الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري
رئيس مجلس الإدارة
هبة الله صادق
رئيس التحرير
أحمد الطاهري

قراءة فى حروب الرحماء "القتلة الأوائل" - لإبراهيم عيسى : سر النداء القاطع الذى صعد من حنجرة ابن أبى طالب بأنه لا يقبل البيعة إلا فى مشهد المسجد النبوى "1"

كما عهدناه، كاتبًا فذًا، وراويًا متمكنًا، يسير «إبراهيم عيسى» فى سرده للتاريخ الإسلامى، بين صفحات روايته «رحلة الدم»، الجزء الأول من سلسلة «القتلة الأوائل»؛ لينقلنا من الفسطاط إلى المدينة، ومن حدث جَلل إلى آخر أعمق، كاشفًا أسرار الخلافات والمشاحنات والصدامات بين الرّعيل الأول من المسلمين، راسمًا الصورة الكاملة لكل مَشهد جمع بينهم؛ فى خلاف أو محاججة أو مجادلة، لنشعر أننا مشاركون فى الحدث، نتابعه عن كثب، ونتفاعل معه، مستمتعين بالتشبيهات الرائعة والتعبيرات البليغة.



 

رحلة الدم لم تنتهِ إذن.. بل إن الدم أكثر وأغزر.. لم تكن أبدًا فتنة؛ بل أعمق وأخطر.. انْسَ كل ما كنت تعرفه عن الفتنة الكبرى، فأنت تدنو من الحقيقة الآن فى سردٍ أقرب إلى الواقع وأكثر تشويقًا مع رواية «حروب الرحماء» التى استكمل بها إبراهيم عيسى مسيرة سلسلته البديعة، ليتناول السنوات اللغز فى تاريخنا الإسلامى.

فى مستهل الرواية، يؤكد إبراهيم عيسى مرَّة أخرى للقارئ؛ أن جميع شخصيات العمل حقيقية، وأن كل أحداثها تستند إلى وقائع وُردت فى المَراجع التاريخية المعتمَدة، وهى المراجع ذاتها التى اعتمد عليها المؤلف فى الجزء الأول من السلسلة «رحلة الدم»، لكن أضيف عليها: «النجوم الزاهرة فى ملوك مصر والقاهرة» لابن تغرى بردى، «موسوعة أمّ المؤمنين عائشة بنت أبى بكر» لعبدالمنعم الحفنى، «وقعة صفين» لنصر بن مزاحم، تحقيق عبدالسلام هارون، «أطلس الخليفة على بن أبى طالب» لسامى بن عبدالله المغلوث.

 «حروب الرحماء» جاءت فى 683 صفحة من الحجم المتوسط، وتمتد أحداثها فى الفترة ما بين مبايعة على بن أبى طالب خليفة للمسلمين، وصولًا إلى «الاقتتال الأهلى» الذى وقع إثر ذلك، وما جرى فى سبيله من معارك وفتن تاريخية مثيرة للجدل، مثل موقعة الجمل وصفين وواقعة التحكيم الشهيرة بين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان، وتستلهم الرواية كما هى الحال فى «رحلة الدم» وقائع التاريخ الإسلامى التى لا يزال أثرها ممتدًا حتى يومنا هذا، رُغْمَ مرور أكثر من 1400 عام على حدوثها، وتضفى عليها بُعدًا روائيًا ودراميًا شائقًا، ولا تكتفى بسرد ما جرى وفقًا لما هو متداول؛ وإنما تفتش فى الكتُب والبحوث الموثقة والمعتمَدة، وما وراء المرويات، وتسعى لأن تقيم بناءً روائيًا موازيًا للتاريخ الإسلامى المدوّن فى كتب التاريخ، وكأن إبراهيم عيسى أراد أن يكتب تاريخًا جديدًا للصراعات الخفية والمؤامرات المستترة التى تناقلها الكثيرون طوال قرون؛ دون محاولة للاشتباك، سواء بالربط أو التفسير.

