة التى كان يقضى فيها إجازة نهاية الأسبوع كانت تتفجر موبقات وسهرات طلابية طائشة دعا إليها شريك ابن عمّه فيها فإنه كان ينظر إلى نفسه باحترام فلم يضعف أمام إغراء، لا خمر، لا نساء، لا مخدرات، ولكنه لم يستطع تجنب السجائر وإن حرص على عدم تدخينها أمام الكبار فى عائلته أو غيرها.

وما إن تخرَّج ضابطًا حتى قرّر باشوات العائلة أن يتدرب فى إدارات شرطية متنوعة، لم يسمحوا له باختيار مكان مريح لخدمته بل أصرّوا على أن يبدأ مشواره فى الصعيد رُغم أنه كان من أوائل دفعته، وجعلوه يتنقل من إدارة إلى أخرى حتى يكتشف جوهر الشرطة، قضى سنتين فى الأمن المركزى كى يحافظ على لياقته البدنية، وتلكأ قليلاً فى مباحث جرائم الآداب، حتى فهم سرّ النفس البشرية ودخل فى معارك شرسة مع المهربين فى مباحث مكافحة المخدرات، ليواجه المشكلة الأخطر فى البلاد وانتدب إلى مكتب الوزير ليعرف كيف تدار الوزارة وليدرك قوتها فى مواجهة رئاسة الحكومة ذاتها، ولأسابيع معدودة وجد نفسَه فى شرطة رئاسة الجمهورية ولكنه لم يستمر فيها طويلاً بعد اغتيال السادات.

واختير لبعثة فى الولايات المتحدة داخل جهاز المباحث الفيدرالية (إف بى آى) وعاد إلى القاهرة يحمل فكرة ضغط بشدة لتنفيذها فى وقت تزايدت فيه التنظيمات والتفجيرات والاغتيالات والتفخيخات، فرقة خاصة لمواجهة الإرهاب، تدريب بدنى فائق القوة، سرعة خاطر يجيد التصرف فى الأوقات الحرجة، ثقافة واعية بجذور الظاهرة وأسبابها الدينية والاقتصادية.

واستجيب لفكرته وأصبح عليه تجهيز المختارين ذهنيًا بعد نجاحهم بدنيًا، فى ذلك الوقت، وجدته يطلب منّى تليفونيًا نسخًا من كتبى التى نشرتها عن اغتيال السادات وتنظيم الجهاد وسيد قطب، وأرسلتها إليه، ولكن رُغم ذلك لم تسنح الظروف وقتها للتعرف عليه. تعرّفت عليه فى ظروف سيئة جدًا.

 كان  طالبٌ يدرس السياسة والميديا فى الجامعة الأمريكية يقود سيارته فى طريقه إلى الغردقة بجانب خطيبته عندما أوقفه كمين بالقرب من العين السخنة ورُغم مظهره الهادئ المتواضع فإن شيئًا ما استفز الضابط فأخرجه من السيارة هو وخطيبته وقادهما إلى حُجرة داخلية لاستجوابه:

س: هل تحمل مخدرات؟

ج: أنا حتى لا أدخن السجائر!

س: هل تستخف دمك؟! أجب على قدر السؤال: هل تحمل مخدرات؟

ج: أبدًا.

وتضاعف استفزاز الضابط لنفس السبب المجهول الذى يبدو أنه فى شخصه فأمر الجنود بخلع ملابس الشاب لتفتيشه فجردوه مما يرتدى إلا قليلاً.

وخرجت خطيبته تستغيب بوالدها أو والده، عبر التليفون المحمول فجرى الضابط وراءها وأمسكها من شعرها وأخذه وهو يصفها بوصف لو صح لكانت فى سجن القناطر عنبر الآداب.

انهارت الفتاة وراحت تبكى وتصرخ فى حالة هيستيرية لفتت انتباه قادة سيارات تعبر الكمين فاضطر الضابط لتركها وفى لحظة خطفت منه الموبايل وراحت من جديد تستغيث بأحد لينقذها هى وخطيبها.

حرر الضابط محضرًا للشاب وأرفق به أقراصًا مخدرة أخرجها من درج مكتبه حرزًا ودليلاً.

