الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى حروب الرحماء "القتلة الأوائل" - لإبراهيم عيسى "3"

من الحجاز إلى الفسطاط إلى البصرة، يصول ويجول إبراهيم عيسى فى رائعته «حروب الرحماء»؛ الجزء الثانى من سلسلة «القتلة الأوائل»، ليكشف المسكوت عنه فى التاريخ الإسلامى، ويزيح الستار عن الأيام الفاصلة التى أعقبت مبايعة علي بن أبى طالب أميرًا للمؤمنين، وتحركات الذين هبوا للثأر من قتلة عثمان، ناقلًا صورة كاملة عما دار فى البصرة، والخلافات التى دبت هنا وهناك حول هذا الثأر، لنشعر أننا نرى ونسمع عن كثب، مستخدمًا آليات بديعة فى السرد، مزينة بالتشبيهات الجمالية التى تضفى على متعة قراءة التاريخ؛ الكثير من الاستمتاع اللغوى.



 

«ابن أبى حذيفة وحيدًا»

يصف إبراهيم عيسى الساعات الأخيرة التى قضاها محمد بن أبى حذيفة على أرض مصر، بعدما علم بتعيين أمير المؤمنين لولى جديد عليها، ساردًا: «لعل الشفق فى تلك السماء الذى تأمله يوم الهجوم على قصر الجن، هو ذات الشفق الذى يشهد عليه الآن وهو يصل القلزم مع عشرة من الرجال استأجرهم ليمضوا معه إلى المدينة. لن يستطيع محمد بن أبى حذيفة صبرًا على أن يكون فسلًا هملًا تحت يد قيس بن سعد الذى حين وصله خبر دخوله حدود مصر، استنفر كل ما فيه من عزيمة واستأجر رجالًا وخيلًا وإبلًا، وجمع ماله، وجعل قافلته ترحل خفية عن عيون الشماتة.

كان قد كتب رسالة إلى محمد بن أبى بكر فى المدينة يخبره بقدومه، وبأنه لم يكن ليرضى أحدًا لولاية مصر غير كلينا، فقد طهرناها معًا، فجاء ليحصد ثمرها ابن سعد بن عبادة، فإنى قادم إليك عسى أن يرى أمير المؤمنين منا ما يسر قلبه، ويأجرنا بفضل خدمة دين الله فى أى من ولايات المسلمين، وبعثها مع رجل بريد مؤتمن ليصل قبله. وقفوا عند جبل يحتمون به من الريح بغبارها وترابها، ويتغطون به من العيون المعسعسة. جلسوا للراحة بعد سعى حثيث لقطع الطريق فى أسرع وقت إلى حدود مصر والابتعاد عن الفسطاط. أنهك القافلة ودوابها ورجالها، فنصبوا خيمتين فى نتوء من الجبل، لكن أحد الرجال نصح ابن أبى حذيفة بالمغارة التى تعلوهم فى قلب الجبل فهى أبعد وأعلى وأعتم. صعد الطريق إليها مع المشاعل التى أضاءت ممرات وعرة وملتوية وضيقة، واستحسن ابن أبى حذيفة دفء المغارة. صعد معه رجلان بفرش وغطاء ومشعل نار، فدخل ووضع ظهره على الفراش وقد خلع نعليه وأسند سيفه عند زاوية صخرة بارزة من هذه المغارة. رأى من تحت جفنيه الحارسين ينتصبان عند الممر المؤدى إلى فتحة المغارة، فغطس فى نوم أخلى الأفكار المتزاحمة من رأسه سريعًا، وبعد ساعات صحا ظانًّا أن موعد صلاة الصبح قد أزف، ففتح عينيه فرأى نار المشعل تذوى بينما سمع هسيس أصوات تتعثر فى زوبعة ريح.

 

قام وقد تيمم ودرس مكان القِبلة ثم رفع كفيه للصلاة ثم أنهى صلاته وأخذ يُتمتم مُسلمًا منها. وتسمّع وقع أقدام قريبة تطرق الأرض الصخرية الصلدة، فجرى ناحية فتحة المغارة فلم يرَ حارسَيه، فخرج إلى الجبل فأخذه الهواء اللافح بالبرد، وأحس وحشة وحشية حين لم يصادف فى ضوء الفجر المتمهل خيام رجاله. وجد نفسه وحيدًا فى الجبل كأنه مبلوغ داخله، فعاد بسرعة ملتاعًا ومرتبكًا إلى المغارة، ولبس نعليه وأمسك بسيفه واندفع خارجًا يهبط صخور الجبل.

