الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

الحاضر بفكره رغم غياب جسده حوار مع نجيب محفوظ!

محفوظ.. نجيب الحارة المصرية



سيظل أدب نجيب محفوظ محفورًا فى الذاكرة الإنسانية، مؤثرًا فى نفوس ملايين البشر من قرائه حول العالم.

أبدع محفوظ فى استخدام أدواته الأدبية فى فن الرواية مستخدمًا مزيجًا بين الحقيقة والخيال والرموز ذات الإيحاءات الفلسفية العميقة والحكم والأقوال الصريحة.

هو نجيب عصره بما تمتع به من نظرة ثاقبة وإبداع لغوى مدهش وفلسفة خاصة فى رسم ملامح شخصيات رواياته التى باتت كل رواية منها بمثابة الأيقونة التى تزين جدار التراث الأدبى العالمى.

امتلك محفوظ قدرة فذة فى اختزال الكثير من المعانى والكلمات فى عبارة واحدة، واستطاع أن ينقل إلى القارئ كل ما يريد أن يقوله حتى المسكوت عنه بسلاسة منقطعة النظير.

وربما يكون من أبرز أسرار وأسباب نجاح نجيب محفوظ أنه حول موهبته فى الكتابة الأدبية إلى مهنة بمعنى الكلمة من خلال التزام تام بشكل يومى لممارسة الكتابة وفق نظام ومواعيد صارمة حتى فى أحلك حالاته الصحية وإصابته بضمور فى شبكية العين.

 

كان هنا، كلما تعمّقت فى سطوره زادت سطوته على أفكاري، يكتب سهلًا ممتنعًا، يصل العقول ويؤثر القلوب بلا استئذان، بكلمات بسيطة لكنها تحمل جبالًا من المعاني، وتشبيهات جمالية بديعة قادرة على كشف قبح الحياة ومفاتنها، ونظرة فلسفية عميقة تدفعك لتأمُّل كل شيء حولك، لتصمت قليلًا ثم ترفع صوتك، قائلًا: «هذا الرجل على حق»!

 

«رحلتى مع محفوظ»

بدأت رحلتى مع أعمال نجيب محفوظ قبل عقدين من الزمن، برواية «ميرامار»، أنهى عملًا لأبدأ آخر، مفتونًا بلغته الرشيقة، وبلاغته العميقة، وقدرته المدهشة على تحويل الحارة الصغيرة إلى عالم كامل، يجمع الخير والشر، الفسق والبر، القسوة والحنان.. وسرعان ما اتسعت الرحلة لتشمل قائمة طويلة من الأعمال، منها «زقاق المدق، ثلاثية القاهرة، ملحمة الحرافيش، الطريق، السمان والخريف، اللص والكلاب، ثرثرة فوق النيل، ليالى ألف ليلة، حديث الصباح والمساء، الباقى من الزمن ساعة،  السراب، أفراح القبة، الكرنك».

كنت أضرب كفًا على كف، متعجبًا من القدرة الأدبية العبقرية لهذا القلم، الذى يمتلك المقدرة على اختزال بحر من المعانى  وآلاف من  الكلمات فى جملة واحدة، كأنه يمسك بزمام الأمور كاملة، ويسيطر على عقلك قدر سيطرته على قلمه، ينقل لك ما يريد قوله وما يريد السكوت عنه، لذلك لم يكن غريبًا أن يصبح هذا القلم سببًا فى أن يصل صاحبه للعالمية، ويكون العربى الأول الذى يحصل على جائزة نوبل فى الأدب، والأديب الأشهر فى الشرق الأوسط على الإطلاق، وصاحب أكبر كم من الأعمال الأدبية التى يتم تحويلها إلى أعمال سينمائية وتليفزيونية، والأكثر تأثيرًا على أجيال متعاقبة من القرّاء، الذين وجدوا ضالتهم بين أعماله، حكمًة واستمتاعًا.

تعمقت أكثر فى حياته، لأتعجب أكثر، فلا تكاد تفصيلة واحدة تخلو من النظام والالتزام الصارم.. الكتابة لها موعد محدد؛ ثلاث ساعات يوميًا، زادت إلى ست بعد خروجه إلى المعاش، لتتحول موهبته إلى مهنة بدوام كامل، ويقضى يومه إما كاتبًا أو قارئًا، متحديًا المرض الذى كان يحاصر عينيه، بداية من الحساسية وحتى الضمور فى شبكية العين، لكنه وسط كل هذا لم ينس رياضته المفضلة؛ المشي، فكان يسير لأكثر من ساعة يوميًا، متخذًا من كورنيش النيل طريقًا له، ليصل من بيته فى العجوزة إلى ميدان التحرير.