نشرت القصة فى الصفحة الأولى من جريدة «الفجر» وقت أن كنتُ أرأسُ تحريرَها وكالعادة شككت الداخلية فى صحتها وحرّضت صحفًا موالية لها على الهجوم علينا والنَّيْل منّا والتشهير بنا.

وتلقيتُ اتصالاً من رقم موبايل غير ظاهر قدّم صاحبه نفسه «اللواء عبدالمحسن الصريطى» ولم يتردد فى توجيه اللوم لى بنشر القصة التى يمكن أن تستغل- حسب رأيه- فى توجيه طعنة لرجال الشرطة فى وقت يموتون فيه برصاص الإرهاب وكاد الرجُل أن يتهمنى بالخيانة الوطنية.

وكان ردّى: يا سيادة اللواء لو حددت لى موعدًا للإجهاز على الإرهاب أعدك بالصمت المطلق حتى تبرأ البلاد من هذا السرطان الأسود.

وارتفعت نبرة صوتى مضيفًا: كنت أتصور أن يُحقق مع الضابط المتجاوز لا أن تلفق قضية للضحية، ألا نتقى الله فى شباب هذا البلد؟ ألا تعرف أن كثيرًا من الشباب أصبحوا إرهابيين- رُغم ثراء عائلاتهم- بسبب تصرفات مشابهة شعروا فيها بالإهانة؟ ألا تعرف أن القسوة أكثر ما يهدد النظام والحرية أكثر ما يطيل عمره؟

وقبل أن ينهى المكالمة سمعتُ منه تهديدًا بتقديم بلاغ ضدّى إلى النائب العام، ولكن فى الحقيقة لم أتلقَّ إخطارًا بالتحقيق حتى يومنا هذا، فقد طلب مبارك توضيحًا من وزير داخليته فأمر بإيقاف تلك المهزلة.

وقبل أن تبرد القصة وقع حادث أسوأ.

قبضت الشرطة فى أحد مواقف الميكروباص على سائق شاب لسبب مجهول وساقته إلى القسم وهناك تعرَّض إلى تعذيب مهين لرجولته بوضع عصا فى مؤخرته.

وتكرر السيناريو المعتاد؛ نفىٌ، تكذيبٌ، سُبابٌ من صحف أخرى، وتهديدٌ بالنيابة العامّة، ولكن هذه المرّة وقعت مفاجأة غير متوقعة، اتصل بى الصريطى معتذرًا ومعترفًا بالواقعة؛ بل وذكر أن الضابط قد أوقف عن العمل وحقق معه داخليًا رُغم أنه ابن مدير أمن لا يزال فى الخدمة، وفى المقابل طلب منا الضغط على الضحية وإقناعها بسحب البلاغ المقدم من إحدى المنظمات الحقوقية إلى النائب العام، ولكنى رفضت مؤكدًا أن القرار ليس بيدى.

انتهت تحقيقات النيابة بإحالة الضابط المتهم إلى المحاكمة الجنائية وحُكم عليه بالسجن مدة لا أتذكرها، ولكن المفاجأة أن الشاب الذى انتهكت كرامته شعر بالزهو من مساندة الرأى العام له فلم يتردد فى فرد إتاوات على سائقين جُدُد فى الموقف بعد أن أصبح مشرفًا عليه، الضحية أصبح جلادًا.

وفوجئت بالصريطى فى مكتبى يحمل فيديو يثبت ذلك فلم أتردد فى نشر ما فى الفيديو من صور ووقائع فتلقيت مكالمة شكر وامتنان منه بجانب دعوة على عَشاء فى سفينة على النيل.

أصبحنا صديقين، ويومًا بعد يوم عرفتُ عنه كثيرًا من المعلومات لم يكذبها أحد ممن يعرفونه؛ بل إننا حضرنا معًا احتفالاً بمولد السيدة نفيسة وأسعدنى أن يدخلنى مقامها معه وهو يُغَير بنفسه كسوتها ويقدم لمريديها وجبات طعام وقماش ثياب وهبات من مال.