بحث عن حصانه فلم يجده، فجرى يمينًا ويسارًا يبحث عنه، وقد صفعته المفاجأة، ودارت فى رأسه عاصفة من الأسئلة، وقبل أن يبحث عن جواب أول الأسئلة سمع صهيل حصانه، إنه هو ولا شك، فمَن هذا العربى الذى لا يعرف صهيل حصانه؟! انطلق صوب الصوت بعدما قاس اتجاه الريح، وأدرك من أين يأتيه، كان الصبح يزداد حضورًا، والريح تزداد قوة، حينها رأى حصانه قادمًا نحوه لكنه لم يكن وحده، كان يعتليه شخص حاول أن يعرف كنهه، بل ليس واحدًا مَن رأى، إنهم رجال كثيرون فوق خيولهم يقتربون منه ويحيطون بمكانه. وازداد صهيل حصانه علوّا، ودقت سنابك الخيل دماغه كمطارق من حديد، وهى تلف حول مكانه كأنها تلف حول عنقه، لحظتها رفع الرجل الذى يركب حصانه لِثامه وشهر سيفه، فعرف أنه بسر بن أبى أرطأة.

لم يبذل بسر أى جهد فى مداراة كراهيته لابن أبى حذيفة، وفى الشماتة فيه، حتى إنه ضحك بين كلماته، فكانت ضحكته كخناجر تقطع جلد ابن أبى حذيفة: أهلًا بك يا قاتل عثمان، لقد أعد لك معاوية أمرًا يليق بك.

رغم بركان الكمد الذى تفجر فى قلب ابن أبى حذيفة من إحساسه بالهزيمة والخيانة والوحدة والخسارة والخذلان، فقد برق نور فى سقف دماغه حين تذكر ما لم ينسه قط، أنه أخو زوجة معاوية».

«قتلة عثمان»

ومن مصر إلى البصرة، يروى إبراهيم عيسى تفاصيل الاشتباكات التى دارت للثأر من قتلة عثمان بن عفان، ساردًا: «لبث مروان بن الحكم كل هذه الأيام متجنبًا حلقاتهم، يتغطى وراء زحام ووسط حشود، لا يواجه أحدهم إلا خطفًا، ولا يلقى كلمة إلا جريًا، لكنه لم يتوقف لحظة عن لصق عينيه بهم وبما يفعلون، حتى أوشكت لحظته على الحدوث. يقف الآن متأملًا هؤلاء الآلاف من قَتَلة عثمان، يتبارون فيمَن قتله ومَن يأخذ ثأره. فى نظره لا أحد منهم بريء، لكنه الصراع بين مَن استفاد من موته، ومَن لم ينل استفادته، فغضب كل واحد منهم وفيهم لنفسه لا لعثمان.

الزبير يركب فرسه ويتحرك به يمينًا ويسارًا أمام صفوف المئات من رجاله، متلفتًا إلى طلحة الذى ركب ذات مركبه وأخذ يتجول بين فرسانه ومُشاته، وهو يقترب ويقترب من هودج عائشة الذى يتوسط حلقة الصفوف، يرنو مروان من فوق تبة مُطلة على بيوت البصرة البعيدة وحدائقها وأسوارها، وقد أوشك شكه على التحقق من أن معركة ستدور بين أمير البصرة عثمان بن حنيف وبينهم، فقد وصل ابن حنيف بزحام من الراجلين والخيالة ملأوا الأفق، لكن حين اقتربوا ناحية جيش عائشة إذا ببعض من فرادى جيش ابن حنيف يتحركون من أطرافه وحوافه فينضمون إلى جمع عائشة. جلجلت هذه المفاجأة قلوب الجيشين، فعلت صيحات التكبير والتهليل الفخورة من جيش عائشة، وصيحات الاستهجان والاستنكار الغضوبة فى جيش ابن حنيف.

