الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قديسات مصريات علمن العالم.. بـ«جرة» و«مشط» صعيدية تعلم أوروبا النظافة الشخصية فيرينا فى قلب سويسرا

تاريخنا العظيم ملىء بأيقونات مضيئة كثيرة، لا تضىء لنا فقط؛ بل تضىء العالم كله.



لسنا فقط الحضارة الفرعونية، ويخطئ من يختزل المنارة المصرية فى العصر الفرعونى فقط، فتاريخنا بكل الحقبات ملىء بنماذج علّمت العالمَ كله وكانت يومًا منارة يَعترف بها الجميع. ومَن يقرأ التاريخ يجد أدوارًا عظيمة للسيدة المصرية بداية من حتشبسوت ونفرتارى وكليوباترا وصولًا لنبوية موسى وفريال أشرف وما بينهما لآلئ تضىء تُكتب أسماؤهن بحروف من نور فى تاريخنا.

 

مع انتشار المسيحية ظهرت أسماء لقديسات مصريات كن مثالًا يُحتذَى به ونموذجًا لسيدات مصريات استطعن أن يؤكدن على طبيعة السيدة المصرية الصلبة التى لا يقهرها أى شىء؛ بل تكون دائمًا السَّنَد والوتد والبوصلة سواء لأسرتها أو لمجتمعها أو للعالم كله.

وفى هذه السلسلة سنعرض نماذج لقديسات مصريات اعترف بهن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية كان لهن أثرٌ كبيرٌ ليس فى الكنيسة فحسب؛ بل أدّين أدوارهن المجتمعية فكانت أسماؤهن تتردد داخل وخارج مصر.

وكانت بدايتنا مع القديسة «فيرينا»، التى تحتفل بها أوروبا فى بداية سبتمبر من كل عام، وتجد لها كنيسة فى مدينة «تمبورتاخ» بسويسرا،  وتجد عند منتصف الجسر المقام على نهر الراين بين سويسرا وألمانيا تمثالاً لها وهى تحمل بإحدى يديها إبريقًا به ماءٌ وفى الأخرى «مشط فلّايَة»، تستخدمه المصريات منذ العصر الفرعونى. وذلك تخليدًا للدور الذى قامت به هذه المصرية فى العناية بالمرضى فى هذه المناطق، وفى تعليم أهلها النظافة الشخصية، منذ أكثر من خمسة عَشَر قرنًا.

واليوم يبلغ عدد الكنائس التى تحمل اسم القديسة «فيرينا» فى سويسرا وحدها 70 كنيسة، وفى ألمانيا 30 كنيسة، وتحتفل سويسرا بمناسبة رحيلها فى أول سبتمبر من كل عام.

أمّا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فتحتفل بتذكار رحيلها فى منتصف سبتمبر (4 توت حسب التقويم القبطى).

 مَن هى «فيرينا»؟

نشأت «فيرينا»، التى تعنى ثمرة طيبة فى أسرة قبطية بالقرب من طيبة (الأقصر) تحديدًا مدينة كركوز بمركز قوص محافظة قنا.

فى القرن الرابع الميلادى، كوّن الإمبراطور الرومانى «دقلديانوس» الكتيبة المصرية أو ما تعرف بـ «الكتيبة الطيبية»، نسبة إلى مدينة طيبة، وكان قوامها 6600 مقاتل من أبناء طيبة (الأقصر حاليًا)، وهى كتيبة قتالية من المصريين، كانت جزءًا من الجيش الرومانى الكبير، هذه الكتيبة كانت من أفضل الكتائب فى الجيش الرومانى، وكان قائدها يدعى «موريس» ويشاع أنه ذو قرابة للقديسة «فيرينا».

وبأوامر من الإمبراطور «دقلديانوس» سافرت «الكتيبة الطيبية» إلى أوروبا لمساعدة الجيش الرومانى فى إخضاع تمرُّد بأرض قبائل الغال (فرنسا حاليًا). وسافر مع «الكتيبة» إلى ميدان الحرب فرقة من «العذارَى المصريات» بغرض رعاية شئون المقاتلين من مَأكل ومَلبس وتطبيب ومعالجة الجرحَى. وكانت «فيرينا» من ضمن العذارَى المصريات التى سافرت مع الكتيبة إلى غرب أوروبا لمساعدة الإمبراطور «مكسيميان» لإخماد ثورة شعبية بجنوب شرق فرنسا.

