الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى حروب الرحماء "القتلة الأوائل" - لإبراهيم عيسى "6"

كل واقعة لا تخلو من توثيق مكانى وزمانى، جل جملة تختصر مئات من الأقاويل، جميع الخلافات والمؤامرات والتحركات مرصودة بعناية فائقة، ومسرودة بلغة رائقة.. هذا ما توقنه كلما أبحرت فى رائعة المفكر الكبير إبراهيم عيسى «حروب الرحماء»؛ الجزء الثانى من سلسلة «القتلة الأوائل»، لترى وتسمع ما دار هنا وهناك، من المدينة حتى البصرة إلى الشام وصولًا لمصر، وترسم فى ذهنك أبعاد دولة الإسلام فى عهد أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب، وتعرف كيف سعى المعارضون والكارهون لتفتيت هذه الدولة؛ لينفرد كل منهم بولاية، ويتفرّق الشمل، ويضيع الجَمْعُ.



 «عودة ابن العاص»

يصف إبراهيم عيسى ما دار بين معاوية وابن العاص فى الشام، ساردًا: «لم يكن قد مَرّ من الزمن كثيرٌ حتى تتغير معالمه أمام عينَىّ عمرو بن العاص، النور الخافت، والسقف المنخفض، والأرض العارية إلا من رملها اللزج فى ذلك المكان الخانق على اتساعه، مُهمَلًا ووسخًا وينضح برائحة روث تشى أنه مَقَرٌ قديم لخيول معاوية. هذا إذن مَخبأ ومستقر محمد بن أبى حذيفة منذ اختطفوه وجاءوا به إلى دمشق، لم يكن ما فيه سجنًا بأقبية وسلاسل؛ لكنه كان مَعزلًا أراده معاوية لابن أبى حذيفة فيمنعه عن الناس، ويحجز عنه صخب الاحتجاجات المصطنعة فى شوارع دمشقه ضد قتل عثمان. ابن أبى حذيفة لم يَقتل خليفتهم، حين كان هناك يتمرد عليه فى الفسطاط، لكنه صانع قاتليه.

حدّق عمرو بن العاص فيه وهو ملموم العظام تحت لحمه، أشعث الشعر، عارٍ من طوق صدره حتى مطلع بطنه، كان هو نفسه الشاب الغر الذى أشعل فتيله فى المدينة حين سقاه سم كراهية عثمان، وشحنه به إلى الفسطاط، إعجابه بنفسه لم يكن يتحمل الانحباس فى قفص صدره، قالها لهذا الإعرابى الذى صادفه فى رحلته للشام، بينما تشاغل عنه عبدالله بالصلاة، أراد أن يخرج بها من حنجرته فيرى كلماته أمامه، وينصت لها بلهجة صوته: والله لقد حرضت على عثمان حصى الأرض وإبل الصحراء وما كنت لأضرب إلا لأن أصيب، وما كنت لأصيب إلا لأن أقتل.

لكنه لم يتوقع قَط هذا النجاح الهائل من هذا الغض فى الفسطاط. كيف لف على رقبة عثمان من مبعدة بحر ونهر؟ حتى محمد بن أبى بكر الصديق ما كان له أن يفعل شيئًا إلا بهذا الحذيفى؛ ربيب عثمان الذى انقلب عليه، يتقلب الآن فى سجن معاوية.

أنت ذكى، فلماذا لم تعرف أن عليًّا لن يمنح واحدًا مثلك مصر، ولا حتى صعيدها، ولا خراجها؟.. قال جملته، ثم اقترب أكثر من تلك العينين القلقتين المرهقتين، وأكمل: أوحشتنا والله يا محمد.

قام محمد من جلسته المترقبة، وعرف فيه عمرو بن العاص، لكنه لم يتلق اليد الممدودة، ولا بادله بسمة الفم المفتوح. كان يستدعى كُره ابن العاص لعثمان وهو يصبّه فى أذنيه فى المدينة، فكيف به يدخل عليه الآن وقد عاهد معاوية وعقد عقده؟

رد غيظًا بقدر ما مكنته عافيته: أبِعتَنا دم عثمان ثم ها أنت تشترى دم قتلته بمصر يا ابن النابغة؟!

ارتجَّ عمرو، ليس من خشونة ما سمع؛ بل من معرفة مَن يسمح بما جرى بينه وبين معاوية: أسجين أمْ ضيف تأتيك أخباره؟

كان عمرو بن العاص يعرف أن ابن أبى حذيفة أخ لزوجة معاوية، ولهذا ما أراد لأحد أن يقتله، فيسمع نائحة ثكلى كل ليلة على سريره، لكنه لم يقدر طبعًا على معاندة رجاله وهم يأتون به حتى قدميه معتزين بجلبهم أول قاتل من قتلة عثمان. وضعه معاوية هنا كأنه غاضب عليه برَميه فى وسخ المكان، وأغلق دونه الأبواب، ومنع الحراس من التهامس باسمه وبوجوده، لكن يبدو أن أخته تزوره أو ترسل إليه ما يُشبعه ومَن يؤنسه، فها هى صحون خزفية لا تمت للمكان ولا للسجن بصلة، وتلك قطع مطوية من ثياب نظيفة تحت غطاء، وعند رأسه مصحف ضخم ومخيط لا يمكن أن يكون إلا خاصًا بزوجة أمير الشام أو بالأمير نفسه.