لم يصدق مروان أن هذا الحشد القادم مع ابن حنيف على هذه الدرجة من الهشاشة إلا عندما اكتشف قومًا ينادون أقاربهم الواقفين فى جيش ابن حنيف، فيلبون الندا وينضمون إليهم. تحركت على الناحية الأخرى أقدام وحوافر وأخفاف من جيش عائشة إلى ناحية ابن حنيف، فانحشر بعضهم فى جمعه، وفتح بعضهم شقًا فى دائرته. بعد قليل من الصخب والنداءات والصيحات، همدت الحركة المرتجلة الراجلة والراكبة، وقد انقسموا إلى ميمنة فيها جمهور عائشة وجيشها فى قلبهم، وميسرة تَمَترس فيها عثمان بن حنيف وناسُه. انقسمت البصرة إذن، ولم يُخف مروان فرحه، وتمنى أن لو سبّهم جميعًا الآن، وأخبرهم حقيقة نفسه تجاههم، فقد اجتمعوا لقتل عثمان والتحريض عليه، وبينما لم يتحول عظم قبره إلى رميم كانوا يقفزون فوق بعض شجارًا وحناقًا وربما يصير تقتيلًا بعد لحظات.

حين بدا طلحة متأهبًا للكلام فى الناس أدرك مروان أنه سيسمع ذات الحديث المُمل، من أسئلة تدعى الجهل، وإجابات تزعم البراءة. سيسأل هؤلاء الناس طلحة والزبير عما أخرجهما كأنهم لا يعرفون، وسوف يجيب طلحة والزبير كأنهما يريدان عدلًا وقصاصًا. لماذا لم يسمع خطبة منهما كتلك التى ينتوى طلحة إلقاءها على البصريين ليلوى قلوبهم، هناك أمام قصر عثمان بن عفان، يرد بها كيد نفسه على صاحبه؟ هذا المؤلب العظيم والمنفق السخى على حصار عثمان يمتطى حصانه أمام عينى مروان ليزعم أنه غاضب من قتل عثمان وساع لقتل قتلته.

وسيلحق به الزبير ليتجر ذات الحجج التى لم يطرحها على نفسه قط حين حُوصر عثمان، وتخلى عنه ليجلس فى حديقته الغنّاء ينتظر خبر موته. وها هى زوجة نبينا التى تركت المدينة للغوغاء ينقلون عنها تحريضًا بقتل عثمان موصوفًا بنَعثَل اليهودى ستدعو الناس (يا للعجب وأمام مروان نفسه!) للقصاص من قتلة نَعثَل، أيرونه هؤلاء فعلًا أمامهم؟ هل أحسن التستر إلى درجة أنهم نسوه ونسوا أنه كان هناك مُحاصرًا مع عثمان يعرف قتلته، ويعرف أدوار هؤلاء الذين ينادون بالثأر له الآن، ممن؟ منهم! لا، بل من تلك الوجوه المزدحمة المجهولة التى كانت ما تتجرأ لولا ثلاثتهم؟».

«الثائرون للثأر»

يكمل إبراهيم عيسى تفاصيل المشهد، راويًا: «لكن مروان لا يجد هدأة روحه إلا فى هذا العويل الطالب دم قتلة عثمان. لمَ لا؟ لنقتل قتلة يلحقهم قتلة آخرون. كان طلحة قد بدأ كلامه مكرورًا فى أذن مروان، كان متحمسًا وزاعقًا، وقد وصل إلى جملة أعجبت مروان حتى كاد يصدق صدق نية طلحة، لولا صورة عثمان وهو يطل من نافذة غرفته، وهو مُحاصر فيها، ينادى على طلحة فينكر نفسه عنه، حتى يكتشف عثمان وجوده ويئن صوته كسيرًا بحزنه، أتُخفى نفسك عنى يا طلحة؟ ها هو طلحة يذكرك الآن فى البصرة يا عثمان ويصيح كأنه الحق: أما الطلب بدم الخليفة المظلوم فإنه حد من حدود الله، وإنكم إن فعلتم أصبتم وعاد أمركم إليكم، وإن تركتم لم يقم لكم سلطان ولم يكن لكم نظام.

تدخل الزبير بكلمتين فى ذات الحلقة عن عثمان ودمه والقصاص له والطلب لقاتليه.

انطلق هتاف حار من حنجرة إلى أخرى من جماعة عائشة: صدقًا وبرًا وقالا الحق وأمرا بالحق.