وفى بداية المشوار قدَّم الإمبراطور «مكسيميان» الكتيبة الطيبية إلى مذبح الأوثان لكى يبخروا إلى الأصنام وتسمر القديس موريس فى مكانة فظنه الإمبراطور لم يفهم فطلب من معاونيه أن يشرحوا له ولكن موريس أوضح لهم أنه وجنوده مسيحيون وأنهم لن يبخروا لآلهتهم الوثنية، فأمر الإمبراطور أن ينحو القديس موريس جانبًا ويأمروا بقية الكتيبة بالتبخير للأوثان، ولكن لم يقبل أحد منهم التبخير للأوثان، فغضب المَلك وأمر بأن تقف الكتيبة صفوفًا ويمر الجلاد بينهم، وبعد كل 9 جنود يجلد العاشر، ثم تقطع رأسه، ولكن الباقين ازدادوا إصرارًا على إيمانهم، وظل الملك يكرّر الأمر حتى اضطر أن يقتلهم جميعًا فى النهاية؛ لأنه لا يوجد من بينهم قبطى واحد رجع عن إيمانه وأمر الإمبراطور بقطع رؤوسهم جميعًا.

 «فيرينا» فى جبال الألب

بعد استشهاد أفراد الكتيبة الطيبية الـ 6600 لم ترجع «فيرينا» إلى مصر، ورُغْمََ أنها شاهدت المذبحة التى وقعت لأهلها؛ فإنها هربت وبقيت فى أرض الغربة وذهبت إلى سولوتورن بسويسرا واتجهت إلى جبال الألب السويسرية واعتكفت فى كهف ضيق بشمال سويسرا «الحدود بين ألمانيا وسويسرا» مع مجموعة من العذارَى اللائى قدمن معها من مصر، وكانت «فيرينا» تجيد حياكة الملابس وتطريزها فساعدتها امرأة عجوز كانت تسكن بجوار كهفها على بيع عمل يديها وشراء الطعام ولوازم الحياة لها ولكل العذارَى معها، وبدأ الأهالى يتعرفون عليها تدريجيًا وبدأت فيرينا تتعلم لغتهم حتى أجادتها أجادة تامة.

 التمريض والنظافة الشخصية

وكانت «فيرينا» تخدم سكان المنطقة من خلال معرفتها بالتمريض ودرايتها بفوائد بعض الأعشاب واستخدامها كعقاقير لأمراض كثيرة وعلمتهم النظافة الجسدية بالاغتسال بالماء مصحوبة بصلاة حارّة من أجل شفاء جميع الأمراض. فسكنت أحد الكهوف، وأخذت تُعلم أهل بلاد الغال قواعد النظافة الشخصية والعلاج بالأعشاب الطبية. كما أنها كانت على معرفة واسعة بأصول الطب القديم الموروث من أيام الفراعنة، وهو ما أعانها على مساعدة المرضى.

وتقول عنها الكنيسة المصرية: «لقد قابلت الإساءة بالمَحبة، والدم بالتضحية، فمنحها الله لمسة شافية، وكانت سببًا فى بدء التبشير بالميسيحية بين أهالى المنطقة. لقد انتصر الحب على السيف، ودم الشهداء على صلف الملوك، وما فشلت فيه سيوف القيصر نجحت فيه جرة «فيرينا» ومشطها».

 وقد توافد عليها بعض القريبين من الكهف الذى تعيش فيه وكانت القبائل التى تعيش فى هذه المنطقة لاتزال تعبد الأصنام وتشيد تماثيل متعددة للآلهة ولكنهم بعد أن رأوا «فيرينا» وإيمانها بدأوا يتطلعون إلى معرفة إلهها فعملت هى والعذارَى على نشر تعاليم إيمانها المسيحى فى تلك المنطقة.

 وعلم أحد الحكام بعمل وإيمان «فيرينا» وتأثيرها على من حولها فغضب جدًا على عذراء الرَّب فاستدعاها وتوعدها ثم أودعها السجن عدة أيام إلا أنه أطلق سراحها وخرجت «فيرينا» من السجن ورجعت إلى مكانها فى الكهف مع زميلاتها.