 وهل بالمرّة وصلتك أخبار ما جرى فى الجامع؟

 أى جامع؟

جلس على طرف سرير ابن أبى حذيفة وقرر أن يحكى له بنفسه: جئتك من المسجد توًا؛ حيث اصطحبنى معاوية إلى جموعه، حشدهم فى ممرات المسجد والطرُق المؤدية إليه، وزاحم بعضهم بعضًا داخل الجامع، كانوا يصافحون معاوية ويتلمسونه ويهتاجون جدًا حين يشد على أكفهم ويلوح بقبضته لهم متوعدًا العدو الذى اصطنعه على عينه. لا تستطيع إلا أن تثمّن دهاء زوج أختك، فقد نجح فى أن يجعل من هؤلاء العرب والعربان أعداء لعلىّ دون أن يفكروا فيما وراء غضبهم ولا ما بَعده. ألحَّ عليهم بعيونه ورجاله وخُطبه ومواليه ونسوة دمشق السارحات النائحات فى الأسواق والبيوت أن يوقدوا تنور قلوبهم حقدًا على ذلك الصحابى الذى حرض على قتل خليفتهم، ثم يحمى قتلته ولا يريد أن يسلمه لولى دمه.

كان ابن أبى حذيفة ينصت حانقًا نافثًا حقده ساخنًا، بينما عمرو يواصل: ولكن الأهم حين تناول معاوية قميص عثمان وقبّل كل بقعة دم ناشفة منثورة فيه، وضم أصابع نائلة المبتورة فى قلب القميص، ورفعه بذراعه يهزه ويلوح به ويقسم على الثأر لدم عثمان والقصاص من القتلة.

ضرب عمرو على السرير ببطن كفه: لا أظن أن أحدًا فى دمشق ينام الآن إلا وقميص عثمان ومرأى أنامل زوجته بين عينيه.

سأله ابن أبى حذيفة: وهل أدليتَ بدلوك فى هذه المناحة؟

نهض عمرو من جلسته صائحًا: وهل صحبنى إلا لهذا، وما رُحت فى الحقيقة إلا لهذا أيضًا، فلا بُد للجميع أن يشهد قسَمنا وقِسمَتنا».

 «المبايعة كرهًا»

من الشام، ينتقل إبراهيم عيسى إلى ما دار فى المدينة، عندما وصل موفدًا من البصرة ليتحرى مبايعة الزبير وطلحة لأمير المؤمنين، راويًا: «كان يومها نهارًا ثقيلًا حين وصل كعب بن سرور من البصرة موفدًا من أهلها، وقيل من عثمان بن حنيف وإليها، كى يسأل الصحابة فى المدينة عن صحة زعم الزبير وطلحة أنهما بايعا عليًّا كرهًا، مجبرين بنصل السيوف وسن الرماح. حين عرفت المدينة مجيئه خرجت كأنما الحجيج لمكة.

كان علىّ قد انتهى من إمامة صلاة الجمعة بعد خطبته فيها، ثم انصرف إلى بيته حين جاء خبر كعب، فانثالت الجموع، وتتالت حتى احتشدت حوله بين السوق والجامع. كان كعب لا يزال على جَمَله لم يبل ريقًا ولا ارتاح هدأة، لعله قضم طعامه فى الطريق القريب، أو نال راحة فى واحة دانية، حتى لا يترك وقتًا بين حضوره للمدينة وسؤال أهلها. وقف عند سطح بيت طالته إبله، وخطب بعلو الصوت: يا أهل المدينة، إنى رسول أهل البصرة إليكم، يتحققون منكم ويسألونكم الحق وحده، هل أُكره هؤلاء القوم ممن قدموا إلى عثمان من المصريين، أو أكرهتم أنتم هذين الرجلين؛ الزبير وطلحة، على بيعة علىّ، أمْ أتياها طائعين؟

هذه اللحظة التى لم يطق فيها ابن ملجم صبرًا، فكاد أن يصيح وسط الزحام بما صاح به بَعدها إلى عبيد: أيأتى مندوب معاوية فيهين الخليفة بقرطاس فارغ، ثم ترسل البصرة مَن يستوثق من بيعته، ودون أن يستأذن من الخليفة، ولا أن يسلم عليه، ولا أن يزوره يمشى سائلًا فى الأسواق، إلامَ يسكت الخليفة على هؤلاء وهم ينخرون عصاه؟!

لم يُجب أحد على كعب، ورانت همهمة صمت، ولا شىء يعلو ليصل آذان الناس إلا شهيقهم وزفيرهم، لكن الصمت تكسّر بنبرة يعرفها أهل المدينة، وبجسم يصعد فوق حُجر سقيفة وهو يرتفع برأسه وصوته، إنه أسامة بن زيد كما تبينه الجميع يقول صارخًا: اللهم إنهما لم يبايعا إلا وهما كارهان.