 «علىّ أميرًا للمؤمنين»

بعد مشهد طعن عبدالرحمن بن ملجم لأمير المؤمنين على بن أبى طالب، يعود إبراهيم عيسى بالزمن لخَمس سنوات؛ ليكشف عن كواليس مبايعة علىّ أميرًا للمؤمنين، ساردًا: «حين مشى حكيم وراء الزبير بن العوام ناحية المسجد، كان يتلفت ويُهمهم لاهثًا سائلًا الهواء القائظ الذى لا يطيقه: تُرى ماذا فعل الأشتر مع طلحة؟

كان حكيم بن جبلة جهمًا، جلمودى الملامح. حين يُعبّر بوجهه أو يفصح بكلماته؛ فثمة فحيح غضب ما، غامض لكنه مؤكد. لعل هذا ما جعل عبدالرحمن بن ملجم يسير خلفه، متحمسًا معه، منضويًا إلى صحبة من الرجال القادمين من البصرة والكوفة، تحلقوا حول حكيم، وانضموا إليه دون أن يشعر أو يشعروا لمّا قال، وهو واقف قبالة على بن أبى طالب، إنه كفيل باصطحاب الزبير لمبايعته فى المسجد. بدا ما قاله على بن أبى طالب ثقيلًا على سمع وقلب ابن ملجم، لكنه تخَفف منه بحماس كنانة بن بشر وعبدالرحمن بن عديس، وهذا الاتباع الراضى من محمد بن أبى بكر. هذه الوجوه هى أمانُه منذ جاء من الفسطاط إلى المدينة، وهو أمانتهم، فكيف له الآن أن يستغرب من كلام علىّ ما لم يستغربوا؟! نعم هو لم يبتلع النداء القاطع الذى صعد من حنجرة ابن أبى طالب بأنه لا يقبل بيعتهم إلا فى مشهد المسجد النبوى، ثم سأل عقب ذلك الصمت الثقيل عن الزبير وطلحة كى يشهدا البيعة ويبايعا. سأل ابن ملجم نفسه: أهذا الجمع المجموع فى بيت ابن أبى طالب من أمّة المسلمين ومن الثائرين الذين خلصوا الناس من عثمان؛ مُنتهك الشرع وهادم حُكم القرآن، لا يكفونه للبيعة ولأن يقبلها؟ أهم آحاد الناس وعامتهم ودهماؤهم بينما الزبير وطلحة وابن أبى وقاص وابن مسلمة هم السادة؟ وإذا كانوا يتنازعون بينهم، وها هم قلوبهم شتى، فمَن ينبئ عليّا أنهم رايات الحق دون غيرهم؟ ألم يكن عثمان صاحبهم وحرّضوا ضده وحاصروه بالصمت والرضا معهم؟ ألا نكفيه نحن ويكفيه مَن يكافئه من صحابة رسول الله؟ أين هى أسنان المشط لنقيسها يا أمير المؤمنين الذى لا يريد بيعة من المؤمنين قبل سادات قريش وبطون مكة؟ ثم لماذا البيعة فى المسجد؟ أهى لشهود العيان أمْ للأعيان؟

قال له حكيم مُغلظًا فى القول حين سمع منه استغرابه مهموسًا قلقًا مدهونًا بأسئلته تتجول بحروفها بين شدقيه: ألم يبايع المهاجرون والأنصار أبا بكر وعمر وعثمان فى المسجد بين الناس؟ فليس لعلى بن أبى طالب إلا أن يتلقى البيعة منهم فى ذات المكان حتى يكون الله والناس شهداء عليهم.

كان ابن ملجم يحاول الرد حين قال: وما أهميتهم ما دُمنا قد بايعناه؟ وهل يملك هؤلاء إمرة أو عُلوًا علينا وعليه، أمْ هم مأمورون بالجماعة وبالبيعة؟

لكنّ حكيمًا قطع وصل كلامه حين وقفوا أمام دار الزبير: لست أعلم بالأمر منك يا حافظ القرآن، لكننى لا أهتم بما تهجر وتهجو وتُهيج، أنا أنفذ ما اتفقت عليه مع الأشتر، وحين نعود أعِد عليه هجوك وهجومك بعيدًا عنّى!».

 «غضب الزبير»