 «التفاحة المحرمة»

فى مايو الماضي، شرفت بتقديم قراءة لتفاحة أدب نجيب محفوظ المحرمة «أولاد حارتنا»؛ على صفحات مجلة «روزاليوسف»، الرواية الأشهر والأكثر جدلًا بين أعمال أديب نوبل، والتى حصلت أخيرًا على حقها نشرًا وانتشارًا، بعيدًا عن الأحكام المتشددة والفتاوى المضللة، بعد أن ظلت تدور فى سلسال المنع والحجب لسنوات طويلة، حتى أفرج عنها فى الألفية الجديدة، لتصبح أيقونة إبداعية يتلهف القراء على اقتنائها، وتضحى مثالًا صارخًا للجرأة الأدبية؛ عند الحديث عن متلازمة الدين والإبداع.

بدأت القراءة بعين جديدة، تختلف عن تلك التى قرأت بها الرواية للمرة الأولى، كنت أبحث بين السطور على أسباب ذلك الجدل الثائر حولها، الذى وصل إلى حد اتهام «محفوظ» بالكفر والزندقة، وكان سببًا فى إصدار المتشددين فتاوى باغتياله، لأجد أن شخصية «الجبلاوي» كانت مجرد ذريعة غاشمة؛ كان يجب على المضللين العثور عليها بين صفحات رواياته، حتى ينقلبوا على الرجل صاحب الإبداع المنفرد والمتفرد، ويهدروا دمه!

«حوار فكري»

قرأت وبحثت، واستحضرت أحاديث «محفوظ» حول «أولاد حارتنا»، وأجريت معه حوارًا فكريًا، بخلفية كبيرة من المعلومات عن شخصه  وشخصيته  وفكره، واقتربت أيضًا من «الجبلاوي» الذى رآه المتشددون؛ مع سبق الإصرار والترصد، رمزًا لله تعالى، حتى يصبّوا غضبهم ومعه أحكامهم على الكاتب بلا بحث أو تدقيق.. وسرعان ما تحولت الرواية إلى فتيل لمعارك ثقافية وسياسية واجتماعية، تتخذ كل فترة شكلًا جديدًا، وشملت ساسة، ورجال الدين، وقتلة، وبلغت المعارك ذروتها بمحاولة اغتيال «محفوظ» على يد شاب لم يقرأ حرفًا من الرواية، ولم يستوعب فتاوى شيوخه المحرضة للقتل.

براءة «محفوظ» من كل هذا الجدل، كانت واضحة، ومفهومة بين قرائه وحتى نقاده، لكن هذا لم يمنعه من التأكيد على ما قصده من وراء «أولاد حارتنا»، ليقول: إن كتاباتى كلها، القديم منها والجديد، تتمسك بمحورين أساسيين؛ هما الإسلام الذى هو منبع قيم الخير فى أمتنا، والعلم الذى هو أداة التقدم والنهضة فى حاضرنا ومستقبلنا، وحتى رواية «أولاد حارتنا» التى أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية، ولقد كان المغزى الكبير الذى توجب به أحداثها.. أن الناس حين تخلوا عن الدين ممثلًا فى «الجبلاوي»، وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده ممثلا فى «عرفة» أن يديروا حياتهم على أرضهم «التى هى حارتنا»، اكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحول إلى أداة شر، وأنه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حريتهم، فعادوا من جديد يبحثون عن «الجبلاوي».

أما المشكلة الحقيقية التى تكمن وراء ذلك الجدل، فهى كما شرحها «محفوظ»: مشكلة «أولاد حارتنا» منذ البداية أننى كتبتها «رواية» وقرأها بعض الناس «كتابًا»، والرواية تركيب أدبى فيه الحقيقة وفيه الرمز، وفيه الواقع وفيه الخيال، ولا بأس بهذا أبدًا، ولا يجوز أن تحاكم الرواية إلى حقائق التاريخ التى يؤمن الكاتب بها، لأن كاتبها باختيار هذه الصيغة الأدبية لم يلزم نفسه بهذا أصلًا؛ وهو يعبر عن رأيه فى رواية.

 «الإبداع لا يموت»

انتهى هذا الحوار الفكرى حول «أولاد حارتنا»، لكن لم ينته تأثير كتابات وقناعات الرجل فى نفسي، مثلما استمر فى نفوس ملايين من قرائه حول العالم، والذين يبحثون بين سطوره عن الحكمة، والنظرة الفلسفية الثاقبة، والإبداع اللغوى المدهش، والسرد المحكم الشيق.. فرغم مرور 15 عامًا على رحيل أديب نوبل؛ فإن كلماته يتضاعف تأثيرها يومًا بعد يوم، فأعماله لا تزال الأكثر مبيعًا فى المكتبات والمعارض الدولية، لتكون دليلًا على أن الإبداع لا يموت أبدًا.

رحم الله نجيب محفوظ.. بقدر ما أثر فى نفوسنا، ورفع راية وطنه عاليًا.