يومها كان يرتدى جلبابًا أبيضَ ويضع على رأسه عمامة ولم يكن هناك حراسة خاصة ترافقه، ولم أمنع نفسى من القول «هل صحيح أنت ضابط شرطة؟!» وابتسم مجيبًا «صدّقنى مثلى كثُر ولكن رائحة فأر ميت تفسد ندَى أشجار غابة بأكملها».

وذات يوم عرفتُ منه: إن شبابًا تجمّعوا فى حديقة الأزهر يوم «الفلانتين» ومعهم أشياء حمراء (دببة وزهور ومناديل وفانلات) ليُجروا بروفة للتظاهرات التى اشتعلت فيما بعد يوم الثلاثاء 25 يناير عام 2011م.

ورُغم رصد التجمع وتصويره؛ فإن لا أحد أخذ الموقف بجدّيّة وكان الشعور بالقوة يسيطر على قيادات البلد بجانب ثقة فى النفس ربما توصَف بالغرور.

ولكن الغرور تحوَّل إلى هروب بعد أن اشتعلت الميادين بالتظاهرات وبلغت مداها بتنحّى الرئيس وسفره هو وعائلته إلى شرم الشيخ بحثًا عن استقرار لم يحصل عليه.

وفى الوقت نفسه بدأت موجات محاكمات وتصفيات الكبار فى الشرطة للتخفيف من حدة الشعور العام بكراهية تصرفات بعض من ينتمون إليها.

وجىء بلواء هرم من المعاش ليصبح وزيرًا للداخلية وفى حُمّى الصراع بين الباشوات من أجل البقاء جرَى تضليل الوزير ودون أن يدرى أطاح بمَن يجب أن يبقى وأبقى على من يجب أن يُطرَد.

وتكاتف الفاسدون الذين طاردهم الصريطى عليه طوال خدمته وجدوها فرصة للتخلص منه بعد أن شرّدهم بعيدًا عن أماكن السلب والنهب التى غرفوا منها، وسعوا للإجهاز عليه قبل أن يستدير إليهم، ولفقت للرجل قضايا تضخمت ملفاتها بمستندات مزورة، ولا بُدّ أن التزوير كان متقنًا فقد نفذه محترفون لهم خبراتهم العريقة المتوارثة فى ذلك المجال كما كان تحت أيديهم الأختام الحقيقية.

وقُبض على الصريطى وسُجن على ذمة التحقيقات وظل فى «مزرعة طرة» نحو السَّنة كان خلالها يدرس قضاياه بنفسه ووجد بين تلاميذه من الضباط من ساعده فى الحصول على الملفات الحقيقية التى تدين من لفقوا له الاتهامات.

 وقبل  أن يعود إلى الحرية وجدت رسالة منه حملها من السجن ابن عمّه الذى أصبح مستشارًا فى محكمة النقض:

«الصديق العزيز..

شعرت برغبة فى الكتابة حتى أزيح عن صدرى أحمالاً ثقيلة حطم بها الظلم ضلوعى فلم أجد سواك، ليس طلبًا لمعروف؛ وإنما سعيًا وراء فضفضة ربما تريح القلب وتهدّئ الخاطر وتسكت الضمير.

تألمتُ كثيرًا مما جرَى لى ولكن الخطير أننى أحسَستُ بأن شخصًا آخر غيرى سيخرج من المأساة التى فرضت علىَّ، شخصًا لا يريد سوى الانتقام من نفسه بعد أن أدرك مدى سذاجته، نعم سذاجة أن تكون مستقيمًا وسط جماعة منحرفة.

كرهت نفسى إلى حد يصعب علىَّ تحمُّله ولم أعد أثق فيها أو أطمئن إلى أنها تقدر على التفرقة بين الصواب والخطأ أو بين الحق والباطل.

ربما أجد عندك تفسيرًا لحالتى ولكنى سأنتظر إلى أن نلتقى صدفة لأسمع منك».

وجاءت الصدفة متأخرة بعد أن أثبت براءته وخرج من السجن ولكنها وقعت فى شرم الشيخ.