يكمل إبراهيم عيسى كشفه لأسرار مبايعة أمير المؤمنين، راويًا: «طرَق الباب العالى العريض الثقيل بمطرقة حديدية مثبتة عليه. صعد ابن ملجم بنظراته إلى أعلى السور وخشب الباب، فأدرك أنها دار أكبر مما كانت لدى الزبير فى مصر. وحين دلفوا داخلها تيقن أنها أوسع وأرحب وأثرى وأغنى بالشجر والزرع والفاكهة والنخل والأعناب، فقط لم يأتِ بالسلّم الخشبى الذى يضعه فى دار الفسطاط ليضعه عند مدخلها، هل نسيه وقد مرّت سنوات على حصن بابليون حين استسلم لجيش ابن العاص مفتوح الأبواب خالى الفناءات والأقبية، بينما الزبير حانق لأنه لم يرفع فيه سيفًا ولم يرُق فيه دمًا؟ وهل أراقوا دمًا أو أريق لهم فى سِنى غزو مصر أصلًا؟ أهذه الدعة هى التى طلعت قطوفها فى دار المدينة الزبيرية، فصار للزبير هنا فى مدينة رسول الله الذى لم يسكن إلا غرفة، إحدى عشرة دارًا، تلك الدار التى نعبر سُورها أكبرها، لكن ليست أغلاها؟

دخلوا دون أن يستمهل حكم رفاقه لانتظار الإذن، وقد قام الزبير وابنه عبدالله وواحد من أهله وبضعة من عبيده مفزوعين لهذا الاقتحام، لكنّ حكيمًا لم يعر للفزع اهتمامًا. تأمل ابن ملجم وجه الزبير وقد تنكد وتعكر بياض عينيه بحمرة غطيسة، كان يكتم غضبًا، وكانت زمجرته المكبوتة غيضًا من فيض غيظه. تذكر عبدالرحمن بن ملجم يوم رماه الزبير باحتقار وتأفف أمام سور الإسكندرية، لا تزال نظرة الزبير إلى ابن ملجم كأنه بعوضة تعلقت بطرَف كمّه ينفضها بخنصره، تجرحه بمرور الليالى، وها هو يوزع ذات النظرة على حكيم وأصحابه الذين اقتحموا بيته.

كان حكيم مقتضبًا متخشبًا فى كلماته للزبير، حتى بدت لابن ملجم كأنها أمر وجبر: هى لمبايعة صاحبك فى المسجد.

كانت حركة حكيم بيده يمسح بها على سيفه، وقرقعة السيوف فجأة على خصور البصريين والكوفيين المرافقين، تذيع فى بهو الدار المزينة والمفروشة بالمصريات والشاميات والعراقيات واليمنيات من البسط والسجاجيد والستائر والأرائك، سياطًا من الرهبة.

شخط عبدالرحمن بن الزبير: كيف تأتينا فى دارنا وتهرف بمثل ما تقول يا حكيم؟

رد حكيم: وهل دعوتكم لمبايعة خليفة المسلمين صاحب نبيه وابن عمّه هرف يا عبدالله؟

ثم لم يدع عبدالله يرد أو يعقب: ثم ما الذى جاء بك إلى هنا تاركًا بيتك فى المدينة؟ أتجتمع إذن مع أبيك، فلا أظن أنك هنا لتصل رحمك؟.

حاول عبدالله أن يفعل شيئًا حين زام بصوته، فعاجله حكيم بالدخول برأسه حتى صدره بحدة مَن لا يطيق صبرًا على المشاهدة: إذا لم تكن ستأتى مع أبيك يا عبدالله فلا تعطلنا.

تجمّد عبدالله بنظرة من والده الذى مضى للباب نافضًا ردء عباءته ووراءه الجمع خارجين، وقد لحق بهم عبدالله متجاوزًا الصفوف حتى وصل فى هرولته لمكان أبيه، وقد أوشك على الالتصاق به بعد مسافة من المشى المهرول عند مشارف المسجد، لكنّ حكيمًا حجز بينهما بجسده الضخم وتوسطهما، كأنه لا يريد همسًا يتبادلانه. كان الزبير ينظر شزرًا إلى حكيم، مكفهر الوجه، ومكظومًا، وئيد الخُطى، ثقيل الرأس بأسئلة الأفكار الحائرة، هل هكذا تخلى عنه العراقيون ولن يقدموه للبيعة أبدًا؟ إذن لقد حط اختيارهم على علىّ بن أبى طالب! ألهذه اللحظة النكدة سُر فؤاده حين قدم البصريون ثائرين على عثمان ظانًا ظن الهوَى أن العراقيين مُلاقوه بهواهم، فإذا بهم حين يقتلون عثمان يقتلون حظ وثوبِه مقعده، ولكن السؤال الغارس شوكه فى صدر الزبير: هل سيبايع طلحة عليًّا معه أمْ يغيب ويتغيب؟

كان آخر ما تركه فى رأسه قبل أن ينشغل بخلع نَعليه ودخول المسجد المكتظ بالناس، هو كيف فاز المصريون بمرشحهم على بن أبى طالب، رُغم أن العراقيين كانوا موزعين بينه وبين طلحة؟ هل هو عمار الذى لم ينسَ يوم أحجار الزيت؟».

