الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى حروب الرحماء "القتلة الأوائل" - لإبراهيم عيسى : أدرك ابن أبى حذيفة أن أمله خاب فى على بن أبى طالب.. وأنها ليلته الأخيرة فى قصر الجن "2"

نهر من الإبداع، يتدفق بين صحفات رواية «حروب الرحماء» الجزء الثانى من سلسلة «القتلة الأوئل»، للكاتب الكبير إبراهيم عيسى، فلا يخلو مشهد من الوصف المتكامل والسرد الغنى والبيان البديع، بجانب الكثير من الأسرار والكواليس، وكأننا نفتح كنزًا لغويًا وتاريخيًا، يلمع كلما استفضنا فيه، لنكتشف المسكوت عنه فى التاريخ الإسلامى، والصراعات والمؤامرات التى اتسعت شرقًا وغربًا، من الحجاز حتى الفسطاط.



 

 «صدمة بن أبى حذيفة»

يواصل إبراهيم عيسى توثيقه للأحداث التى اشتعلت بعد مقتل عثمان بن عفان، ومبايعة على بن أبى طالب أميرًا للمؤمنين، راصدًا كيف انقلب السحر على السحرة، ومصير محمد بن أبى حذيفة الذى جاهد للخلاص من عثمان بن عفان، والمفاجأة المدوية التى فجرها أمير المؤمنين بعد مبايعته فى المسجد النبوى، ساردًا: «لم يطق محمد بن أبى حذيفة قلبه بين جنبيه. ضج فهج من تلك الغرفة الفسيحة التى ضاقت على جنبيه لما غادره ابن عديس وكنانة وانصرفا. كان قد أشاح بوجهه عنهما وأعطاهما خده مستعرًا، فتركاه حتى يهدأ وتصفو روحه من حنقه كما قالا، بينما التفت هو إلى حوائط الغرفة المزينة والمزركشة بالسجاجيد الأخميمية التى تدوس عليها بقدميك على رخام القصر وتربت عليها بعينيك كلما نظرت إلى جدرانه. كان يظن أنها لانت واستكانت وصار صاحب قصر الجن الذى حرم منه عبد الله بن سعد المطرود المطارد. لكنه وهو يصعد سلالم إلى سطح القصر المبنى بعمارة تشبه تلك الأعمدة التى يقول عنها القبط مسلات الفراعين، أدرك أن أمله خاب فى على بن أبى طالب.

عندما وقف على السطح، وقد أمر حارسين بالانصراف، شق الحزن صدره، وهو يطل على فسطاط تزينت له واستكانت، وبدت مصر بعربها وقبطها، وبنهرها وبحرها، تحت قدميه. جاء الرجل الذى كان ينتظر مجيئه فسحبها من تحته، أو أسقطه من فوقها. ها هو فوق قصر الجن الذى شهد على ذكائه وجهاده ضد عثمان وابن أبى سرح يدور حول نفسه دائخًا من اللكمة التى نالها من ابن أبى طالب. كان القمر ساطعًا فى سحب الفسطاط، وعرف أنه آخر قمر يراه وهو أمير هذا البلد. صحيح أن خليفة لم يعينه عليها، لكنه هو مَن فاز بها بنفسه وبعقله وخططه. أهو قصر ملعون لمَن يقطنه؟ ألم يقل أحدهم لابن أبى سرح لمّا استفتاه رأيه فى بنيانه الشاهق، إن كان من مال المسلمين فقد أفسدت، وإن كان من مالك فقد أسرفت؟ تلك الفخامة التى ينيرها قمر فوق قصر الجن ستذوى قبل خسوف هذا القمر، إنه يفضل أن يكون آخر قمر لحياته بدلًا من هذه الضربة الطعينة التى غرسها ابن أبى طالب فى كبده. أيضع قيس بن سعد أميرًا على مصر بينما يلقيه كمضغة؟

حين عاد ابن عديس وكنانة مع جمهور ممن سافروا معهما إلى المدينة، كان قد أعد نفسه لمواجهة ابن عديس لو طمع فى ولاية مصر. أما محمد بن أبى بكر فهو يعرف قدرته ورغبته فى مصر، ولم يكن ليقطع على ابن أبى حذيفة حلمه. أما ابن عديس فهو خطر عليه لو أرادها لنفسه، لكن لم يكن يخالج ابن أبى حذيفة شك أنه سينجح فى احتوائه، فقد اشترى رجالًا من قبيلة ابن عديس ووضعهم فى مناصب بالإسكندرية والصعيد، وركب آخرين على وظائف الشرطة والمال، ودانوا له بالولاء طبعًا، ثم إن سودان وجبلة قد قُتلا عند قدمَى عثمان بن عفان، ولا يظن أن الفسطاطيين مهما كرهوا عثمان فإنهم لن يتحملوا إمارة رجل تلون سيفه بدم عثمان أو أصابت دماؤه عمامته. ثم لقد أحكم قبضته على العثمانية فى مصر، فطرد معظمهم من الفسطاط، ودفع معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد للفرار إلى قرى البحيرة والصعيد، وكلف كثيرين بتعقب خطوات بسر بن أبى أرطأة، وأرسل إلى زيد بن علقمة رسالة أمان له، ولزوجة ابن أبى سرح، شرط أن يخرجا من مصر فخرجا، وخفض الضرائب على القبط، وزار كنيستهم ليضمن هدوءهم ويحفزهم على خراج العام كى يأتى بأعظم مما كان يتحصل عليه ابن أبى سرح، بل ترك عيونًا فى كل مكان فى القلزم والعريش تحسبًا لعودة ابن أبى سرح، حتى عندما بلغه قدومه كانت سرية فى انتظاره من رجالات ابن أبى حذيفة فحاصروه ثم خيّروه بين القتل إن صمم على الدخول لمصر مدعيًا إمارته لها، وبين الرحيل عنها، وأبلغه الرجال حين عادوا تردد ابن أبى سرح وحيرته، وأنه استمهلهم يومين ليقرر، فتشاوروا وقرروا له يومًا، ثم يسمعون قراره فجر اليوم التالى.