صرخ مَن صرخ فى جماعة ابن حنيف: بل فجَرا وغدَرا وقالا الباطل وأمَرا به، فقد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان. اندفع جمع من هنا يخترق جمعًا هناك، وقذفت حجارة، ورموا حصى، وتهيج الجمع، لكن صوت عائشة بدأ يعلو، وهرجهم بدأ يخفت، فتنصت المنشغلون بالخناق، وأنصت المتفرجون فى الصفوف: كان الناس يتجنون على عثمان ويزورون على عماله، ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، ويرون حَسنًا من كلامنا فى صلاح بينهم، فننظر فى عثمان فنجده بريًا تقيًا وفيًا، ونجدهم فَجَرة كَذَبة يُحاولون غير ما يُظهرون، فلما قووا على المكاثرة كاثروه، فاقتحموا عليه داره، واستحلوا الدم الحرام، والمال الحرام، والبلد الحرام، بلا تِرَة ولا عذر، ألا إن مما ينبغى لا ينبغى لكم غيره أخذ قتلة عثمان.

إن عائشة تدعو إلى تحكيم كتاب الله فيما بينهم، حسنًا يا زوجة نبينا. قالها مروان وهو يرى وجوههم شاخصة للهودج، وتتزاحم الأكتاف، وتشرئب الأعناق، وتصعد أذرع الصبيان فوق أكتاف الآباء ليتسمعوا، وظهرت النسوة فوق الأسطح القريبة، وتماسّت الصفوف التى تحولت إلى مجموعات وحلقات، واختلطت جماعة عائشة مع جماعة ابن حنيف، ولكن صوتًا عاليًا ارتفع، بعدما أدركوا أن عائشة قد أنهت كلامها، فحيّاها وصاح من بين دائرة ابن حنيف: صدقت، صدقت والله، وبرّت، وجاءت والله بالمعروف.

همهم مَن معه، ودفعه من ورائه نفر منهم، ولكزه نفر آخر بجواره، وتعالت وراءه صيحات تؤيده، وتشابكت أخرى لترفضه.

تفرق بعض من أصحاب ابن حنيف من أماكنهم، فكشفوا ثغرات، وأوسعوا فجوات، وفوجئ جيشه بخروجهم فلاحقتهم صيحات لاعنة: كذبتهم والله ما نصدق ما تقول.

أشار عبد الرحمن بن أبى بكر إلى حراس الجمل أن يقوموا به فورًا، لعله أمر من عائشة، أو قرار من عبد الرحمن متوجسًا خطرًا، فقد تداخل الناس، وتشابكوا بالأيدى، وتراجع البعض، وكادوا يسقطون على ظهورهم فتعاجلهم أكف بدفعهم للأمام، ثم اشتد خِصام الكلام وقذع الاتهام، وسلطت الألسنة الحِداد، حتى إن ابن أبى بكر أمسك بخناق أحدهم جرى ناحية الجمل، ونشب يده فى قماش الهودج وهو يصرخ: يا أم المؤمنين، والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح، إنه قد كان لكِ من الله ستر وحرمة، فهتكتِ ستركِ وأبحت حرمتكِ، إنه مَن رأى قتالك فإنه يرى قتلكِ، وإن كنت أتيتنا طائعة فارجعى إلى منزلك، وإن كنتِ أتيتنا مستكرهة فاستعينى بالناس.

قفز على ضهره رجل بصرى، لعله جاره، يجذبه بعيدًا عن الجمل، ويضرب جنبيه ويلكم بطنه، وهو يهتف فيه: خسئت يا ابن قدامة، بل هى الأم الرؤوم، وصاحبكَ الذى فتن الناس.

جرى مروان ليلحق بكوكبة الرجال الذين تبعوا الجمل، ومن خلفهم الجيش يغذ الحركة، فهم مروان أنها خطة من البصريين فى جيش عائشة، حيث يحتلون السهل المنبسط الخالى على يمين جيش ابن حنيف، ويرسلون جندًا آخرين يقفون أمام وبين وفوق بيوت وحدائق نخل تحاصر شمال جيش ابن حنيف، لكن فجأة كانت عشرات الأحصنة تجرى كرأس رمح تجاههم، كانت صيحاتهم البعيدة تقترب حين نطق أحدهم: إنه حكيم بن جبلة قد جاء بقبيلته».

فى الحلقة القادمة.. نواصل الكشف عن أسرار التاريخ الإسلامى، التى يزيح إبراهيم عيسى الستار عنها ببراعة فى روايته الرائعة «حروب الرحماء».