 «مبايعة أمير المؤمنين»

يواصل إبراهيم عيسى وصفه للأجواء التى شهدتها المدينة ليلة مبايعة علىّ بن أبى طالب للخلافة، ساردًا: «عندما رأى الأشتر الزبير فى المسجد وقد سبقهم، تهلل وبحث عن حكيم، فلما رآه ابتسم له فرحًا، بينما كان حكيم متجهمًا، منقبض الملامح، لا يفهم لماذا يبتسم الأشتر له، ولماذا يبدو سعيدًا به هكذا. التفت وبحث عن علىّ بن أبى طالب وسط المتدافعين، وهو يحيط الزبير بذراعه يحول بينه وبين ابنه، متجهًا به إلى تلك الناحية التى يتحلق الناس فيها حول علىّ الواقف عند المنبر، لكن الأشتر كان قد شق طريقه أسرع وهو يصحب طلحة معه إلى علىّ الذى رآهما فتبسم واستبشر، وقد أقبل عليه طلحة بصوت مجلجل سَحب أسماع كل المسجد إليه: ابسط إلىّ يدك يا علىّ لأبايعك.

كان طلحة قد رأى هذه الحشود تحتضنه وتحيطه وتحاصره وتحشره، فأنهت لجلجة عقله، ونادى عليًا ليبايعه، وحين بسط علىّ يده ناحيته مد طلحة يده إليه. لحظتها خبط الكمد قلب الأشتر، فقد رأى يد طلحة المشلولة هى التى تقبض على يد علىّ تبايعه. أبيعة شلّاء أول ما بُويعت يا علىّ؟

دوت الصيحات المبايعات، والأيادى والأكف المصافحات، وكان اندفاع الناس يسوق الزبير حتى وصل إلى علىّ فصافحه وبايعه. وكان الأشتر وقيس بن سعد ساعتها يَذُبّان الناس عنه، ويصنعان حلقة حول الزبير مع علىّ كى يشهد القوم فى تهليلهم الثمل الزبير وهو يعلن بيعته.

حين سَحب الزبير يده ضاقت الحلقة وانكسر الفراغ المحيط به بالناس اللاهثة، فوجد الزبير نفسه أمام طلحة، الوجهان لا يكتمان النظرات المستفهمات المستغربات المتحاورات المستسلمات المستكينات المستمهلات. أكان إذن هو السلام مع علىّ أمْ التسليم له؟ هل هو تنسم الهدأة أو تسلى اللحظة؟ هل التسامى على الواقع أو المسايرة للواقعة؟ هل هو التنازل المؤثر أمْ هى المنازلة المؤجلة؟ كانت تلك كلها أسئلة الأشتر حين ضبط هذا الفاصل بين الزبير وطلحة يضيق فيلتقيان ويخرجان من المسجد، بينما الدفعات المندفعات القادمات من البشر تتزايد وتتكدس. حين تجاوزا العتبة كان علىّ بن أبى طالب قد بدأ خطبته الأولى أميرًا للمؤمنين، وقد تمكن رُغم الزحام من اعتلاء المنبر. كان الزبير يسأل ابنه: لماذا لا أرى سعد بن أبى وقاص ولا محمد بن مسلمة؟

قبل أن يجيب ابنه رمى محمد بن طلحة بكلماته، وهو ينظر إلى أبيه ثم إلى الزبير فى نبرة متبرمة: اختفيا مع غيرهما، فلم يحضرا البيعة حشرًا ولا حشدًا.

قال طلحة: أوَيصمت عليهم علىّ؟..

ما كان منهم جميًا إلا أن عادوا فاشرأبوا بأعناقهم فوق أكتاف القوم ليسمعوا خطاب علىّ، فلم يصل إليهم إلا صيحته: أيها الناس، فليرجع كل إلى بيته، واتركوا شوارع المدينة لأمنها وأهلها. أيها الناس عودوا إلى بلادكم وأمصاركم وجهادكم وأهاليكم. أيها الناس اجمعوا عبيدكم من المدينة وليلزموا بيوتكم للسقاية والزراعة والرعى، برئت الذمة من عبدٍ لم يرجع إلى مواليه. أيها الأعراف عودوا إلى مياهكم وصحرائكم وأخلوا المدينة.