ى

 وتوفيت القديسة «فيرينا» فى 1 سبتمبر سنة ٣٤٤م، عن عُمْر يناهز ٦٤ عامًا، ويُعَد هذا اليوم عطلة رسمية تحتفل فيه المؤسَّسات الرسمية وأفراد الشعب السويسرى بإقامة المَعارض والحفلات الموسيقية وزيارة الأماكن التاريخية التى ترتبط بالقديسة المصرية. وتحتفل الكنيسة القبطية بعيد نياحتها يوم 4 توت من كل عام.

ومن المعروف أن «فيرينا» استقرت فى سولوثورن Solothurn فى سويسرا حاليًا، وسكنت فى كهف يقال أنه لا يزال موجودًا حتى الآن.

 وكانت تخرج من هذا الكهف إلى القرى المحيطة لتقدم أعمال الرحمة والمحبة للفلاحين والفقراء، ويقال أنها قضت بقية حياتها فى مغارة بُنِيت لها فى زُرزاخ، وكان لقداستها أبعد الأثر فى النفوس فلما توفيت بنى أهالى زُرزاخ كنيسة فوق قبرها؛ حيث رُسِم على قبرها صورة لها وهى تحمل مشطًا وإبريقَ ماء للدلالة على عملها. ولكن قد تهدّمت الكنيسة مع البلدة كلها حين اجتاحتها القبائل الجرمانية، وفى القرن التاسع شُيد دير للبنديكتين مكانها.

ولا تزال القديسة «فيرينا» تنال كل الاحترام والتقدير فى جميع أنحاء سويسرا.

وإلى الآن تُرسم أيقونة القديسة «فيرينا» وهى تحمل مشطًا وجرةَ ماء فى يديها وهذا للدلالة على طبيعة خدمتها والعمل الذى كانت تقوم به، وقد بنيت فوق جسدها كنيسة فى مدينة تمبورتاخ بسويسرا، وعند منتصف الجسر المقام على نهر الراين بين سويسرا وألمانيا يوجد لها تمثال وهى تحمل جرةً بها ماء.

رجوعها لمصر

فى عام 1986 أحضر وفدٌ من كنيسة القديسة «فيرينا» بزيورخ بسويسرا جزءًا من رفات القديسة «فيرينا» لمصر، وفى 22 فبراير 1994 قام البابا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الـ 117 بتدشين كنيسة القديس موريس والقديسة «فيرينا» بمبنى أسقفية الخدمات بالأنبا رويس، وفى 1 سبتمبر 2012 قام وفد من الكنيسة المصرية بإحضار جزء من رفات القديسة «فيرينا» من سويسرا.

 أمُّ الراهبات

وإلى الآن كثير من المصريين لا يعرفون هذه السيدة التى دُفنت فى أوروبا فى القرن الرابع الميلادى ويَعتبرها كثير من المؤرخين أمّ الراهبات فى أوروبا، والتى وترسم أيقوناتها دائمًا بشكل فريد، ففى إحدى يديها جرة ماء وفى الثانية مشط؛ لأنها هى التى علمت شعوب الجرمان والغاليين أصول النظافة الشخصية والتداوى بالأعشاب، ونجحت بالحب والتفانى فيما فشلت فيه سيوف الرومان بأن تجتذب الشعوب الجرمانية الوثنية القاسية إلى الحضارة والإيمان بالله.

 الكتيبة الطيبية

وإلى الآن لا تنفصل ذكرى «فيرينا» عن الكتيبة الطيبية ولذلك نجد أن سويسرا خلدت هؤلاء الشهداء من أبطال «الكتيبة الطيبية» بإقامة كنيسة فى زيورخ باسم «سان موريس»، قائد الكتيبة، وتخليدًا لذكراهم غيَّرَ سكان الوادى اسم مدينة «أجونام» وأطلقوا عليها اسم قائد الكتيبة المصرى فصار اسمها حتى اليوم «سان موريس» فى مقاطعة فاليه بسويسرا، وأقيمت بها فى منتصف القرن الرابع كنيسة، واختارت مقاطعة زيورخ شعارها وختمها ثلاث صور من أبطال «الكتيبة الطيبية»، وهم يحملون رؤوسهم تحت أذرعهم. كما أن الخاتم الرسمى لبعض المقاطعات السويسرية نُقش عليه رسم ثلاثة من هؤلاء.