لم يكد يكمل جملته حتى قفز فوقه رجُل أسخطته قولته، ونزل به إلى الأرض، وقد وثب آخر فوق أسامة فكاد أن يتهشم عظمه، والناس تتكاثر فوقه وهو يئن ويصرخ مكتوم النّفَس، فاندفع صهيب بن سنان وأبو أيوب بن زيد ومعهما محمد بن مسلمة؛ حيث بدا رعبهم من أن يَقتل الغضبى أسامة.

كان محمد بن مسلمة يمسك سيفًا فى قبضته، وهو يفض الناس عن أسامة الراقد تحت رُكبهم، وهو يصرخ فيهم: اللهم نعم، فانفرجوا عن الرجُل.

أهو صوت ابن مسلمة الرادع، أمْ ظل سيفه ما جعلهم يتفككون من فوق أسامة بن زيد؟ حيث مد صهيب ذراعيه منحنيًا وسط الحلقة المتجمعة فأخرج أسامة من بينهم مسحوبًا على ظهره، ثم سانده وأوقفه واندفع به إلى باب منزله الملاصق وهو يهمس فى أذنه ويربت على كتفه ويلملم عباءته ويمسح الدم عن وجهه: لماذا لم تسكت كما سكتنا؟

رد أسامة ويكاد يتهاوَى من الإعياء: لا والله ما كنت أعرف أن الأمر سيصل إلى ما وصل إليه من ضرب واعتداء وإهانة.

حين انسحب محمد بن مسلمة من الزحام ليلحق بأسامة بن زيد فى دار صهيب، رأى عبيد الليثى صحابيًّا آخر يتشبث بذراعه، لقد كان حسان بن ثابت يلحق بهم فى تلك الدار التى تكاثرت حولها الوجوه، لكن عبيدًا نظر إلى ابن ملجم والمفاجأة تضرب صدرَيهما وسأله: أترى السيف فى يد ابن مسلمة؟

أجاب ابن ملجم تائهًا: نعم.

شخص فيه عبيد وقال: أرأيته كما رأيته أنا؟ إنه سيف من خشب».

«طبول الحرب»

يروى إبراهيم عيسى المشهد فى المدينة كاملًا، بعد وصول موفد البصرة، وعلم أهلها بما يدور فى أرجاء دولة الإسلام، ساردًا: «كان عبيد يجرى الآن وسط المعسكر ليبحث عن ابن ملجم، فقد فقدَه عند الصخرة التى جلس يتلو عندها القرآن الكريم، وكان يحث مَن يلاقيه بالتفتيش عنه. حين عثر عليه أخذه من يده واندفع به إلى خيمة عمرو بن الحمق. كان الخبر قد وصلهم بأن محمد بن أبى حذيفة قد قُتل وهو فى طريقه إلى المدينة من مصر، لكن الآن فاجأتهم أخبار جديدة جاءتهم من جماعة من الكوفة، أن ابن أبى حذيفة سجين معاوية، لكن ابن الحمق حين دخلا أضاف لهما الخبر اليقين: بل إن عمرو بن العاص قد انضم إلى معاوية فى الشام، وكتب له مصر إن فاز على أمير المؤمنين معه.

نقمة ابن ملجم بلغت منتهاها، فأطلقت حنجرته: أهذا غازى مصر يريد أن يغزو عليًّا، وهؤلاء الذين تركناهم فى المدينة صحابة رسول الله يخذلون عليًّا، وهذان صاحبا رسول الله ومعهما زوجته يحاربون عليًّا، أعلىٌّ ما أعلم ونعلم، أمْ أن هؤلاء الصحابة قد بُدلوا وليسوا هم؟

عرف عبيد الليثى عذاب ابن ملجم بانقسامهم فى المدينة، حين وقف علىّ بن أبى طالب بين ظهرانى الناس ظهرًا، وقد تلكع الجمع، وتلكأ الناس فى الانضمام إليه، حيَّرهم اختلاف الصحابة عنه، وأقلقهم خبر حيازة عائشة للبصرة وارتكاز معاوية فى الشام، كانوا يسألون عن كيف يجمع علىّ المال للخروج، وقد فرغت خزائن اليمَن باختلاس ولاة عثمان وهروبهم بما سطوا عليه، كما أن بيت مال المدينة خرب خاوٍ منذ مقتل عثمان، والشام بمالها الجرار تحت يد الأمويين، أمّا مصر فلم يصل من قيس، وقد وصلها توَّا، شىء، بينما أموال البصرة باتت فى خزينة الزبير وطلحة، والكوفة بعيدة لم يصلوا إليها بعد ولا حازوها، وعلىّ بن أبى طالب فقير، لا هو ثرى كابن عوف، ولا غنى كالزبير، ولا عقاراته وحدائقه وتجارته كطلحة، ولا مكتنز كبنى أمية، فمن أين ينفق على جيش؟.