همس طلحة فى أذن الزبير: هل سيطيع هؤلاء عليّا وقد دفعوا يده، ورموا قِربته، حين حاول أن يمنح عثمان شربة ماء، وعصوا كلمته؟ أيوافقون اليوم ويستجيبون له؟

لم يرد الزبير، وتشاغل عن طلحة بتفحص وجوه الأعراب والعبيد ومحاصرى عثمان. تشمم رائحة صدمتهم فيما طلبه علىّ، فالتفت توًا إلى طلحة: هيا بنا لنسبق عليّا إلى داره.

قالها مغموسة بتوعد مَن عزم أمره، فلما وجد أمامه حكيم بن جبلة بجهامته واقفًا كجذع نخلة طلع لها رأس، صحح متعجًلا: لننتظر أمير المؤمنين فى بيته يا طلحة..

أسرع عبيد الليثى لاهثًا ومتحمسًا، وجرى خلفه عبدالرحمن بن ملجم. دخل عبيد بيتًا وخرج منه حاملًا وسائد للجلوس، فاستقبله ابن ملجم وحمل عنه بعضها، وقد قال عبيد وهو يركض: هلم، فإن البيت اكتظ بالناس وهم وقوف.

وصلا دار علىّ بن أبى طالب فاستقبلهما الحسن، أدخلهما الدار، وعبيد يقول: لقد جئت بها من دار قيس بن عبادة كما طلبت منّى. حين اندسا بين الوقوف، وجد كلاهما الزبير وطلحة بوجهين مضرجين بالقلق، يجلسان على وسادتَى القش الوحيدتين فى الغرفة الخالية من العفش والفرش، ويقعد علىّ بن أبى طالب فوق التراب متربعًا ومستندًا على حائطه الطينى يرسم إصبعُه بقشة من حطب دوائر على الأرض، ويقعد قريبًا منه أو لصيقًا به على الأرض عمار بن ياسر وعيناه متربصتان بالزبير وطلحة، متأهبًا لهبّة فى أى لحظة، مستثارًا ومستغربًا من حضورهما المتعجل لأمير المؤمنين دون أن يتركاه يريح ظهره بعد مشقة اليوم. بينما كان عبدالله بن الزبير ومحمد بن طلحة يُوسّدان الوسائد المجلوبة ويجلسان عليها، ولبث الحسين خلف والده واقفًا فى مكانه، وظل قيس ومحمد بن أبى بكر فى وقفتهما عند عتبة الغرفة، بينما وضع الحسن وسادة لعبدالله بن عباس ليستريح عليها: اجلس يا عبدالله لترتاح من تعب رحلتك.

كان ابن عباس لا يزال بعَرقه قادمًا من مكة، بعدما حج بالناس بأمر من عثمان قبيل مقتله بأيام. لم تكن ملامحه مستقرة على مشاعر لتظهرها، فترك نفسه لإرهاقه ينصت إلى هذا الصمت الذى ما أراد الزبير ليقطعه إلا بإشارة راجية متدللة للحسن أن يبعد هذين عنه، لم يكن هذان إلا عبيدًا وابن ملجم، اللذين لم يبرحا الدار منذ عودة علىّ بن أبى طالب من المسجد مبايعًا بالخلافة. فهم قيس بلامعته مراد الزبير، فنادى على عبيد بيده، وحين وصل إليه سمع منه ففهم غرضه، فعاد ممسكًا بيد ابن ملجم ليخرجا، فعانده الأخير، فهمس له: لنحضر للصحابة شيئًا من ماء يا ابن ملجم.

خرج معه متذمرًا، لكن عبيدًا سَحبه إلى كوة فى الدار خلف الغرفة، فتربعا فيها بينما يتسمعان ما يجرى ويتابعان هذه الحشود التى تتفرق من الشوارع وتتناثر مبتعدة، وقد سمع بعضهم نداء علىّ بالعودة إلى ديارهم فلبوا، بينما تلكأ بعضهم، وكان ابن عديس وكنانة قد أخبرا ابن ملجم بأنهما يعتزمان تجميع الخمسمائة مصرى للعودة فى قافلة من الغد، فرد عليهم ابن ملجم: لن أترك أمير المؤمنين، ولم تعد لى حاجة بفسطاطكم».

فى الحلقة التالية، نكمل رحلتنا فى رائعة إبراهيم عيسى «حروب الرحماء»؛  لنكتشف كواليس وأسرار التاريخ الإسلامى.