كان ابن أبى سرح قد انتظر قبل دخوله مصر، وتمهل أيامًا يريد أن يترك لنفسه وقتًا، لعل عثمان يكون قد قضى على المصريين فيلحقهم خبر خزيان أهليهم فينفضون ويخشون غضبة خليفتهم الماحقة، لعله كان ينتظر بريدًا يأتيه من المدينة لكنه لم يصل. حاول أن يمد المهلة فلم يمهلوه، وعاجلوه بأوامر من ابن أبى حذيفة أمير مصر. كان ابن أبى حذيفة يسألهم ويتحقق منهم ويتحرى فيما بينهم عن ملامح ابن أبى سرح حين قالوا إن ابن أبى حذيفة أمير مصر. هل برزت مُقلَتا عينيه؟ هل تكدر وجهه؟ هل اغتم؟ هل كمد وانكتم وانكب؟ صنع لابن أبى سرح ألف وجه حزين أمام عينيه، ورضيت نفسه بما قدمه لها خياله، فهذا الذى استخف به واستعلى بعثمان، قد سقطت فرائصه تحت ركبتَى ابن أبى حذيفة، وقد عاقبه بزوال إمرته والاستيلاء على إمارته، بل والنوم على سرير قصره الذى كان يتقلب فيه مع بثينة زوجته الأثيرة التى اصطحبها معه فى موقعة ذات الصوارى وكأنما لترى زوجها الصنديد المُتسلطن المتآمر. ها هو لا يقدر حتى على دخول إمارته، ولا أن يرى زوجته. طلب منهم ابن أبى سرح بعدما يئس من تليينهم ومن إغاثة عثمان له أن يمكث هنا فى القلزم حتى يأتوا له بزوجته بثينة فيرحل معها غير آسف عليهم، وأكمل يكيل لهم بالمسبّات، لكنهم أجبروه على المغادرة حالًا وفورًا.

لم يجد عبدالله بن أبى سرح وهو يخرج من مصر إلا سبيلًا واحدًا يمضى به إلى الشام، يطلب غوث معاوية، ويعرف أمر عثمان. طلب من خدمه أن يوقفوا هذا الراكب، الذى بدا قادمًا من طريق الحجاز حين ذهبوا إليه ليطلبوا وقفته ومجيئه إلى ابن أبى سرح. استجاب الراكب سريعًا رغم ثقل راحلته، واقترب من سيدهم الذى بدا ممزق نياط القلب قلقًا من إجابة سوداء على سؤاله الشاحب: ما وراك يا أخ؟ أخبرنا بخبر الناس خلفك؟

رد الرجل وقد استثاره إلقاء خبره الصاعق على نزيل صحراء منعزل: قتل المصريون عثمان رضى الله عنه!

ارتج ابن أبى سرح، وانخلع قلبه، وهبط بمقعدته على حصى الأرض مبهوتًا ومأخوذًا، وقد فهم لماذا يركب الغم معه فوق حصانه منذ وصل تُخُوم مصر. تمتم وهمهم وحوقل واسترجع: إنا لله وإنا إليه راجعون».

 «والى مصر الجديد»

يكمل إبراهيم عيسى كشفه لما دار فى مصر بعد مبايعة على ابن أبى طالب أميرًا للمؤمنين، راويًا: «هذه إذن الفسطاط.. مرّ قيس بن عبادة فى الطريق المؤدى إلى المسجد، وقد وجد ابن عديس يستقبله باشًا، ومقبلًا عليه برجال يحتشدون حوله، لما رآهم عرف ما الذى كان يبغيه أمير المؤمنين حين استدعاه وأمره بأن يسير إلى مصر: لقد ولّيتكها، واخرج إلى رحلك، وأجمع إليك ثقاتك ومَن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها، ومعك جند فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المُحسن، وأشتد على المريب، وارفق بالعامة والخاصة.