 كنت هناك أتابع التحقيقات التى بدأت مع مبارك ونجليه علاء وجمال- فى نيابة مدينة الطور- عندما وجدت الصريطى يجلس فى مطعم سمك على خليج «نعمة»، دخلت لتناوُل العَشاء، وما إن سارعت إليه حتى تراجعت بعد أن وجدت بجانبه امرأة أوكرانية، هل شككت بتراجعى أنه هو نفسه؟ أمْ أننى خشيت من إحراجه؟ ولكنه هب من مكانه وجاء إلىَّ مرحبًا ودعانى مُلحًّا للجلوس معهما: - أقدّم لك الدكتورة كسينيا، دكتوراه فى القانون الجنائى، تعيش فى كييف، دعوتها على أسبوع فى شرم الشيخ.

وقدّمنى إليها مستفيضًا فى مَنحى أوصافًا وألقابًا لم أتخيل الحصول عليها من لواء شرطة ولو كان من أصحاب السوابق الذين يحملون لقبَ سابقًا.

وقبل أن أستوعب ما حولى أضاف:

- لو شئت قضاء السهرة معنا ستدعو كسينيا صديقة لها جاءت معها على نفس الطائرة لتكون بصحبتك حتى لا تشعر بالمَلل.

وما إن قامت كسينيا إلى الحمَّام لتصلح مكياچها حتى فتح الموبايل فرحًا مثل مراهق ليرينى صورًا عارية لكسينيا وصديقتها التى دعانى لتناولها قائلاً:

- أظنك لن ترفض «العزومة المثيرة»؟

كانت الصور تبرز مفاتن «البضاعة» بطريقة لا تخلو من الغش الذى يصعب على الزبون الغشيم كشفها بوضع فلاتر على العدسات تخفى عيوب البشرة وتخفف من ترهل اللحم، كتالوج إغراء من بُعد يُرسَل إلى راغبى المتعة للاختيار بين النساء الملوّنات على صفحاته الإلكترونية كاشفًا عن شفرة التواصل معهن.

لا يقل السعر عن ألف دولار فى الأسبوع تدفع مقدمًا ببطاقة ائتمان بجانب تذكرة السفر وحجز الفندق ولا يسترد المبلغ إذا ما جرى التراجُع عن الطلب.

وعادة لا تمانع المرأة فى تصويرها عارية مع الزبون حتى يتباهَى بنفسه وسط أصحابه كما أنها دعاية مجانية لها.

بدت كسينيا أقل جمالاً من صورها الدعائية ولكن ما لفت نظرى أنها تحمل الدكتوراه فى القانون الجنائى، هل هذا صحيح؟! نعم صحيح، لكن راتبها الجامعى لا يزيد على ثلثمائة دولار، راتب ضئيل يكفى بالكاد لسداد إيجار شقتها الضيقة وأقساط سيارتها الصغيرة، وتساعد أمَّها التى تعيش معها فى تكاليف الطعام والكهرباء والمياه، ولكن ذلك لا يسمح لها بشراء ثياب وأحذية مناسبة تليق بمكانتها الأكاديمية، كما أن الصعب أن تدير نصيبها من تكاليف الزواج إذا ما التقت بابن الحلال.

كانت الدعارة هى الحل.

المفاجأة أن ابن عم الصريطى الذى أصبح قاضيًا فى النقض تزوّج من امرأة تشبه كسينيا ولكنها مسلمة.

لم يترك ابن عمّه الشقة التى سكنها وهو يدرس الحقوق، تزوج فيها ولكن زوجته بعد طول عِشرة ماتت، وما إن تجاوز شهور الحُزن حتى راح يبحث عن زوجة أخرى مناسبة لسنّه وعمله وتقبل بابنه الذى يدرس هندسة الكمبيوتر، لم يقرب الحرام فى شبابه فكيف يتورط فيه بعد ما وصل إليه؟!

بعد طول بحث قام به أصحابه حدّدوا له موعدًا مع أرملة تصغره بعَشْر سنوات، تصورتْ أن تحت القبة شيخًا فغالت فى طلباتها، أن يُغير شقته ليسكنا فى المهندسين وأن يضمن مستقبلها بوديعة فى البنك لا تقل عن ربع مليون جنيه وسيارة مقبولة، ولكن المفاجأة أن رجُل القانون الذى قضى عقودًا طويلة فى خدمة العدالة لم يكن قادرًا على تلبية طلب واحد لها فانسحب معتذرًا دون مرارة.

اختير لتدريب القضاة فى دولة أوزبكستان ولفت نظره جمال مرافقته ورقتها رُغم تخطيها الأربعين من عمرها ودون عمد وجد نفسه يتقرّب منها ولكنه لم يَمسَسْها عندما دعته لتناوُل العَشاء فى بيتها، لفت نظره صغر الشقة وتواضع أثاثها رُغم منصب صاحبتها الرفيع فى وزارة العدالة، وفى الطريق إلى فندقه فكر فى الزواج بها، واستخار الله، وفوجئ بأنها لا تطلب شيئًا، إن شخصيته ومكانته وثقافته تكفيها وتزيد، وفرحت بخاتم من الذهب وثوب الزفاف، وجاءت لتعيش فى شقته القديمة، ليشعر معها بأنه «مَلك زمانه».

 وعندما  عرفت القصة تساءلت «إذا كان قاضيًا فى النقض لا يستطيع الزواج بسهولة من سيدة مصرية فماذا يفعل الشباب؟!». وجاءت الإجابة: إمّا أن يتزوج أوزبكستانية أو يبحث عن علاقة جنسية مع أوكرانية!

واستجبت لدعوة الصريطى لقضاء السهرة فى ديسكوتيك بصحبة كسينيا وصاحبتها، موسيقى وصخب وامرأة شابة، ما المانع؟

ودخلنا الديسكوتيك وسط ترحيب أصحابه بالباشا، وجلسنا على أفضل مائدة، وهبطت علينا أطباق الطعام وزجاجات الشراب، وأفزعنى أن يغرق الباشا فى التيلا، أو الثقيلة، وأذهلنى أن يقوم ليرقص على ضجيج موسيقى «الميتلك» التى اعتبرت وهو فى الشرطة أنها تخص عبدة الشيطان وقبض على الشباب الذى يسمعها.

راح الصريطى يقفز فى الهواء، ويعود ليلامس الأرض، ويلف حول نفسه بسرعة لا تناسب سنّه ولا تخشّب جسده، وشعرت بأن الليلة لن تمُر بخير، وما توقعته وجدته، فلم تمُر خمس دقائق إلا وكان الصريطى ممدًا على الأرض فاقدًا الوعى وجاءت سيارة إسعاف لتنقله إلى المستشفى.

بقيت الليل ساهرًا بجانبه وفريق كامل من الأطباء حوله استدعوا من الاستراحة بعد أن عرفوا باسمه ولم يمنع حرصهم على شفائه أن قال أحدهم:

- سبحان الله؛ مبارك يحاكم وأحد رجاله بين الحياة والموت، النظام كله يتداعَى.

شاءت الأقدار أن ينجو الصريطى من ذبحة صدرية كادت تجهز على حياته وعندما خرج من المستشفى دعوته إلى تناوُل الطعام على شاطئ خليج القرش وبعد أن ظل صامتًا متأملًا سقوط الشمس فى الماء وسيطرة القمر على الجبال العتيقة قال فجأة وكأنه يكلم نفسه:

- إننى لم أنجُ من الموت فقط؛ وإنما نجوت من الفضيحة أيضًا.

- سأكون صريحًا معك، أنت تثير دهشتى، كنت مستقيمًا فى وقت يقبل الخطأ، وأصبحت عابثًا فى وقت تبدأ فيه التوبة، حياتك مقلوبة، متطرفة، وتصرفاتك لن تداوى نفسك مما أصابها بعد الظروف الصعبة التى مرت بك، أنت تقتلها انتقامًا ممن خانك وغدر بك وهى لا ذنب لها، تدفع الثمَن مرتين، ولن يصاب سواك.

وعرضت عليه أن نزور طبيبًا نفسيًا فلم يمانع.

كان التشخيص صادمًا، فقد السُّلطة التى كان يتمتع بها دون حساب أو عقاب حتى ولو بدا لنا زاهدًا فيها، والأسوأ أن السُّلطة خانته، وغدرت به؛ بل وسجنته وكشفت له عن وجه قبيح لم يتخيل أن يراه.