قال له ساعتها: رحمك الله يا أمير المؤمنين، فقد فهمت ما قلت، أما قولك اخرج إليها بجند، فوالله لئن لم أدخلها إلا بجند حشدته معى من المدينة للفسطاط فلن أدخلها أبدًا، لا أريد أن أدخلها بجيش كأننى أغزوها، ولا بجند كأننى أعلوها، بل أمير يحمل كتابًا من أمير المؤمنين بولايتها فيخضع الكل ويأتمر، ثم أنا أدع ذلك الجند لك، فإن أنت احتجت إليهم كانوا منك قريبًا، وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عُدّة لك، وأنا أسافر مصر بنفسى وأهل بيتى، وأما ما أوصيتنى به من الرفق والإحسان فإن الله عز وجل هو المستعان على ذلك.

ها هو الآن يخوض بين زحام الفسطاط المحتشدة فى الطرقات وفوق الأسطح وعند النواصى وعلى مدخل المسجد الكبير الذى يلوح له مبناه، فى سبعة نفر من أصحابه وأهله، لا جند ولا حرس ولا موكب ولا قافلة. أيحط هذا من رهبته أمام الفسطاطيين الذين تعودوا أبهة ابن العاص وفخامة ابن أبى سرح، والذين بنوا بيوتهم ببَنائى القبط فتشاهقت عمارتهم وتباهت بناياتهم، أم يُخيفهم تواضعه وتُرجفهم شجاعته؟ يا ترى مَن فيهم العثمانية المندسون ليخبروا إخوتهم بالحال وينقلوا لهم التفاصيل؟ يدرك أن معاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد وربما بسر بن أبى أرطاة (إن لم يكن قد فر ليلتحق بابن أبى سفيان) فى مكان ما هنا بعيونهم أو بتنكرهم، ليروا ماذا سيفعل قيس بهم، لينتظروا مفاجأتى على شوك شوقهم إذن. دخل الجامع فأدرك فورًا مهارة البنائين القبط، هؤلاء الذين رفعوا أعمدة الفراعين سهل عليهم أن يبنوا للمسلمين هذا الجامع الذى لم يكن لمثله قرين، لعل ابن الخطاب لو رآه لهدمه خشية أن تكون بيوت الله ترفًا مباهاة. صعد المنبر وهو ينقر على خشبه ويتحسس نعومته، فجلس عليه، وأمسك بكتاب أخرجه من جيب فى سرواله، وفرده وتفحص المحتشدين والمترقبين والمتراصين والمنتظرين والمتوجسين والمتطلعين والراضين والساخطين والمعروفين والمبهمين، وقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبدالله علىّ أمير المؤمنين إلى مَن بلغه كتابى هذا من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم، فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد، فإن الله عز وجل بحُسن صنعه وتقديره وتدبيره اختار الإسلام دينًا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل عليهم السلام إلى عباده، وخص به مَن انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله الله عز وجل به هذه الأمة وخصهم به من الفضيلة أن بعث إليهم محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم، فعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما لا يتفرقوا، وزكّاهم لكيما يتطهروا، ورفّههم لكيما لا يجوروا، فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله عز وجل، ثم إن المسلمين استخلفوا به أميرَين صالحَين عَملا بالكتاب والسنة، وأحسنا السيرة ولم يعدوا السُنّة، ثم توفاهما الله عز وجل رضى الله عنهما ثم.

لف قيس بنظراته فى الخلق، وقد تعلقت أعناقهم بالمنبر، ها هو وصف أبا بكر وعمر، فماذا سيقول على عثمان السائح دمه بيد قوم من هؤلاء الواقفين فى الجامع أمامه؟ ثم هنا أيضًا وبالتأكيد مَن يخفق قلبه بحب عثمان، وبالولاء لأيامه سواء كان قربى أو زلفى لماله وإحسانه أو حيادًا أو حياء، وهناك العثمانية متخفون وموجودون ومتجهزون بآذانهم عند هذه اللحظة لوالى مصر الجديد الذى يأتى محمولًا بقرار من على، وحاملًا أوامره. قل إذن عن عثمان ما تريد أن تقوله يا على بلسان قيس حتى يتبين للناس الخيط الأبيض من التعس الأسود.

واصل قيس وقد فار تنور صبر الناس: ثم ولى بعدهما والٍ، فأحدث أحداثًا، فرأت الأمة عليه مقالًا، فقالوا ثم نقموا عليه فغيروا، ثم جاءونى فبايعونى، فأستهدى الله عز وجل بالهدى وأستعينه على التقوى، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسوله، والقيام عليكم بحقه، والتنفيذ لسُنته، والنصح لكم بالغيب، والله المستعان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

تمهل قيس هنا، وأخذ جولة مريحة فى وجوه الناس، ثم أكمل بصوت أعلى وأحد: وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة أميرًا، فوَازِرُوه وكانفوه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالإحسان إلى مُحسنكم، والشدة على مريبكم، والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه، وأرجو صلاحه ونصيحته، أسأل الله عز وجل لنا ولكم عملًا زاكيًا وثوابًا جزيلًا، ورحمة واسعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

فى الحلقة القادمة.. نواصل رحلتنا مع رائعة إبراهيم عيسى «حروب الرحماء»، لنكتشف المزيد من الخبايا والأسرار.