وحسب التصنيف المجمع عليه فإن السُّلطة تأتى على قائمة المتع البشرية يليها القمار ثم الجنس، ولو كانت متعة السُّلطة تزيد من باقى المتع فإن فقدها يأتى بعجز فى الإشباع يعانى منه المسئول السابق مَهما أفرط فى القمار والجنس والطعام والخمر.

وتساءل الصريطى عن العلاج لكن الطبيب الشهير المتمكن من حرفته قال له:

- سأطلب منك فى البداية ألّا تكلم أحدًا ثلاثة أيام، كل ما يسمح لك فيها طعام خفيف، وقهوة، وسجائر فقط، لا بُدّ أن تسترد نفسك المفقودة تحاورها، تسمعها، لا تهرب منها، تبتعد عن كل ما يخفيها عنك، لو نجحت فى ذلك تعالَ لى ولو عجزت واصل ما أنت فيه، وإن كنت أحذرك أن حالتك ستنتهى بالانتحار إذا لم تستجب للعلاج، لست أفضل من هتلر الذى نسمّى حالتك باسمه.

- ولو كذبت عليك؟

- سأكتشف الحقيقة فور أن تدخل مكتبى.

- هل الصوم عن البشر سيأتى بمعجزة الشفاء؟

- لا؛ ولكنه الخطوة الأولى، والأهم التى ستذكرك بفطرتك السوية وبَعدها ستربى نفسك من جديد مع شريك سأختاره لك إذا ما نفذت الخطوة الأولى.

سَخَرَ الصريطى مما قاله الطبيب ولكن المفاجأة أنه نفّذ بالفعل ما أراد حتى إنه لم يرد على مكالمتى الهاتفية إلا بعد أن تجاوز الاختبار الصعب.

قال لى: شعرت فجأة بنوع من التحدى لم أشعر به من قبل، الغريب أننى كنت أتحدى الطبيب، لكننى شعرت بعد ثلاثة أيام من الصمت أن أشياء كثيرة كانت تلح علىّ سقطت من اهتمامى، واجهت لأول مرة عيوبى وأخطائى، أدركت أننى لم أكن دائمًا على صواب كما كنت أتصور فى نفسى، تذكرت أشياء جميلة، ولكنها فى الحقيقة كانت قليلة، كأنى كنت أقف أمام عرش السماء يوم الحساب.

اتصل بالطبيب ليحدد موعدًا للخطوة الحاسمة فى العلاج فوجده يهنئه على اجتياز الامتحان، عرف ما حدث من صوته.

- لكنى أريد ما يوفر الشفاء لى.

- ابعث لى بعنوان بيتك، ستجد الشفاء بين يديك.

- ألن ترانى بعد الآن؟

- سآتى مع العلاج، انتظرنا غدًا صباحًا.

ولم ينم الصريطى ليلته منتظرًا مفاجأة العلاج.

فى الوقت المحدد رن جرس ڤيلا الصريطى وما إن فتح الباب حتى وجد الصريطى الطبيب يدخل عليه ومعه كلب من نوع الكورس الشرس.

قال الطبيب:

- هذا هو صديقك الجديد الذى سيعيد إليك نفسك التى سرقها منك الجميع ولم تدافع عنها رُغم أنك شرطى!

- كيف؟

- عليك رعايته وتدريبه لمدة شهر وسنرى النتيجة.

شىء ما شد الصريطى للكلب الذى كان عمره لا يزيد على أسابيع وبحكم عمله السابق فى الشرطة لم يجد صعوبة فى التعامل معه. عرفت ما حدث من الصريطى فذهبت إلى الطبيب مستفسرًا.

- الكلب سيعيد لصديقك الشعور المفقود بالحب، سيعيد إليه التواصُل الذى أصبح عاجزًا عنه، سيعيد إليه إنسانيته التائهة، صاحبك خامة طيبة أفسدها مَن شكلوها على هواهم لتنفيذ أغراضهم، أخذوه لحمًا ورموه عظمًا، ولن ينقذه من الانتحار المتوقع إلا الكلب. ولم أجد ما أقول سوى:

- سننتظر ونرى!